د. زهدي الشامي يكتب: الصناعة المصرية.. الواقع والمشكلات وإمكانيات التطوير (2)
بينما يوجد اليوم شبه اعتراف عام بضرورة أن تكون الصناعة، بمعنى الصناعة التحويلية، هى القاطرة الحقيقية للتنمية الاقتصادية للبلاد، فمازال الوضع الراهن والسياسات الاقتصادية المتبعة بعيدين عن إمكانية تحقيق ذلك الهدف، الذى يتطلب الوصول له تغييرات كبيرة فى السياسات المتبعة ووضع استراتيجية متكاملة للتنمية المعتمدة على التصنيع.
ثانيا : نحو برنامج للنهوض بالصناعة
استعرضنا فى الجزء السابق مسار الصناعة المصرية، والاختلالات الهيكلية والمشكلات العميقة التى تعانى منها والمسار الهابط الذى شهدته فى السنوات السابقة مما يعمق الاختلال والتشوه العام للاقتصاد المصري، ما يستدعى تدخلا تصحيحيا واسعا لمعالجة الخلل وتطوير الصناعة والاقتصاد.
أ – نحو حلول عاجلة لأزمة الصناعة المصرية.
نظرا لوجود أزمة ملموسة فى الصناعة والاقتصاد المصرى، ورغم أن الأزمة فى جذورها هيكلية وعميقة، فإن هذا لا يمنع البدء بحلول عاجلة لمعالجة الأوضاع الراهنة على المدى القصير. ويمكن اجمال أهم المقترحات فى هذا الصدد على النحو التالى :
١- معالجة مشكلات مصانع القطاع الخاص المغلقة من أجل العودة لتشغيلها. ومن الجدير بالذكر أن الارقام فى هذا الصدد متفاوتة، وكانت تشير لحوالى ٤ آلاف مصنع فى فترة ثورة يناير، إلا أنه وفقا لبعض المصادر قد ارتفع لحوالى ١٠ آلاف مصنع فى الوقت الحالى. ومن المهم الحصر الدقيق لهذه المصانع ودراسة أسباب تعثرها ان كان لأسباب بيروقراطية أو تمويلية أو تسويقية أو غيرها، ومعاونتها للخروج من هذا التعثر بمساعدة الدولة والبنوك، لأن تشغيل تلك الطاقات العاطلة يعد استثمارا مجزيا له عائد سريع ومرتفع. ولو كان قد تم توجيه جزء من الموارد التى أنفقت على العاصمة الجديدة والكبارى والطرق وغيرها لتلك المصانع لتم إقالة عدد كبير منها من عثرتها.
٢- التوقف الفورى عن سياسة الخصخصة والتصفية للشركات العامة الموجودة، واحياء الشركات التى تعرضت للإهمال المزمن. ولابد من الأخذ فى الاعتبار أن تحديث الشركات الصناعية القائمة بالفعل أقل تكلفة كثيرا من إقامة شركات جديدة.
ولا شك أن إعادة تأسيس شركة جديدة لإنتاج الصلب بدلا من الشركة الوحيدة التى كانت تنتجه يتكلف مبالغ طائلة فضلا عن إهدار الخبرات البشرية الموجودة حاليا والتى سيصعب تعويضها. كذلك فتطوير شركات كسيماف والنصر للسيارات من شأنه أن يوفر مبالغ طائلة بالعملة الصعبة ننفقها فى استيراد كافة وسائل النقل من عربات سكة حديد ومترو وأتوبيسات وسيارات.
٣- بحث أوضاع الصناعات الصغيرة والحرفية والإسراع بتطويرها وربطها بالصناعة الكبيرة وتوفير التمويل البنكى لها بحصة مناسبة بدلا الانحراف بمبادرات تمويل الصناعات الصغيرة عن مضمونها بتعريفات مطاطية لا تتيح حصول صغار المنتجين عمليا على التمويل المطلوب.
٤- قيام الدولة ومؤسسات البحوث الإقتصادية بإعداد دراسات جدوى اقتصادية للمشروعات الصناعية، وخاصة الصناعات التى تتمتع فيها مصر فيها بمزايا نسبية.
وتكون أهداف تلك المشروعات البحثية وضع خرائط استثمارية تعالج خلالها كافة المعوقات أمام انطلاق تلك الصناعات وتقديم الحوافز الاستثمارية اللازمة لتشجيع الاستثمار فى تلك الصناعات.
ب – استراتيجية تطوير الصناعة على الأجل المتوسط والطويل.
١-يتبغى أن تحتل تنمية الصناعة التحويلية بالذات المكان المحورى فى جهود التنمية الاقتصادية، ولابد من زيادة معدلات النمو الصناعى بالذات، ومضاعفة الوزن النسبى للصناعة من المعدل المنخفض الحالى (حوالي ١٥ %) ليصل إلى ٣٥ % من الناتج المحلى الإجمالى، حتى يمكن أن نقارن أنفسنا بالدول حديثة التصنيع.
٢- أن ذلك لا يمكن تحقيقه فى ظل معدلات متناقصة للاستثمار فى الصناعة. ولابد من رفع كل من معدل الادخار والاستثمار المحلى عموما من المعدلات المتدنية الحالية والتي تدور حول ما يقرب من ٣%، فقط للادخار وأقل من ١٥ % للاستثمار، لتصل للمتوسطات العالمية المقبولة للدول متوسطة الدخل بحيث لا تقل عن ٢٥ %.
ويجب مع ذلك إعادة توزيع الاستثمار نحو زيادة نصيب الصناعة والتعليم فى إجمالى الاستثمارات وتحجيم الانفاق على البنية التحتية الانتاجية التى تستحوذ على نصيب متزايد للغاية من إجمالى الاستثمارات يصل فى خطة العام القادم ٢٠٢٢-٢٠٢٣ وفق وزارة التخطيط إلى ٤٢.١% مقابل ٢٨.٣ % فقط للقطاعات السلعية.
٣- إن نموذج التنمية الصناعية المنشود يستند إلى إشباع الإحتياجات الأساسية للمواطنين المصريين، لا يعنى ذلك المحافظة بأى ثمن على إنتاج غير كفء وغير اقتصادى مثلما نشاهد فى نموذج احلال الواردات. من الضرورة لتجاوز سوءات النموذج المذكور الانتقال من الحماية الدائمة والمطلقة إلى الحماية المحدودة والمتناقصة.
ومن ناحية أخرى فإذا كان نموذجنا المنشود يتضمن قدرا من المنافسة الخارجية للمنتجات المحلية، كما يتضمن فى نفس الوقت توجها تصديريا بالضرورة للوصول لهيكل صناعى لايعانى اختلالا فى ميزانه التجارى مع الخارج، فإنه يختلف عن نموذج النمور الأسيوية المستند إلى التخصص للتصدير فى ظل اندماج واسع فى السوق العالمية، والذي نرى أنه هو الآخر تم فى ظروف دولية محددة غير قابل للاستنساخ الحرفى فى مصر.
٤- أن التغيير والتحول الهيكلى المطلوب فى الصناعة التحويلية يتطلب تحولا من التركيز على الصناعات الخفيفة والاستهلاكية إلى الصناعات الثقيلة وصناعة المعدات والسلع الاستثمارية من معدات وآلات وسلع وسيطة.
كان من الواجب بشدة فى وقت كنا نحتاج فيه لمحطات الكهرباء المحافظة على شركة المراجل البخارية بدلا من خصخصتها وتحويلها لأراضى عقارية، واستيراد محطات الكهرباء كاملة من الخارج.
وفى وقت نستورد فيه كل معدات النقل والسكة الحديد والمترو بمئات المليارات من الدولارات، كان من الواجب المحافظة على شركة الحديد والصلب، وتطوير شركات سيماف، والنصر للسيارات، وكان من الممكن والواجب أن تكون مجموعة الشركات تلك محور عملية التصنيع الشامل والمعمق فى مصر، بدلا من تفكيك الصناعة.
٥-أن دور الدولة يظل أساسيا فى التنمية الصناعية الجادة فى مثل الظروف التى تمر بها كدولة ناشئة. لايعنى هذا الدور بالضرورة ملكية الدولة لكل المشروعات والقطاعات، ونحن عموما مع احترام كانت عليه الدستور المصرى من وجود ثلاثة أشكال الملكية عامة وتعليمية وخاصة. ودور الدلة يعنى توجيه الدولة للتنمية والتطوير الصناعى بشكل واعى من خلال تخطيط موجه تدفع من خلاله كل الأطراف بما فى ذلك القطاع الخاص للالتزام بأهداف الخطة وتثيب وتكافئ على ذلك، وهذا ماحدث حتى فى التجربة الكورية.
ومن المهم هنا أيضا عدم التفريط فى الملكية المباشرة للدولة فى بعض القطاعات كالأنشطة الاستراتيجية والشركات العملاقة والشركات ذات الوضع الاحتكارى فى السوق كشركات المرافق العامة من كهرباء ومياه.
٦-من ناحية أخرى يتعين عدم التأخر فى الوظائف الأخرى المتعلقة بضبط السوق وخاصة منع الأنشطة الاحتكارية وانتهاج سياسات هيكلية من خلال أدوات السوق وسياسات للاستثمار الأجنبى تضمن أن يكون متكاملا مع جهود التنمية الاقتصادية فى مصر.
٧- أن الصناعة تواجه تحديا مزدوجا: استكمال الثورة الصناعية ودخول عصر الثورة العلمية التكنولوجية. وهى بذلك مواجهة بضرورة ضمان التوظيف لأعداد متزايدة، وفى نفس الوقت الدخول لمجال التكنولوجيا المتقدمة. ويرتبط انجاز المهمتين بوجود مخطط متكامل لتطوير التكنولوجيا المحلية وبشكل متزامن فى كل من التكنولوجيا الأولية والمتقدمة. إن هذه الضرورة تقتضى توجيه موارد مالية كافية، وربط سياسة التعليم والتطوير التكنولوجي والتدريب بالإنتاج، والتخلى عن عقدة النقص، والإيمان بقدرات الكوادر المحلية.
٨ – تغيير مفهوم المشروعات القومية من مشروعات خدمية ريعية أو عقارية وسياحية أو مجرد مد شبكة طرق طويلة بدون معرفة ماستخدمه فعلا، إلى مشروعات كبرى إنتاجية صناعية تستحق فعلا لفظ مشروعات قومية. ومن أمثلة ذلك :
– مشروع قومى لصناعة آلات غزل ونسيج متطورة لتصنيع منسوجات وملابس جاهزة ممتازة تصبح قوة ضاربة تصديرية عالية القيمة.
– مشروع قومى لصناعة عربات وقطارات السكة الحديدية لتزويد شبكات السكك الحديدية والمترو والترام باحتياجاتها، وتكون أيضا قادرة عل التصدير.
– مشروع قومى لتصنيع مكونات المحطات الكهربائية
– مشروع قومى لصناعة الآلات الزراعية لتطوير الزراعة المصرية
– مشروع قومى لتوسيع وتطوير صناعة الحديد والصلب والصناعات المعدنية التى تمثل الصناعة الوسيطة الأساسية فى صناعة الآلات.
٩- معالجة كافة القضايا الخاصة بمناخ الاستثمار ومن بينها التعقيدات البيروقراطية و كثرة الأعباء الضريبية والجمركية والأضرار الناجمة عن القيام بنقلات كبرى في أسعار الصرف والفائدة وزيادة معدلات التضخم بما ينعكس سلبا على التكاليف.
١٠ – ضرورة الاستفادة من كل إمكانيات التعاون والتكامل الاقتصادى العربى وتفعيله والتعاون مع بلدان إفريقيا وبلدان الجنوب.