“درب” تنشر مقال ” هذه شهادتي عن منحة كنتاكي” لمعتقلة الرأي الصحفية “منال عجرمة”


أثار برنامج تدريب الصحفيين بالولايات المتحدة الأمريكية ردود فعل غاضبة منذ الإعلان عنه في أغسطس الماضي (2003). وتصاعد هذا الغضب خلال الشهرين الماضيين أثناء تواجد الصحفيين في الولايات المتحدة. وكان مبعث الغضب الشعبي من جراء احتلال الولايات المتحدة للأراضي العراقية، اعتقاد البعض أنه توقيت مقصود منه التأثير على الصحفيين المصريين وما أطلق عليه البعض ” غسيل عقولهم”. ولأنني كنت واحدة من المجموعة التي سافرت إلى الولايات المتحدة، وشاركت في البرنامج التدريبي، فقد رأيت أنه من واجبي أن أدلي بشهادتي عن البرنامج وما أحاط به من غموض، وما شابه من عيوب.
**
في أغسطس الماضي تم الإعلان عن شروط الالتحاق بالبرنامج في جريدة “الأهرام”. وتقدمت مجموعة من الزملاء عددهم 130 صحفيا. وكانت المرحلة الأولى هي اختبار في اللغة الإنجليزية أجرى في الجامعة الأمريكية، وحضره 90 صحفيا نجح منهم 54. ثم جاءت المرحلة الثانية، وهي المقابلة الشخصية التي أجرتها لجنة مكونة من الأساتذة: سلامة أحمد سلامة والدكتور أسامة الغزالي حرب وكمال عبد الرؤوف، والدكتور حمدي حسن رئيس قسم الصحافة بمعهد ” الأهرام ” الإقليمي وأسامة سرايا والدكتورة هويدا مصطفى كمراقبين من معهد “الأهرام”. وفي اليوم الأول إنضم للجنة ” فيليب فيري” الملحق الصحفي بالسفارة الامريكية بالقاهرة. وفي اليوم التالي “جري برنابي” ممثلا لجامعة غرب كنتاكي.
وبموجب المرحلتين تم اختيار 25 صحفيا وصحفية. و إحقاقا للحق أقول أن اللجنة التي اختارت الذين سيشاركون في البرنامج كانت محايدة تماما، وكان اختبارها للصحفيين اختبارا حقيقيا وليس صوريا، روعي فيه أن تكون جميع الصحف ممثلة ” قدر الإمكان”، حيث كانت إجادة اللغة الإنجليزية هي المعامل “المبدئي” في الاختيار.
بدأت الإجراءات الخاصة بالسفر متزامنة مع مجموعة من المحاضرات التي أعدت للتحضير للبرنامج الذي سيبدأ في الولايات المتحدة أواخر شهر أكتوبر. وهي تسع محاضرات شارك فيها أساتذة كلية الإعلام جامعة القاهرة وبعض رؤساء تحرير الصحف المصرية والذين كان لهم خبرة في الصحافة الأمريكية. وكان بعض هذه المحاضرات جيدا وبعضها ضعيفا. ولكن المناقشات التي دارت بين المحاضرين والصحفيين كانت الأكثر فائدة بالنسبة لنا. ولأن الحصول على تأشيرة الولايات المتحدة يتطلب وقتا طويلا ـ نظرا للظروف الأمنية والاجراءات المشددة التي تفرضها الولايات المتحدة بالنسبة للذكورـ فقد تم سفر 13 صحفية واثنين فقط من الصحفيين.
والمشكلة التي واجهتنا خلال شهر ونصف الشهر ـ فترة الاعداد للسفر ـ هي أن المعلومات التي كانت متاحة لنا عن المكان الذي سنذهب إليه والبرنامج المعد كانت شحيحة للغاية. وكنا كلما سألنا عن شئ قيل لنا سوف نسأل ونخبركم!. وكانت وسيلتنا أو الوسيط بيننا وبين مسئولي البرنامج في الولايات المتحدة هي سكرتيرة شركة ” إنترنيوز” بالقاهرة، وهي الشركة المنوط بها تنفيذ البرنامج. وقبل السفر بأسبوع واحد، عرفنا اسم الفندق الذي سنقيم فيه وظروف الإقامة والإعاشة، أما البرنامج التدريبي فلم نعلم عنه شيئا إلا قبل السفر بأربعة أيام. وكانت المعلومات عبارة عن جدول للأسابيع الثمانية التي سنقضيها في الولايات المتحدة، لم يراع فيها أننا سنبدأ صيام شهر رمضان مع بدايته، وملغي فيه الإجازات الأسبوعية. وهي ما اعترضنا عليه بشدة، وطالبنا بأن يكون هناك ولو يوما واحدا للراحة. وقيل لنا أن الوقت ضيق للغاية، وعلينا الاستفادة من كل دقيقة، مما أوحى لنا بجدية البرنامج.
مفاجآت كنتاكي
بعد يومين من السفر وصلنا إلى الولايات المتحدة، واستقر بنا الحال في بلدة صغيرة تسمى “بولينج جرين”، حيث مقر جامعة غرب كنتاكي. وبدأنا البرنامج في اليوم التالي لوصولنا مباشرة. وفي الجامعة كان ” جيري برنابي” ممثل الجامعة والمشرف على البرنامج في انتظارنا ومعه “جورج بابانيوس” مدير المشروع في شركة ” إنترنيوز” و” شانون يورك” الموظف بالشركة والصحفي العبقري “بيتر لوفر”. تم التعارف بيننا وبينهم وأعطونا بعض الأوراق بها نبذة عن الذين سيقومون بتدريبنا .
وكانت أولى المشكلات التي واجهتنا هي بعض المسائل المادية التي كان منصوصا عليها في الأوراق التي قدمت لنا في القاهرة بواسطة سكرتيرة ” أنترنيوز”، وتناقشنا معهم بشأنها. وكانت جميع الإجابات عبارة عن ( هناك سوء فهم ـ هذا تفسير خاطئ). وأخيرا أخبرتني نائبة رئيس شركة ” إنترنيوز” بأن هذه الأوراق قد أرسلت لنا عن طريق الخطأ، وإنها كانت تخص مجموعتين سابقتين من كامبوديا وأندونيسيا !!. وبعد ثلاثة أيام من النقاش إحتد علينا مدير البرنامج بشركة ” إنترنيوز” “جورج بابانيوس” وقال ما معناه :” هذا مالدينا إذا كان عاجبكم”. وسكت الجميع ـ والبعض خجلا من التحدث في المسائل المالية ـ رغم أنه من حقنا مناقشتها ورغم أن المسئولين عن البرنامج لم يخجلوا من التهرب من التزاماتهم. والبعض الآخر رأى أنه لا فائدة بعد أن ” وقعت الفاس في الرأس”. ثم بدأ البرنامج التدريبي المزعوم لنجد أن مدربنا الرئيسي و الأوحد أحيانا هو “بيتر لوفر” الذي قدموه لنا باعتباره ” صحفي فلته” حائز على العديد من الجوائز. وعندما تساءلنا عن الأكاديميين باعتبارنا موجودين في مدرسة الصحافة بجامعة غرب كنتاكي أتوا باثنين منهم ليحاضرونا في أساسيات العمل الصحفي مثلما يحاضرون الطلبة في الجامعة !!، وبقية المحاضرين كانوا من العاملين في الإذاعة المحلية “لوبينج جرين”. أما عناوين المحاضرات التي وضعت في الجدول فكانت مجرد عناوين لإعطاء ايحاء بجدية البرنامج.
خلال فترة التدريب الأكاديمي الذي امتد ثلاثة أسابيع كنا قد اكتشفنا الخدعة الكبرى والشرك الذي وقعنا فيه وعدم جدية البرنامج الذي كان يصلح بالكاد للصحفيين المبتدئين، علما بأن القائمين على البرنامج كانوا قد حصلوا على سيرة ذاتيه للمشاركين والتي توضح تخصص كل منا وسنوات خبرته، بالإضافة إلى بيان قام بإعداده الدكتور حمدي حسن بالقاهرة وأرسله لهم يتضمن الجوانب التي يحتاج كل صحفي إلي تنمية مهاراته بها. ومع كل اعتراض كنا نبديه كان يتم تغيير الجدول عدة مرات ـ عدد مرات التغيير كان حوالي تسع مرات ـ محاولين اقناعنا بأن التغيير يتم نزولا على رغبتنا. ولكن في الحقيقة كان يعكس تخبط القائمين على البرنامج، وأنه لم يدرس جيدا ولم يوضع على أساس علمي صحيح. وهو ما اعتبره نتيجة طبيعية لأن منفذي وواضعي البرنامج من غير المتخصصين في مجال الصحافة المطبوعة. وكانوا مجرد عاملين ومذيعين في إذاعة صغيرة جدا وشديدة المحلية في بلدة صغيرة، وليست حتى مدينة كبيرة من مدن ولايات كنتاكي !!. والغريب في الأمر إنهم عندما عرضوا هذا البرنامج في مرحلة الاتفاق عليه اعترض الدكتور حمدي حسن، وأرسل لهم تعديلا يشمل الجوانب التي يجب أن يعطيها البرنامج واحتياجات الصحفيين والخبرات التي نحتاج إلى اكتسابها، ولدي صورة من هذا التعديل . ولكنهم لم يأخذوا بها رغم أنهم وعدوا بأخذها في الاعتبار.
أما المفاجأة الكبرى فكانت اكتشافنا من خلال البحث على شبكة الإنترنت إن الصحفي الوحيد الذي كاد يكون المدرب الوحيد والمدعو ” بيتر ديفيد لوفر” كان يعمل صحفيا في مطبعة ” بنت هوس”، وهي مطبوعة إباحية !!. أما الجوائز التي حصل عليها فهي جائزة من منظمة ” بناي بنيث” الصهيونية ذائعة الصيت عن كتاب ” الهجرة الجماعية إلى برلين”، وهو عن الهجرة اليهودية من روسيا إلى ألمانيا.
التدريب العملي
كانت الأسابيع الثلاثة التالية مخصصة للتدريب العملي في الصحف الأمريكية. وكانت هذه الصحف في ولايات الألباما وكنتاكي وأوهايو، حيث تم إرسال اثنين من الصحفيين لأحدى صحف بهذه الولايات. وكانت المفاجأة التالية هي أن بعضنا ـ وأنا منهم ـ قد أرسل إلى صحف ليس فيها التخصص الذي نمارسه. والمفاجأة الأخرى أن هذه الصحف التي أخبرونا أنها متوسطة الحجم ـ من حيث الانتشار ـ هي صحف شديدة المحلية، كل اهتمامها ينصب على ما يجرى داخل المدينة من أحداث تصل إلى حد السذاجة لدرجة أن زميلتين أطلقتا على الجريدة التي ذهبن إليها ” البعكوكة”.
بعد ثلاثة أسابيع عدنا مرة أخرى إلى ” بولينج جرين” ولأن شكوانا خلال فترة التدريب الأكاديمي والعملي كانت عديدة وموضوعية، فقد رأى القائمون على البرنامج أنه من الضروري إعطائنا مسكنا قويا، وهو قضاء الأيام الثلاثة الأخيرة في واشنطن العاصمة بدلا من قضاء أسبوعين لتدريبنا على كيفية أن نصبح مدربين اختصرت إلى أسبوع واحد.
وفي واشنطن وجدنا برنامجا منظما جدا ـ على غير العادة ـ لزيارة معالم المدينة السياحية، ومقابلة بعض العاملين في وزارة الخارجية كان أهمهم “ويليام برنز” السكرتير المساعد في مكتب الشرق الأدنى بوزارة الخارجية الأمريكية.
هل تعترفون بإسرائيل؟
أما المفاجأة التي كانت في انتظارنا في “بولينج جرين”، فكانت تحديد موعد للقاء السيناتور ” ميتش ماكونيل”، وهو عضو الكونجرس عن ولاية كنتاكي والمسئول عن لجنة المنح والمساعدات في الكونجرس. جاء إلينا السيناتور في الجامعة مهاجما. وحيث كنا قد حصلنا على معلومات عن توجهاته السياسية وتصريحاته المعادية لمصر في الصحف الأمريكية عن طريق الإنترنت، فقد استطعنا أن نرد هجومه بمواجهته بتصريحاته المعادية لمصر. ووصل حد الاستهانة بعقولنا وتحدي مشاعرنا الوطنية بمحاولته إعطائنا دروسا في كيفية تناول العمليات الاستشهادية في الأراضي الفلسطينية المحتلة لتسميتها عمليات انتحارية والمقاومة الشعبية في الأراضي العراقية على أنها حرب عصابات إرهابية، مثلما أطلقوا على المقاومة في فيتنام “حرب غوريللا”.
ووصل الاستفزاز إلى أبعد مدى عندما وجه سؤاله قائلا ألا تعتقدون في حق الإسرائيليين في الوجود؟!، وأجبته بأنه قبل عام 1948 لم يكن هناك ما يسمى بإسرائيل، وأن من يطلقون عليهم الإسرائيليين كانوا مواطنين من أوروبا و أمريكا وروسيا وأفريقيا والشرق الأوسط تركوا بلادهم وجاءوا ليحتلوا الأراضي الفلسطينية !!. فلم يجب على كلامي، وانتقل إلى موضوع آخر. وكان واضحا أن كل ما يهمه هو توجيه رسالته المدافعة عن إسرائيل. وكانت آخر المفاجآت اكتشافنا أن منحة التدريب التي سافرنا بموجبها للولايات المتحدة كانت تحت رعاية السيناتور “ماكونيل”، الذي يتولى مهمة (فاند ريزينج / مكتوبة بالإنجليزية) رفع للتمويل لجامعة غرب كنتاكي حيث مقره الانتخابي وشركة ” إنتر نيوز” التي تأسست في أوائل القرن العشرين، وأصبحت تسيطر عليها الحكومة الأمريكية !!.
التجسس على الصحفيين
واستكمالا للأحداث المؤسفة. وكأن ماحدث لايكفي. علمنا علم اليقين أننا خضعنا لعملية تجسس منظمة حيث ضبطنا رسالة ـ معي نسخة منها ـ أرسلتها إحدى المضيفات إلى “جيري برنابي” ممثل جامعة غرب كنتاكي بعنوان ( بيج نيوز / مكتوبة بالإنلجيزية) أي (الخبر الكبير ) تقول فيها :” حيث أنه قد طلب منى أن أخبرك عما يفعله المصريون، فإنهم يقولون كذا .. وكذا”. وهذا يعني أن هناك رسائل مماثلة كانت تنقل أخبارنا!!.
عدنا إلى مصر واجتمعنا في معهد الأهرام الإقليمي للصحافة بعد عودتنا بيومين حيث كان في انتظارنا الأستاذ أسامة سرايا مدير المعهد وممثل عن ( يو إس أيد/ مكتوبة بالإنجليزية) ـ الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية ـ وممثل عن السفارة الأمريكية لاتمام عملية التقييم التي تعقب كل نشاط من هذا النوع. ولكن فشل الاجتماع بسبب وجود ” بيتر لوفي” الذي فرض نفسه على الاجتماع وحاول التشويش علينا عندما بدأنا في انتقاد البرنامج، فتأجل اجتماعنا للأسبوع الذي يليه. وأدلى كل زميل برأيه في البرنامج. ولكن للأسف فإن المناخ الذي ساد عملية التقييم لم يكن يتسم بالاستقلالية الضرورية. ويكفي أن أشير إلى أن الاجتماع والذي كان يحضره أمريكي واحد هو المستشار الثقافي بالسفارة الأمريكية بالقاهرة والذي يتحدث العربية كان الحديث فيه يدور باللغة الإنجليزية إكراما لوجوده، رغم إهانته لنا والتي اعتبرها إهانة لمصر بقوله: (عندما تكون مدعوا للعشاء ليس من حقك مناقشة المنيو ) أي قائمة الطعام. بمعنى أن أمريكا تمن علينا بالمنح، وليس من حقنا مناقشة كيفية استخدام هذه الأموال.
مطلوب تحقيق عاجل
يوضح ماذكرته سابقا أن برنامج التدريب يحتاج إلى تقويم عميق ووقفة جادة من جانب نقابة الصحفيين وتقييم العلمية التدريبية ـ وبالنقابة الكثير من الأكاديميين ـ وجدية هذا البرنامج الذي انفقت عليه أموال الشعب المصري، حيث أصبحت هذه المعونة أموالا مصرية ندفع ثمنها غاليا من إرادتنا. كما أن أغلبها تمثل ديونا على الأجيال المقبلة. أما الجهة الثانية التي أعتقد أنه يتعين عليها التحقيق في الأمر فهي وزارة التعاون الدولي، التي أتصور أنها مسئولة عن التصرف في أموال المعونة والتي أقر البرنامج بموافقتها. فهذه القضية أخطر من أن تترك لمبادرات فردية من أي جهة كانت. فتفاهة البرنامج تثير تساؤلات مهمة حول الغرض من زيارتنا للولايات المتحدة الأمريكية؟. .. هل كنا في رحلة للترفيه كما قال البعض متندرا ؟. وهل يجب إنفاق أموال الشعب المصري على رحلات ترفيه للصحفيين؟. أقول هذا رغم إنني كنت واحدة ممن سافروا بهدف الاستفادة المهنية.
هناك سؤال أخير: هل كل أشكال التدريب التي تنفق عليها أموال مصرية على هذا المستوى من التفاهة؟.وإذا كانت الإجابة بنعم، فهل يستحق الأمر أن نخدع شعبنا بمثل هذه الأوهام عن التدريب في أمريكا ؟.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) نشر هذا المقال في أسبوعية “العربي” بعدد 4 يناير 2004 وتحت عنوان فرعي :” بعد أن عادت من برنامج تدريب الصحفيين”. وقام كارم يحيى بالبحث عنه في أرشيفات الهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية بكورنيش النيل / رملة بولاق / القاهرة، ونسخه على الحاسوب. علما بأن المقال لم يكن متاحا على شبكة الإنترنت.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *