خالد علي يكتب لـ درب: الحوار الوطني.. ومسارات المستقبل
كل عاقل، أو صاحب رأي، أو مهتم بمستقبل هذا البلد لا يمكن أن يرى مبادرة حوار السلطة السياسية ومعارضيها أمراً سلبياً يستحق الهجوم.. بل هى بادرة طيبة، في النهاية تدل – أيا كانت دوافعها المباشرة من طرف السلطة – على إدراك أن هناك أزمة.. وهذا في حد ذاته تطور إيجابي بعد سنوات ساد فيها خطاب دعائي يرى في الرأي المخالف بحد ذاته خطراً يقتضي الاستئصال.
ولكن هل فعلاً ما تحتاجه بلادنا في مواجهة هذه الأزمة السياسية الاقتصادية الاجتماعية الشاملة حواراً بين السلطة وبعض نقادها؟ أم أن ما تحتاجه بلادنا هو انفتاح سياسي يسمح لكل الآراء أن تتبلور وتعبر عن نفسها من خلال كل المنافذ الممكنة بكل حرية واستقلال ودون أى تهديد أو تعقب، وللسلطة حينها أن تختار من هذه الآراء ما تشاء أو تحاور من تشاء من أصحابها؟
ظني أن بلادنا في أشد الاحتياج إلى الوقف الفورى لسياسات إغلاق المجال العام بما يستتبعه ذلك من حزمة إجراءات ضرورية شأن تصفية ملف الحبس الاحتياطى طويل المدة، والعفو عن الأحكام الصادرة بحق سجناء الرأى، وتمكينهم من العودة لأشغالهم، وإنهاء إجراءات التحفظ على أموالهم، وتمكينهم من حرية التنقل، وإطلاق حرية الإعلام والصحافة والتعبير وحقوق التجمع والتنظيم والاجتماع وحرية تداول المعلومات بغض النظر هل سيعقب ذلك مباشرة حواراً ترعاه السلطة أم ستستمر الإجراءات التمهيدية لخلق بيئة مواتية لتعظيم القوى السياسية والاجتماعية ببلادنا .
وأرى أنه عند الحديث عن دعوة الحوار الوطنى لا يمكن تجاهل أربعة مرتكزات رئيسية:
المرتكز الأول: يرى البعض أن هناك مقاومة داخل هذه السلطة لفكرة الحوار الوطنى بل ويصفه البعض بالصراع داخل السلطة بين المؤيدين له والمعارضين لإتمامه، وذهب البعض الآخر إلى أنه على أفضل التقديرات هناك غموض فى فكرة الحوار وعدم وضوح لأهدافه، ويمكن ملاحظة مظاهر هذا الصراع أو الارتباك فى بعض النقاط، منها:
(1) التردد والبطء فى عمليات إخلاء السبيل وإطلاق سراح سجناء الرأي، بالرغم أنها أسرع السبل لتهيئة بيئة مواتية تساعد الكافة على المشاركة والتفاعل دون توجس، فمنهج التعاطي الجاد والمسؤول لقوى المعارضة المدنية مع دعوة الحوار لم يسفر عن أي تغيير جوهرى في منهج السلطة السياسية فى هذا الملف، بل يؤكد بعض المتابعين أنه خلال الفترة من يناير ٢٠٢٢ حتى يونيه ٢٠٢٢ كانت أعداد المقبوض عليهم أضعاف أضعاف أضعاف من تم إخلاء سبيلهم رغم أن نهايات ٢٠٢١ شهدت انتهاء حالة الطوارىء وإعلان رئيس الجمهورية نجاح الدولة فى مواجهة الإرهاب، وهو ما يوضح أن السلطة ليست فى حاجة لاستمرار نفس سياسات التعقب والملاحقة التى كانت متبعة خلال السنوات الماضية إبان إعلان حالة الطوارىء بالبلاد، ويمكن للجهات الداعمة للحوار أن تطلب حصراً بالأسماء وأعداد القضايا والمتهمين الذين تم القبض عليهم خلال تلك المدة وتقارنه بأعداد المخلى سبيلهم خلال ذات المدة، علهم يستطيعوا من خلال تلك المقارنة أن يتفهموا تخوفات وتوجسات قوى المعارضة.
(2) هل الحوار سيتم بين نخب سياسية واجتماعية واقتصادية ذات كفاءة وقادرة على طرح الحقائق ومناقشة الأزمات الحقيقية ومسبباتها لتساهم فى رسم خارطة تعافى للمستقبل، أم سيتم إغراق جلسات الحوار بجيوش من أحزاب الموالاة ليصبح الحوار مجرد مكلمه سياسية وخطب رنانة للحديث عن الإنجازات والمشاريع القومية، ويتحول رويداً رويدا إلى مبارزة لغوية بين المولاة والمعارضة، لإعادة تصدير صورة الديوك المتصارعة التى لا يهمها إلا مصالحها الشخصية ليساهم ذلك من جديد فى ترسيخ كل صور احتقار العمل السياسى، والنيل من كافة السياسيين أيا كانت مشاربهم وانتماءاتهم؟!.
(3) عندما أعلن رئيس الجمهورية دعوته للحوار، طلب أيضاً فى ذات الوقت من رئيس الوزراء إعلان خطته الاقتصادية، وبالفعل عقد رئيس الوزراء مؤتمراً صحفياً أعلن فيه عن خطته الاقتصادية وجارى تنفيذها بكل همة ونشاط دون انتظار لهذا الحوار المنشود، وتناقض تلك الاشارة أحدث اتباركاً فى تحليل الدعوة للحوار وفهم مبرراتها وأهدافها.
المرتكز الثانى: أن أوضاع القوى السياسية المنظمة، وغيرها من منظمات المجتمع المدني بمعناه الواسع، المدعوة للمشاركة لا تسمح لها أصلاً بأن تطرح بدائل آنية ومباشرة للوضع الراهن أبعد من المطالبة بوقف الاقتراض الخارجى والاهتمام بالتصنيع والزراعة والتعليم والإفراج الفورى عن سجناء الرأي والدعوة للانفتاح بالمعنى الذي ذكرناه…. فنحن أمام ثمان سنوات من تصفية الحياة السياسية بالمجمل وإغلاق المجال العام وتعقب كل الكوادر السياسية والقيادات النقابية، ثمان سنوات عجاف تركت آثارها على هذه القوى حيث أنهكت قواها، وهى بالكاد تحاول الحفاظ على تماسكها التنظيمي وإنقاذ منتسبيها من تبعات تلك السنوات.
المرتكز الثالث: الأزمات الاقليمية والدولية وأثارها الاقتصادية والسياسية العاتية تمثل خطرًا حقيقيًا على هذا الوطن مما يستدعى إطلاق كل القوى النضالية سياسية كانت أو اجتماعية أو اقتصادية لمواجهة تلك المخاطر التى تهدد الجميع .
المرتكز الرابع: أن السلطة لم تنجح فى خلق نخب حقيقية قادرة على دعمها ومساندتها فى التقدم خطوات للأمام، بل وتقف تلك النخب عاجزة أمام تقلص الجماهيرية التى كانت تتمتع بها تلك السلطة من قبل، فضلاً على أنه ليس بخفى أن جل التشكيلات التنظيمية التى دعمتها السلطة خلال تلك السنوات جوهرها وقواها الجماهيرية التى ترتكز عليها يدين أغلبها بالولاء لمبارك ونجليه، ومن غير المستبعد أنه عند وجود أى منافسة حقيقية بين رأس تلك السلطة ونجل مبارك ربما ستنحاز للأخير فوراً، كما ستنضم إليها بعض من جيوب هذه السلطة ذاتها، وقدر لا يستهان به من رجال أعمالها، وإدعاء أحد كوادر تلك السلطة بأن هذا الحوار الوطنى هو لإعادة إحياء وترميم (تحالف ٣٠ يونيه) فى حقيقته تعبير عن التخوف من التشققات التى أصابت قوى النخب الحاكمة الحالية.
من خلال تلك المرتكزات يمكن الوصول لثلاثة حقائق:
الحقيقة الأولى: يمكن القول أن فتح صفحة للمستقبل ضرورة يحتاج إليها الجميع سلطة ومعارضة، ولا يملك أيا منهم رفاهية الرفض أو إهدار الفرصة.
الحقيقة الثانية: أنه لا يمكن اختزال صفحة المستقبل فى شكل الحوار الذى يجرى إعداده الآن، بل هناك أشكال ومسارات متعددة له، وعلى السلطة والمعارضة معاً السعى لاستكشاف تلك المسارات وخلق جسور من الثقة تساعد فى طرح أفكار وتصورات جديدة للمستقبل.
الحقيقة الثالثة: أن الوقت ثمين ولا يملك طرف رفاهية إهداره في ظل مؤشرات مفزعة عن حجم الدين الخارجي، وتضخم لا طاقة لقطاعات كبيرة من المجتمع به، ومستقبل غامض في أفضل التقديرات.
ومن ثم فصفحة المستقبل يجب أن تكون للجميع دون إقصاء أو استبعاد حتى يستطيع هذا المجتمع أن يتنفس ويفكر في مصيره، وحتى يستطيع أن يحمى بلادنا فى ظل وضع عالمى وإقليمي شديد التعقيد وسريع التغير وعظيم الأثر.
وفى النهاية يجب التأكيد على أنه إذا كان لدينا بعض المؤشرات التى تشكك فى جدوى المشاركة فى الحوار بصيغته أو بيئته الحالية، أو نرفض التعاطى مع الحوار المطروح باعتباره الطريق الوحيد وفقط لرسم خارطة للمستقبل، إلا أننا نتمسك أيضا برفض وإدانة أى تشكيك في دوافع أو إخلاص المشاركين به والمنحازين لإتمامه…. ونتمنى لهم التوفيق، ولبلادنا السلامة، ولشعبنا الطيب كل الخير والأمان والكرامة.