حسين جعفر يكتب: صيحة أم كلثوم في ذكرى رحيلها: «أعطني حريتي أطلق يديا».. (3/1)

ما حكاية هذه الأغنية التي أكلت «دماغنا» بين طين الأرض السوداء وحرارة الشمس والعرق؟.. وهل تستحق أم كلثوم أن ندعو لها وهل صرنا بسببها «كلاب»؟

ما بين الميلاد والرحيل حياة غنية بالسفر والسهر والمتاعب والموسيقى والتصفيق المتواصل.. أم كلثوم بدأت مسيرتها من تحت الصفر ومن تحت خط الفقر

يرى الكاتب الكبير عباس محمود العقاد: “إن الجمال هو الحرية”، ويقول الشاعر الكبير أحمد فؤاد نجم في تعريفه للشعر الحر “هو الشعر اللي تكتبه وأنت بكامل حريتك”، ويقول الكاتب الصحفي محمود عوض: “إنني أستطيع أن أعطيك قلبي.. سوف أصبح عاشقا، وأعطيك طعامي.. سوف أصبح جائعا، وأعطيك ثروتي.. سوف أصبح فقيرا، ولكنني ـ أبدا أبدا ـ لا أستطيع أن أعطيك حريتي. إن حريتي هي دمائي، هي عقلي، هي تفكيري، هي خبز حياتي، إنني لو أعطيتك إياها، فإنني أصبح قطيعا، حيوانا، كمية مهملة، شيئا بلا قيمة، شيئا له ماض، ولكن ليس أمامه مستقبل، إن حريتي هي رأيي، هي شجاعتي”.

لم أكن أعرف هذه الكلمات أو أصحابها في آخر الثمانينيات من القرن الماضي، حين كنت أعمل في جنينة العنب ـ يمتلكها أحد أثرياء بلدتنا – التي تقع بجوار الطريق الزراعية الموازية لترعة الإبراهيمية، الممتدة من أسيوط إلى بني سويف، وكان موقع الجنينة في مركز ببا ثاني مراكز محافظة بني سويف وأنت قادم من الوجه القبلي، تبعد عن بلدتنا ما يزيد على المئة كيلو متر. كنا نعمل ونغني، نعم نغني حتى ونحن في طريقنا لوقت الراحة لتناول الفطور أو الغداء أو العشاء، كنا نعمل من مطلع الشمس لمغربها مقابل جنيهات معدودة، وكنا نغني أغانينا التي ورثناها عن أهالينا وأغان سمعناها من الراديو أو التليفزيون، وكان زملائي وأصحابي في العمل دائما ما يضبطونني متلبسا، وأنا صاحب الصوت الخشن جدا، بـ”اجعّر” ببيت تغنيه أم كلثوم يقول “أعطني حريتي أطلق يديا”، وعجبهم اللحن أو الكلمات فرددوها معي. 

وفي مرة من المرات، وكنا هلكنا من استمرارنا في العمل واشتد بنا الجوع، ونريد أن نخرج من العمل، الذي مر على موعد انتهائه أكثر من الساعة، نريد أن نستريح ونأكل، فصحنا جميعا: “أعطني حريتي أطلق يديا.. إنني أعطيت ما استبقيت شيا”، وأخذنا نرددها عدة مرات فما كان من مالك الأرض إلا أن قال ساخرا منا: “ادعوا للي علمكم تقولوا كدا يا كلاب”، وطلعنا نستريح ونأكل، ومن يومها بدأت الأسئلة تطرح نفسها، هل فعلا أم كلثوم هي من علمتنا نقول كدا، وهل ما تطلبه من حبيبها أو زوجها أو أبيها أو رئيسها في العمل من حقها، وزادت الأسئلة هل طلبت أم كلثوم الحرية لها وحدها “ولو كدا احنا كمان ما بنطلبهاش ليه”، وزادت أكثر، تطورت أفضل، وهل الحرية تطلب وتمنح، ثم وصلت إلى من هي أم كلثوم، من أين وكيف وصلت إلينا في بلدتنا، غير الموجودة على الخريطة، عزبة الورثة، تتبع دفش إحدى القرى المجهولة التابعة لمركز سمالوط، التابع بدوره لمحافظة المنيا، إحدى محافظات الوجه القبلي، غير المعترف بها ” صعيدية” من الصعايدة، والمحسوبة على الصعيد من البحاروة، وتطورت الاسئلة إلى هل هي أم كلثوم من ألفت ولحنت هذه الأغنية، وما حكاية هذه الأغنية التي أكلت “دماغنا” بين طين الأرض السوداء والتراب الناعم، الذي يكسو أشجار العنب البنية الغامقة وحرارة الشمس والعرق وأغصان العنب البلدي وعناقيده الخضراء والبيضاء والحمراء و”المخددة” المدلاة من بين الأوراق الخضر والصفر، وهل تستحق أم كلثوم أن ندعو لها، وهل صرنا بسببها “كلاب”، كل هذه الأسئلة نحاول أن نعرف إجاباتها في تتبعنا لسيرة ومسيرة أم كلثوم الفلاحة بنت قرية طماي الزهايرة، القرية التي أصبح اسمها قرية أم كلثوم بعد ما قدمته وأبدعته، لها ولنا كوكب الشرق، قيثارة السماء، فيما يزيد على نصف قرن من الزمان.

أم كلثوم الميلاد والرحيل

في بيت من الطوب النيئ ولدت، وسماها أبوها، الشيخ إبراهيم البلتاجي، أم كلثوم على اسم إحدى بنات النبي (ص)، ولما لا وأمها فاطمة المليجي اسمها على اسم احدى بنات النبي أيضا، ومع ذلك لم يعجب هذا الاسم القرايب، لكن أمها اختصرت الاسم إلى سومة، تقول أم كلثوم: “إنني وعيت عليها وهى تناديني سومة”. والكلثوم، يا صاحبي متعك الله بالصحة والعافية، هو الوجه المستدير الممتلئ، وهو أيضا الحرير على رأْس العلَم، اللواء أو البيرق، هل لمنديلها الحريري الذي كانت تمسكه بيدها، وهى تغني، علاقة باسمها؟

اختلف الكثير من المؤرخين حول تاريخ ميلاد أم كلثوم فهو في أحد جوازات السفر الموجود بمتحفها 1904، وهناك جواز سفر يحمل تاريخ ميلادها 1905، وآخر 4 مايو 1908، وكما حققته الدكتورة نعمات أحمد فؤاد وفيكتور سحاب أنها ولدت 28 ديسمبر 1898م، وبعض المؤرخين الثقات يقولون إنها ولدت 31 ديسمبر 1898، لكن لا أحد يختلف على تاريخ رحيلها 3 فبراير 1975، وتشييع جنازتها يوم 5 فبراير، وما بين الميلاد والرحيل حياة غنية بالسفر والسهر والمتاعب والموسيقى والتصفيق المتواصل نستعرضها فيما يأتي.

أم كلثوم والعيد وأجمل فستان في الدنيا

بدأت أم كلثوم مسيرتها من تحت الصفر، من تحت خط الفقر، كيف لا وأبوها ــ إمام مسجد إحدى قرى مركز السنبلاوين التابع لمحافظة الدقهلية ومقرئ القرآن ــ لم يكن يقدر على دفع قرش صاغ كل اسبوع لتستمر ابنته في كتاب الشيخ عبد العزيز، كل ما يتقاضاه 20 قرشا في الشهر.. “ما عنديش غير قرش واحد ادفعه للولد”، خالد.

ومع رجاء والدتها وإلحاحها استطاع إبراهيم البلتاجي أن يدبر قرشا كل أسبوع حتى لا ينكسر قلب ابنته وتتعلم مثل أخيها.

تقول أم كلثوم: “عندما أتذكر طفولتي تقفز إلى ذهنى أشياء كثيرة، أتذكر البرد، المطر، الفقر، الشاي الثقيل، الجبنة القريش، الطرحة السوداء، الثروة التي كانت قرشا، العظام التي كانت لحما، الركوبة التي كانت حمارا، الحنان الذي كان أبي، الرحمة التي كانت أمي”، وتضيف:” أتذكر هذا كله عندما أتذكر طفولتي، أتذكر أياما فقيرة بسعادة، شقية بفخر”.

استيقظت في فجر أحد الأيام على صوت همسات بين والديها، وسمعت أمها تسأل أبيها عن سر قلقه طوال الليل فقال العيد داخل ومش قادر أجيب للعيال هدوم جديدة، وفي الصباح قالت أم كلثوم لوالدتها إنها لا تريد جلابية جديدة وأنها سترتدي جلابيتها القديمة في العيد لأنها حلوة جدا. تقول أم كلثوم: “بكت أمي، وراحت تقبلني، وشعرت وأنا محاطة بذراعيها إنني أرتدي أجمل فستان في الدنيا”.

“كوكب الشرق” والحميض وأيام الفقر التي لا تنتهي

كانت تربط أم كلثوم علاقة صداقة عميقة بالعائلة الأباظية، بداية من دسوقي باشا أباظة، الكاتب السياسي والأديب، والوزير أكثر من مرة في آخر سِنين مصر الملكية من 1941إلى 1949، أو الشاعر الكبير عزيز أباظة، أو الكاتب الصحفي فكري أباظة، ووجيه أباظة أحد الضباط الأحرار، ثم بالكاتب والروائي ثروت أباظة، صاحب “شيء من الخوف”، وإن كان ما يزال طفلا صغيرا وقت أن بدأت هذه الصداقة، التي استمرت حتى رحيلها.

ويلقي الكاتب الراحل ثروت أباظة الضوء على جانب مهم من حياة أم كلثوم فيقول مثلا: “إن والدتي دعتها الى الغذاء في بيتنا في العباسية، وقبل الغذاء قالت لها والدتي إني أعددت لك على المائدة مفاجأة أعتقد أنها ستسرك كل السرور فقالت أم كلثوم نشوف..

وحان موعد الغذاء وقمنا إليه، وكانت هناك صينية تتوسط المائدة، وعليها غطاء، وجاءت والدتي ونحن ما نزال وقوفا، ورفعت الغطاء في فخر لتظهر لأم كلثوم المفاجأة التي أعدتها لها ونظرت أم كلثوم العظيمة الواثقة بنفسها، وقالت في لهجة من خفة الدم والظرافة، ما هذا حميض.. إيه جابك هنا.. والله زمان يا حميض.

ونظرت إلى أمي قائلة: “هي دي يا اختي المفاجأة، والله زمان لا أذوقه أبدا، هو أنا كان ليا شغل أيام الفقر إلا الحميض من الغيطان وأكله.. شيلي، شيلي”.

والحميض نبات شيطاني يطلع في الحقول، ويأكله من لا يستطيع شراء غيره.

ونكمل غدا الإجابة عن باقي الأسئلة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *