جمال عبدالقادر يكتب: الإنتاج العربي المشترك .. المعوقات والمشاكل

رغم تاريخ السينما العربية الطويل والذي تجاوز المائة عام في بعض الدول و قارب عليها في أخرى، إلا أن الإنتاج العربي المشترك أو التعاون العربي لم يرق للمستوى المطلوب، حيث اقتصر في البداية على تعاون فردي من خلال وجود فنانين و فنيين داخل السينما المصرية لأنها كانت الأقدم والأشهر في مرحلة البدايات، شاهدنا وجود ونجاح أنور وجدي، فريد الأطرش، أسمهان (سوريا) نجيب الريحاني (العراق) عمر الشريف، صباح، ماجدة الصباحي، إالياس مؤدب (لبنان) عبد السلام النابلسي، بدر لاما، ابراهيم لاما  ( فلسطين) والقائمة تتطول حتى نصل إلى إياد نصار، صبا مبارك، منذر ريحانه (الأردن) هند صبري، دُرة، ظافر العابدين، عايشة بن أحمد (تونس)، بعضهم أنشأ شركات إنتاج في مصر وقدم انتاجه تحت إسم السينما المصرية.

وبنسبة أقل شارك الفنان المصري في السينما العربية، ربما لأنه لم يكن بحاجة للمشاركة بها وهو ينتمي لأعرق وأشهر سينما في المنطقة وكل الفنانين العرب يرغبون في العمل بالسينما المصرية، لكن هناك بعض المشاركات الهامة منها عبد الله غيث وسعاد حسني في فيلم افغانستان لماذا؟ للمخرج المغربي عبد الله المصباحي والذي استعان في كل افلامه بنجوم مصريين، وعبد الله غيث و محمد العربي و أحمد مرعي في فيلم الرسالة مع المخرج مصطفى العقاد، شيريهان وجميل راتب في الفيلم التونسي (كش ملك) وتمت الاستعانه بالنجوم المصريين لاستغلال شهرتهم ونجوميتهم لتسويق الفيلم في المنطقة العربية بشكل عام و الدخول للجمهور المصري بشكل خاص، ولما فشلت المحاولة ولم تحقق الغرض منها لم تتكرر مرة اخرى.

في البداية لابد وأن نفرق بين التمويل وهو منح جهة ما تمويل كلي أو جزئي لصناعة هذا الفيلم، وبين الإنتاج المشترك الذي يعتمد على شراكة كاملة في المشروع بداية من أختيار الفكرة او المشاركة فيها ثم تمويل الفيلم بنسب مختلفة ثم وجود ممثلين وفنيين من أكثر من دولة، وفي الأغلب يفضل البعض التمويل على الإنتاج المشترك حتى يكون له مطلق الحرية في اختيار المحتوى وفريق العمل دون تدخل من أحد، وحتى لا يتم فرض ممثل أو فني غير مناسب للعمل، كما حدث في فيلم “عودة الإبن الضال” بوجود ممثلين لم يكونوا مناسبين للشخصيات الدرامية من حيث الأداء واللغة.  

ويواجه الانتاج العربي المشترك عديد من المعوقات التي منعت حدوثه بالشكل اللائق رغم اعتراف الجميع بأهميتة للسينما العربية وما يمثله من قوة واضافة كبيرة لها تسمح له بتبادل الخبرات و تنوع الرؤى والدعم في المهرجانات العالمية الكبرى، حيث نجد أن أغلب الجوائز الهامة التي حصلت عليها السينما العربية عبر تاريخها كانت عن أفلام ذات انتاج مشترك مثل “اسكندرية ليه؟” الذي حصل على جائزة الدب الفضي عام 1979 من مهرجان برلين وهو انتاج “مصري- جزائري – فرنسي” ، و أفلام “نحبك هادي” 2016 ، “كفر ناحوم” 2018 ، “ستاشر” 2020 ، “غزة مونامور” 2020 ، “ريش ” 2021، وغيرها أعمال كثيرة استطاعت الوصول لمكانه والحصول على جوائز هامة ما كانت تحصل عليها إلا بوجود انتاج مشترك، حيث يغلب على الإنتاج المحلي قصُر النظر وغياب الطموح في الوصول لأفاق جديدة بفيلمه وأقصى طموحه هو تحقيق إيرادات من خلال شباك التذاكر في موسم العيد او الصيف.

ومن هذه المعوقات :

• فرض الشروط والتدخل في المحتوي، إحدى مشاكل الإنتاج العربي المشترك هو تدخل الممول أو جهة الإنتاج في محتوى العمل وفرض شروطها واراءها بحجة موافقتها على التمويل، وبالتالي يتراجع كل طرف عن التعاون ويُفضل العمل منفردا حتى يقدم ما يريده هو.

• تفضيل الإنتاج الأجنبي المشترك، لفتح سوق جديدة للفيلم، بخلاف المنطقة العربية والخليج التي يتواجد فيها الفيلم دون حاجة للإنتاج المشترك، بالاضافة إلى عدم التدخل في المحتوى في أغلب الأحوال

• اللغة من أهم المعوقات، خاصة لسينما شمال المغرب العربي والتي تجد صعوبة في الوصول للجمهور المصري ومنطقة الخليج العربي مقارنة بالفيلم المصري، وعنمدا استعانوا بنجوم مصريين كما في فيلم (كش ملك) شيريهان و جميل راتب، وفيلم (الملائكة ) مديحة كامل وكمال الشناوي، لم تحقق النجاح المطلوب خاصة مع إصرار كل طرف على التمسك بلغته وثقافته، وكان البديل الأنسب لهم هو الإنتاج الأجنبي المشترك، وقدمت السينما الجزائرية والتونسية اهم الأعمال من خلال هذا الإنتاج المشترك على سبيل المثال فيلم “معركة الجزائر” والذي تعرض لمعاناة الشعب الجزائري ضد الإحتلال الفرنسي ومعارك التحرير، وحصل الفيلم على عديد من الجوائز الهامة وأصبح من أهم الأفلام في تاريخ السينما العربية كلها، هذا العمل شاركت جهات فرنسية في إنتاجه رغم تعرضه للإحتلال الفرنسي للجزائر.

• السياسة، كان لها دخل كبير في إعاقة الإنتاج العربي المشترك، عندما حدثت المقاطعة العربية مع مصر عقب توقيع اتفاقية كامب ديفيد مع دولة الإحتلال، اصبح من الصعب ان يتم تعاون مشترك بين الجانب المصري واي طرف عربي، حسب قرار المقاطعة الذي صدر من الدول العربية ضد مصر في حينها وقرر كل منهم العمل منفردا.

• إختلاف الرؤى والهدف من العمل الفني، مثلا السينما الفلسطينية ترغب في عرض قضيتها العادلة ومعاناة الشعب الفلسطيني مع الإحتلال وهناك جهات عربية لا يهمها هذا الأمر أو ترغب في التطبيع أو على الأقل عدم التصعيد مع الجانب الإسرائيلي، نفس الأمر مع قضايا أخرى مثل الإرهاب والتحرش الذي تعاني منه دول دون اخرى وبالتالي قد لا تتحمس جهة الإنتاج للتعرض لهذه القضية، وهو ما حدث عندما أعلن مهرجان دبي في دوراته الأولى عن تمويل مشروعات فنية أشترط أن تكون قضايا انسانية عامة لا تخص مجتمع بعينه وألا يتعرض العمل الفني لأي قضية سياسية.

• يتمتع الفنان المصري بالرفاهية في ظروف عمله، حيث الأجر المُبالغ فيه و سيطرته على المحتوى وكل تفاصيل العمل، بالاضافة لشروطه الخاصة بوضع الأسم والصورة على الأفيش وهو ما لا يتوفر له في العمل مع جهات عربية مختلفة، بالاضافة لعدم وجود قامات فنية كبيرة وهامة على الساحة الان يرغب اي عمل فني عربي بالتعاون معها كما حدث في حالة الاستعانة بـ عبد الله غيث وسعاد حسني و نور الشريف ونادية لطفي وغيرهم من الجيل الموهوب والمثقف الذي رحل.

• الحرية، تختلف مساحة الحرية ويرتفع سقفها من دولة لأخرى ومن مجتمع لأخر، وفي المجتمعات العربية ما أكثر المحاذير والخطوط الحمراء، وهي احدى معوقات الإنتاج المشترك، ما تراه مناسبا وجديرا بالتناول والطرح يراه غيرك من المحظورات ولا مبرر من تناوله وبالتالي لا مبرر من التعاون المشترك فيه هذا الأمر.

• نظرية المؤامرة، أصيلة ودائمة الحضور في كل المجالات داخل المجتمع العربي، عندما يُقدم الفنان عمل إبداعي مختلف عن السائد أو يحمل نقد للمجتمع يتعرض لعِدة اتهامات منها الخيانة و تشويه سمعة الوطن، وعندما يكون الإنتاج مشترك مع جهات أجنبية حتى لو عربية يُصبح الإتهام شبه مؤكد عند الجميع، وهو ما دفع البعض للبُعد عنه تجنبا لمثل هذه السخافات.

• صعوبة الحصول على تصاريح التصوير في اماكن أثرية أو حيوية كما في مصر، والذي تسبب في هجرة تصوير الأفلام الأجنبية من مصر إلى المغرب، وهو نفس الأمر الذي أدى إلى هروب الإنتاج المشترك لمعرفته بصعوبة العمل داخل عدد من الدولة مثل مصر، حيث يتعين على كل طرف تسهيل التصوير في دولته و التعامل مع الجهات الرقابية دون المساس بالنص وعدم الحذف أو التعديل فيه وبالطبع هو أمر غير متاح في كل الدول .

كانت هناك تجارب قليلة للإنتاج المشترك فيلم ” القاهرة _ بغداد” عام 1947 ، “ليلى في العراق” عام 1949، وفي لبنان قدم المخرج الكبير بركات عام 1974 فيلم “حبيبتي” وفيلم “أجمل أيام حياتي” وفي حقبة الثمانينات حدث انتاج مشترك بين جهات مصرية واخرى جزائرية وفرنسية مثل ” الأقدار الدامية” أول أعمال خيري بشارة، و أفلام “عودة الإبن الضال، إسكدنرية ليه؟”، ثم فيلم عصفور الشرق مع احدى الجهات السعودية، و فيلم “ناجي العلي” انتاج مشترك بين نور الشريف ومجلة فن اللبنانية.

فيلم الرسالة شاركت عِدة جهات انتاجية فيه وبدأ التصوير في المملكة الأردنية وبسبب غضب المملكة السعودية من تجسيد شخصية حمزه عم الرسول (ص) انسحبت بعض جهات الإنتاج و رفضت المملكة الأردنية وجودهم داخل أراضيها، ولخلافات سياسية وبحثا عن زعامة عربية، عرض معمر القذافي استضافة فريق عمل الفيلم والسماح له بالتصوير داخل ليبيا وايضا تمويله بشكل كامل وفي المفابل تم الإتفاق على مشروع فيلم عمر المختار والبدء فيه بعد الإنتهاء من فيلم الرسالة، و لولا تدخل القذافي ما ظهر فيلم الرسالة والذي ظل ممنوعا من العرض في كثير من الدول العربية لسنوات قليلة ماضية وربما حتى الان.

فيلم افغانستان لماذا؟، تجربة فريدة ومختلفه قام بها المخرج المغربي الكبير عبد الله المصباحي عام 1984، عندما استعان بالنجم العالمي شون كونري مع عبد الله غيث وسعاد حسني و عدد من الممثلين من دول عربية مختلفة، وتناول الفيلم كفاح الشعب الافغاني ضد الإحتلال الروسي وبعث برسائل حاصة داخل الفيلم عنمدا اختلفت فضائل المقاومة على الزعامة وعلى غنيمة الحرب، وابضا بشًر بالتيار الديني المُتشدد والهيمنة الأرميكية على المنطقة العربية، و بعد أيام من بدء التصوير في المملكة الأردنية تم وقف التصوير و طُلب من فريق العمل المغادرة، اتجه المصباحي إلى المغرب وبدأ التصوير وقبل ايام من انتهاء العمل تم وقف التصوير ومصادرة ما تم تصويره و تم إيداع النيجاتيف في المركز السينمائي المغربي ولم يشاهده أحد حتى الان، أحيانا يتم عرض انتاج المصباحي في ذكرى وفاته فقط ولكن لم يُعرض للجمهور لا في السينمات ولا في التليفزيون، اللافت للنظر أيضا أن كل انتاج المصباحي تم منعه من العرض بعد ذلك واختفى للأبد مثل فيلم “أين تخبئون الشمس” 1980 تأليف حفيظ العسري و صبري موسي ومن اخراج وانتاج عبد الله المصباحي وبطولة نادية لطفي، نور الشريف، عادل أدهم، محمود المليجي، عبد الوهاب الدوكالي، على احمد سالم، والذي تناول الخلاف بين رجل دين وبعض الشباب الملحدين حول افكارهم الجديدة وانكارهم للدين.

فيلم سأكتب أسمك على الرمال انتاج 1978 تاليف واخراج عبد الله المصباحي ومن بطولة، ناهد شريف، عزت العلايلي، سمير صبري، سميرة سعيد، مريم فخر الدين، أمينة رزق.

فيلم الضوء الأخضر انتاج عام 1973 تاليف شريف المنباوي، اخراج عبد الله المصباحي بطولة : فريد شوقي، يحيى شاهين، ليلى طاهر، عبد الوهاب الدوكالي.

فيلم غدا تتبدل الأرض انتاج عام 1974 تاليف واخراج عبد الله المصباحي بطولة، يحيى شاهين، سميرة بارودي، احسان صادق.

كل هذه الأعمال نموذج للإنتاج العربي المشترك وايضا التعاون بين ممثلين من أكثر من دولة والنتيجة منع من العرض واختفاء للأبد وحتى الان لا توجد نسخه واحدة للعرض على أي قناة عربية او حتى يوتيوب، حيث غلبت السياسة والخلافات المستمرةعلى الفن وتم منع هذه الأعمال من الخروج للنور حتى يومنا هذا و ربما تم التخلص منها نهائيا، و بالطبع هذه التجربة كفيلة أن تُثني كثيرين عن فكرة الإنتاج المشترك منعا لتكرار ما حدث.

ومن المعروف أن العمل يتبع جنسية المنتج أو الممول في حالة الإنتاج الفردي، وكثير من الأعمال العربية رغم أن المحتوى عن قضية من قضايا المجتمع العربي وكل فريق العمل يحمل الجنسية العربية إلا أن العمل يحمل جنسية منتجه ” فرنسي ، بلجيكي” سويدي”  وهو ما يُعد خسارة كبرى للسينما العربية حرمتها من التواجد في المحافل و المهرجانات الدولية بسبب غياب الإنتاج المشترك و قصور وانعدام الطموح في الانتاج المحلي.

ونجمل كل هذا في أن الإنتاج العربي المشترك حلم وامر هام لمنطقة ذات ثقافة واحدة ولغة واحدة ودين واحد وهم واحد، ولكن المعوقات والخلافات أكبر من أي حلم ومن أي حلول، على الرغم من معرفة الجميع أن الإتجاه الأن للتكتلات الكبيرة لإنتاج أعمال ضخمة تحمل قضايا أنسانية وتنبش في النفس البشرية وتعمل على الخروج من السوق المحلي لسوق أكبر واهم، ومع ذلك لم يستطع الفن التغلب على الخلافات خاصة السياسية والمعوقات التي ذكرناها، ونأمل أن يأتي جيل أخر أكثر وعيا ورغبة في التغيير يستطيع التغلب على هذه المعوقات وفعل ما لم نستطع فعله على مدار عقود.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *