بيان العيش والحرية حول الغزو الروسي لأوكرانيا: عن الحرب والأزمة الرأسمالية والبديل الشعبي المجهض
النتائج النهائية لهذه الحرب وخيمة وآثارها المدمرة ستمتد لأغلبية سكان العالم وأبرزها شح صادرات الحبوب والمواد الغذائية
الحرب سينتج عنها ارتفاع مجنون في أسعار الطاقة تنعكس في موجة تضخمية تطال الأفقر والأكثر تهميشًا
عالم متعدد القطبية بهذا الشكل هو كابوس لا يقل بشاعة عن كابوس عالم القطب الواحد إن لم يزد
يجب الدعوة للوقف الفوري للحرب في اوكرانيا ومحاولة الوصول لتسوية سلمية.. والنضال الشعبي لإيجاد بديل لا يمكن أن يستمر في ظل حرب كونية
روسيا في عهد بوتين اندمجت في المنظومة الليبرالية وهو ما جاء على حساب دول الجوار مثل الشيشان وكازخستان وأوكرانيا
يجب الاستمرار في السعي لتأسيس نظام عالمي بديل يقطع تمامًا مع الوهم القاتل بأن تعظيم الربح سيقود حتمًا للتنمية والأمن
كتب – أحمد سلامة
أصدر حزب العيش والحرية -تحت التأسيس- بيانا تناول من خلاله التعليق على الأزمة الأوكرانية بعد بدء العملية العسكرية الروسية وتأثير ذلك المدمر وابذي ستمتد آثاره لأغلبية سكان العالم في صورة شح في صادرات الحبوب والمواد الغذائية.
وقال بيان الحزب “بغزو القوات الروسية لأوكرانيا يدشّن فلاديمير بوتين حربًا مروعة جديدة تُضاف إلى قائمة طويلة من الحروب والنزاعات التي تؤجج نيرانها النخب اليمينية القومية المتحكمة في مصير غالبية شعوب العالم في عصرنا”.
وأضاف البيان “يستحق الغزو الروسي لأوكرانيا، والحال كذلك، الإدانة الصريحة من كل صوت يدّعي الدفاع عن كل ما أبدعه ملايين الكادحين حول العالم من مؤسسات، وقيم، وثروات، يجب توظيفها لمصلحة رفاههم المشترك بدلًا من تبديدها لإدامة وتعظيم بؤسهم الحالي”.
وتابع “أيًا كان الفائز أو المهزوم في المدى القصير، فإن النتائج النهائية لهذه الحرب وخيمة، ولن يتحمل عبئها فقط الشعب الأوكراني – الضحية المباشرة للقتل واللجوء – ولكن ستمتد آثارها المدمرة لأغلبية سكان العالم في صورة شح في صادرات الحبوب والمواد الغذائية، وارتفاع مجنون في أسعار الطاقة سينعكس في موجة تضخمية تطال الأفقر والأكثر تهميشًا، ونزح جانب معتبر من فوائض راكمتها تلك الشعوب بعرقها باتجاه الإنفاق العسكري، وضحايا جدد لغياب الرعاية الصحية والخدمات التعليمية، أما عن الدمار البيئي لموجة الحرب والتسلح فحدث ولا حرج”.
وأردف “لا يوجد ما يستحق المديح والحال كذلك في عالم متعدد الأقطاب إذا كانت هذه الأقطاب لا تطرح مشروعًا يحترم الحد الأدنى المتحقق من تطور ديمقراطي، وعدل اجتماعي، ونزوع للسلام طوره البشر عبر مرورهم بدروس مرّة”.
وتابع “ولا يوجد ما يستحق المديح في عالم متعدد الأقطاب إذا كان ميزان القوى الاجتماعي مختل بشكل فادح على الصعيد العالمي لمصلحة الطبقات الرأسمالية الحاكمة في ظل إفقار وتهميش وقمع متصاعد للغالبية العظمي من الطبقات الكادحة صاحبة المصلحة الأصيلة في السلام. إن عالم متعدد القطبية بهذا الشكل هو كابوس لا يقل بشاعة عن كابوس عالم القطب الواحد إن لم يزد”.
ولفت الحزب إلى أن ” هذه الإدانة لا يجب أن تنسينا أن بوتين وإن كان قد أطلق شرارة الحرب الحالية إلا أن أسبابها قد تهيأت منذ زمن طويل بفعل الأزمات الممتدة للنظام الرأسمالي في طوره الليبرالي الجديد. ومن ثم فالتوقف عند إدانة بوتين دون البحث في السياق الذي سهل له مثل هذا الخيار العسكري هو موقف قاصر يتبنى تلقائيًا الدعاية الأمريكية، و يحول بالتبعية دون التفكير في كيفية الخروج من هذه الحلقة المفرغة من الأزمات والحروب”.
وتابع “ثلاثة عقود من هيمنة الليبرالية الجديدة: سلسلة ممتدة من الأزمات والحروب دشنت الليبرالية الجديدة – أي النظام القائم على إطلاق قوى السوق من عقالها تمامًا وتقليص دور الدولة في الإدارة الاقتصادية والرعاية الاجتماعية إلى أضيق الحدود بل وتسليع الخدمات العامة نفسها – هيمنتها عالميًا عند انتهاء الحرب الباردة وتفكك الاتحاد السوفيتي”.
واسترسل “منذ بداية التسعينيات، تحولت الليبرالية الجديدة من نظام محلي سائد في عدد من الدول الغربية إلى نظام عالمي مفروض على كافة بقاع العالم عبر التحكم في مصادر التمويل، ويقوم على إدارته عدد من المؤسسات الأممية، أشهرها بالطبع البنك والصندوق الدوليين ومنظمة التجارة العالمية، وتحميه ترسانة عسكرية أمريكية هائلة تقود بدورها تحالفًا عسكريًا من قوى محلية أقل شأنا”.
واستكمل “انتعشت خلال تلك الفترة الأوهام بقدرة هذا النظام على تحقيق تنمية شاملة، ومستدامة، بما يحاصر فعليًا النزوع للحروب، ويحد من إمكانية النزاعات المسلحة المحلية. ولكن بعيدًا عن هذه الصورة الوردية كانت الحقيقة مختلفة تمامًا. فعلى مدى ٣٠ عامًا لم تكف تلك الهيمنة عن توليد الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وصولًا للحروب المحدودة أو متوسطة النطاق”.
وأوضح “ويعود ذلك تحديدًا لاستحالة النمو المعتمد على السوق إلى مالانهاية بحكم العجز البنيوي الأساسي في نمط الانتاج الرأسمالي عن توليد تنمية صافية تصب في مصلحة الجميع من الأساس”.
وأشار إلى أن هذه الأزمة البنيوية تفاقمت بسبب عامل مساعد وهو اعتماد نموذج النمو الليبرالي الجديد على هيمنة القطاع المالي المعرض للأزمات بحكم طبيعته أكثر من غيره. فبالتالي، كانت كل أزمة في هذا القطاع، مهما بلغت محدوديتها، تتحول سريعًا لأزمة اقتصادية شاملة.. مضيفا “وهي حقيقة رأيناها من بداية هذه الهيمنة عبر سلسلة من الأزمات المتوسطة سواء في جنوب شرق آسيا، أو أمريكا الجنوبية، ثم بدأت تتضح أكثر فأكثر وصولًا لأزمة ٢٠٠٨ الشاملة. الليبرالية الجديدة بهذا المعنى هي نظام مولد للأزمات بحكم طبيعته ذاتها، ويسعى للتطبيع معها فكريًا وسياسيًا”.
وتابع حزب العيش والحرية “هذه الأزمة العامة اتخذت مسارات متنوعة في أقاليم وبلدان العالم المختلفة، ولكنها مسارات انتهت كلها لمشهد الحرب الحالي المرعب. ففي روسيا مثلًا أدت الخصخصة المتسارعة، وارتفاع المديونية، منذ بداية التسعينيات، إلى انهيار شبه كامل للمؤشرات الاقتصادية الحيوية سواء من حيث قيمة العملة، أو التشغيل، أو معدلات التنمية البشرية. وهو ما انتهى بالفعل ببلد بحجم روسيا إلى الوقوع في يد أقلية من الرأسماليين الاحتكاريين – أو ما يعرف اليوم في الإعلام بالأوليجاركية الروسية – التي أدركت أن انهيارًا بهذا الحجم قد يسحبها هي نفسها للقاع”.. متابعا “وهو ما أدي بدوره لتسليم الدولة المنهارة بالكامل لرجل المخابرات السوفيتي السابق بوتين في بداية الألفية”.
وأوضح البيان ” لم يكن بوتين في أي لحظة راغبًا في الخروج من المنظومة الاقتصادية الليبرالية الجديدة، وما كان له أن يفكر في ذلك من الأصل، إذ أنه لم يصل للسلطة في ظل تعبئة ديمقراطية شعبية تفرض عليها بديلًا. كل ما كان يعني الرجل هو تحسين شروط هذا الاندماج بما يحول دون استمرار الانهيار الاقتصادي. أي أن بوتين وصل للسلطة في روسيا بغرض قطع الطريق أصلًا أمام أي بديل ديمقراطي يفرض عقدًا اجتماعيًا جديدًا على الرأسمالية الوليدة منفلتة العقال، وهو مايفسر نهجه القمعي الإجرامي في الحكم بطبيعة الحال الذي لم يتوقف عند تحطيم كل المؤسسات الديمقراطية للمجتمع ولكنه تخطى ذلك إلى اغتيال المعارضين داخل وخارج الحدود”.
وأضاف بيان الحزب “ولكن في المقابل، وكما أشرنا، لم تقدم المنظومة الليبرالية الجديدة إلا الأوهام أخذًا في الاعتبار الحدود البنيوية على قدرة رأس المال الخاص، في شكل قروض أو استثمار أجنبي مباشر، على توليد أي تنمية يعتد بها. فكان التطور الطبيعي للمشروع البوتيني هو التوسع في الاستثمار في قطاع الطاقة، وتصدير الغاز للدول التي حققت قدرًا معتبرًا من النمو في مراكز هذا النظام، ثم التوسع في الاستثمار العسكري والذي تتوافر بنيته الأساسية منذ العهد السوفيتي. هكذا افتتح بوتين عقدًا من النمو الاقتصادي الروسي المعقول الذي لطّف من حدّة الأزمة الاجتماعية وزاد من اندماج روسيا في المنظومة الليبرالية الجديدة عبر تصدير الطاقة ثم زيادة صادراتها العسكرية. وهو ما اقتضى السعي لضمان الولاء المطلق لحكومات جواره المباشر على حساب حقوق شعوبهم في تقرير مصيرها – كما رأينا في حالة الشيشان و بيلاروسيا وكازخستان بل وأوكرانيا نفسها في وقت سابق – أخذًا في الاعتبار هشاشة هذا النمط من النمو المعتمد على تصدير الموارد الطبيعية عبر أراضي هذه الدول”.
وتطرق البيان إلى المحيط الروسي حيث قال “أما في الجوار الروسي من الجمهوريات السوفيتية السابقة، ومنها أوكرانيا، فقد شهدت خلال التسعينيات نفس التكالب الفج لخصخصة الأصول السوفيتية المنتجة، والتوسع في المديونية، مما ولد وضعًا أسوأ حتى مما كان عليه الحال في روسيا. ولم تشفع لها العلاقات الودية التي أسستها خلال حقبة التسعينيات مع نظام يلتسين في تلطيف حدّة هذه الأزمة. ولأن السيناريو البوتيني المعتمد على الاستثمار في الطاقة والإنفاق العسكري غير قابل للتكرار في هذه الدول، ولأن العلاقات الودية مع روسيا ذات النمو المتواضع لا توفر مكسب يعتد به، فكان التوجه نحو أوروبا أملًا أن الإندماج في السوق الأوروبية قد يوفر فرصًا يعتد بها للنمو. ومن هنا كانت ظاهرة الثورات الملونة سواء في جورجيا أو صربيا وانتهاءًا بأوكرانيا في ٢٠٠٤، والتي قطع قادتها خطوات واسعة بعيدًا عن النظام الروسي ووضعوا الانضمام للاتحاد الأوروبي على رأس قائمة أولوياتهم . واقترن ذلك طبعًا بصعود نزعة قومية متطرفة تفسر الأزمات التي تعاني منها تلك البلدان بالإحالة لماضيها السوفيتي/الروسي. ولكن كما كانت الأوهام الليبرالية الجديدة تتبدد سريعًا في العالم كله، كان لهذه البلدان نصيبها من الأزمات الليبرالية الجديدة كذلك. وكان حصاد حكوماتها القومية مماثلًا في فقره لحصاد أقرانها في كل بقاع الأرض بالرغم من قربها من الاتحاد الأوروبي. فقاد ذلك لمزيد من الانجراف نحو اليمين، على اعتبار أن النفوذ الروسي داخل أوروبا ذاتها، بسبب تحكمها في إمدادات الطاقة، هو ما يعرقل اندماجها المنشود في السوق الأوروبية. وغذّت فصائل قومية متطرفة هذه الدعاية البائسة حتى وصلت الهيستريا في بعض هذه البلدان حد حظر استعمال اللغة الروسية، وفرض قيود على حركة المواطنين الروس، واضطهاد صريح للأقليات الروسية”.
وفي أوروبا نفسها، والتي قادت مؤسساتها الوحدوية جانبًا محوريًا من عملية فرض النموذج الليبرالي الجديد على العالم، فكانت الأزمة فيها أكثر وضوحًا بدءًا من زلزال ٢٠٠٨ المالي. فبعد هذه الصدمة الأولية شاهدنا تفاقم أزمة المديونية اليونانية بدءًا من ٢٠٠٩، ثم سلسلة من الأزمات المشابهة في أطراف الاتحاد الأوروبي سواء في أسبانيا أو إيطاليا أو أيرلندا. وأصبح من الواضح أن عضوية عدد كبير من البلدان في هذا الكيان لا تنتج إلا أعباءًا مالية إضافية. وانتهى الأمر بحدث مزلزل وهو خروج بريطانيا نفسها من الإتحاد الأوروبي بعد استفتاء ٢٠١٦. وبالتوازي، كان الاعتماد يتزايد على إمدادات الغاز الروسي كما قلنا، والحماس لاستيعاب أعضاء جدد يفتر حتى كاد أن يختفي. وكذلك بدأت مؤسسات الاتحاد الأوروبي تتراجع بشكل مهين عن دعمها المعلن لمبادئ حكم القانون، والديمقراطية، وحقوق الإنسان، سواء في جوارها الشرقي أو الجنوبي، أخذًا في الاعتبار اعتمادها المتزايد على طيف عريض من الحكومات السلطوية – في القلب منها روسيا – في إسناد اقتصادها المتباطئ سواء بإمدادات الطاقة، أو الاستيراد المباشر، وطبعًا بمشتريات السلاح، يضيف البيان.
وعلى الجانب الآخر من الأطلنطي، يستكمل الحزب، في الولايات المتحدة، لم تكن الأزمة أقل حدّة. فالولايات المتحدة قد انتفعت طويلًا من موقع متميز شديد الخصوصية في هذا النظام ناتج عن هيمنة الدولار عالميًا، وتوسع إنفاقها العسكري نتيجة ضمانها المباشر للنظام العالمي الجديد الموحد. ولكن هذا الوضع قد بدأ يهتز بشدة مع صعود الصين الاقتصادي المطرد، واتجاه أوروبا للتقليل من تبعيتها المفرطة للولايات المتحدة وتنويع مصادر تمويلها وشراكاتها. فكانت وطأة أزمة ٢٠٠٨ هي الأشد في الولايات المتحدة نتيجة الهيمنة غير المسبوقة للقطاع المالي كما أسلفنا. ومع اهتزاز هذا الموقع المتميز، شهدنا أيضًا صعودًا لنزعة قومية متطرفة في الولايات المتحدة وإن كانت شديدة الانعزالية: تزهد في أوهام القيادة، بل وتسعى للتعاون مع كافة السلطويات القومية الصاعدة بما في ذلك بوتين نفسه. وكان فاصل ترامب العنصري الانعزالي القصير هو التعبير الصافي عن السياسة الخارجية الممكنة لهذا الجناح الانعزالي في الرأسمالية الأمريكية. ولكن بحكم هيمنة قطاعات أخرى أكبر وأكثر محورية من الرأسمالية الأمريكية، وتشابكها مع الاقتصاد العالمي، ما كان لهذا الميل الانعزالي أن يستمر طويلًا. ومن ثم عدنا إلي رئيس تقليدي، وهو بايدن، ولكن في ظروف غير تقليدية، حيث من المطلوب منه أن يدافع عن الموقع المتميز لرأس المال الأمريكي عالميًا أمام تحديات جذرية تتعلق بالأزمة البنيوية لنظامه هو بالذات.
ويتابع “هكذا، وفي بضعة سنوات، تآكلت الأوهام الليبرالية الجديدة عن نظام عالمي اقتصادي وأمني موحد يربح الجميع بالانضواء تحت رايته، وانتهى الأمر إلي صعود جديد لنزعات وطنية وقومية متفرقة لا ترى ربحها إلا في خسارة الآخرين. وهذا هو باختصار الشرط المثالي للحرب”.
ويرى الحزب أنه في ظل انتعاش هذه العقائد القومية الجديدة، واستغلالًا للتباطؤ الاقتصادي بسبب أزمة فيروس كورونا المستجدة، يبدو أن بوتين تصور أن تسخين الجبهة مع أوكرانيا سيؤدي لتصعيد الخلافات بين أقطاب هذا النظام المتداعي بما يسمح بمكاسب اقتصادية و أمنية إضافية. وفيما يخص العقوبات الاقتصادية القاسية، فمن الواضح أنه يرى أن آثارها على المدى البعيد ستطال الجميع، وتضعف الجميع بالتبعية، بحكم إندماج الاقتصاد الروسي في المنظومة المالية والتجارية العالمية. وهذه القناعة هي التي يعبر عنها يوميًا لحلفاءه القلقين في صفوف الرأسمالية الروسية الاحتكارية. وفي المقابل، التقطت الإدارة الأمريكية الحالية، التقليدية كما قلنا، هذه المغامرة بوصفها فرصة لتوريط القوة العسكرية الروسية المتجددة، والضغط علي منافسها الأكبر في الصين، وطبعًا لابتزاز حلفاءها الأوروبيين، وجرّهم للترتيبات المألوفة بعيدًا عن القوى الجديدة الصاعدة، وهي الترتيبات التي سمحت للولايات المتحدة بوضعها المتميز سابق الذكر. فلم تلعب الإدارة الأمريكية أي دور يذكر في نزع فتيل الأزمة بل تركتها تتفاقم عن عمد، بالرغم من علاقاتها القوية بالنظام الأوكراني، وأحجمت عن تقديم أي تنازل يسمح بتأجيل الحرب على الأقل من قبيل التعهد بعدم توسيع حلف الناتو في الوقت الراهن مثلًا، أو دفع الحكومة الأوكرانية لقبول مبدأ التفاوض مع الانفصاليين في إقليم الدونباس. وزادت على ذلك حملة إعلامية منسقة تقطع الطريق على أي تفاوض يرعاه طرف آخر، وتدفع الطرف الأوكراني لمزيد من التشدد في مواجهة غير متكافئة على أي معيار.
قد يبدو سلوك بوتين والحال كذلك، وبدرجة أقل سلوك بايدن، “مجنونًا” لأصحاب الرؤى المثالية في عالمنا، وما أكثرهم. ولكن إن كان من جنون في هذا العالم فهو في الحقيقة هذا الجنون الذي هيمن على مر ثلاثة عقود وروج أن اقتصاد السوق غير المنظم، والإمعان في استغلال جمهور الكادحين، وتسليع ثرواتهم الطبيعية وما أنتجوه بعرقهم، يمكن أن يقود لتنمية أو أمن. هذا هو الجنون الحقيقي، حيث تنكرت النخب الحاكمة، والطبقات المالكة، في العالم غربًا وشرقًا وشمالًا وجنوبًا لدروس تاريخها نفسه، ولكل ما أنتجته الإنسانية في مسار تاريخها الطويل من معرفة تتجه عكس هذا الوهم بوضوح، كما أضاف البيان.
ويتابع الحزب “ولكن هل يعني تحليلنا السابق أن الحرب كانت حتمية بغض النظر عن من يطلق الرصاصة الأولى؟ بالطبع لا. كان هناك بديلًا آخر. فسنوات أزمة الليبرالية الجديدة الممتدة كانت هي نفسها السنوات التي شهدت صعودًا بطيئًا لنضالات ديمقراطية شعبية في معاقل هذا النظام، وفي أطرافه، داعية لنظام عالمي يختلف عن الوهم الليبرالي الجديد وعن التطرف القومي على حد سواء. وهي نضالات دفعت بتحالفات جديدة لمواقع السلطة في الغرب ذاته كما رأينا في حكومات سيرزا اليسارية في اليونان، ومشاركة أحزاب يسارية جديدة في الائتلافات الحاكمة في أسبانيا وألمانيا. وفي الجنوب، شهدت هذه السنوات عودة الحكومات اليسارية الجديدة في غالبية بلدان أميركا الجنوبية كما في الأرجنتين وتشيلي وبوليفيا والبيرو. بل وصل الأمر باحتمال وصول مرشح اشتراكي صريح، هو بيرني ساندرز، للمرحلة النهائية من الانتخابات الأمريكية في دورتين انتخابيتين متتاليتين، وتزعم جيرمي كوربن، ممثل يسار حزب العمال البريطاني، للحزب لمدة خمس سنوات انتهت بخسارته لمنافسة انتخابية متقاربة في ٢٠١٩. ومنطقتنا العربية كذلك شهدت جانبًا ملهمًا من هذه النضالات خلال حقبة ثورات شعوبها المغدورة، والتي كانت في جوهرها تمردًا واسع النطاق على الإفقار والتهميش الناتج عن هيمنة الليبرالية الجديدة. القاسم المشترك بين هذه النضالات كان السعي لتأسيس نظام عالمي بديل يقطع تمامًا مع الوهم القاتل بأن تعظيم الربح الخاص سيقود حتمًا للتنمية، والأمن بالتبعية. سعت هذه النضالات، ببرامجها المختلفة، لوضع رفاهية الغالبية الساحقة من الناس في موقع الأولوية بما يستتبعه ذلك من إصلاحات مالية ونقدية على الصعيد العالمي لا تهدف إلا لتلطيف جشع “الأوليجاركيات” في الشرق والغرب، وتوجيه الاستثمار لقطاعات مستدامة تضمن حياة كريمة للغالبية، وكذلك إنعاش المؤسسات الديمقراطية التي تسمح للشعوب بتقرير مصيرها والتخطيط لمستقبلها بحرية”.
هذه القوى الجديدة، بسقفها المتواضع، والذي لم يصل بأي حال من الأحوال لطموح الثورات الاشتراكية مثلًا الذي ساد في القرن الماضي، تعرضت لهجوم كاسح، اتحدّت فيه في الكثير من الأحيان القوى المتحاربة اليوم، سواء بالاستخدام الصريح للسلاح – كما حدث في منطقتنا العربية بالتنسيق بين الولايات المتحدة وروسيا في سوريا وليبيا – أو بالإنفاق المجنون لصناعة قوى متطرفة خرجت من رحم النخب القديمة ذاتها لمواجهة “خطر الشيوعية” المخترع، وما حالة الولايات المتحدة نفسها عنا ببعيد. هذا البديل هُزم في هذه الجولة ببساطة. والإشارة هنا للهجوم الكاسح عليه خلال السنوات السابقة، لا تهدف لتبرئته من أي خطايا ذاتية، ولكنها تعني فقط أن ثمة بديلًا للجنون الحالي كان قائمًا وقابل للتطوير، والتعلم من أخطاءه، ولكنه أُجهض، حسبما أضاف البيان.
ويرى الحزب ان البديل ما زال ممكنًا إذ يقول البيان “وبالتالي، فالموقف البديهي، والواقعي، الذي يجب على كل ساعٍ لضمان حياة الناس ورفاههم على هذا الكوكب هو إدانة الغزو الروسي، والدعوة للوقف الفوري للعمليات العسكرية، ومحاولة الوصول لأي تسوية سلمية للنزاع في أوروبا. لا نرفع هذا الشعار انحيازًا للقطب الأمريكي المقابل وحلفاءه، أو تصديقًا في عالمه الذي قادنا لهذا المأزق كما قلنا، ولكن نرفعه دفاعًا عن بديلنا المجهض والمحارب نفسه، والذي لا يمكن أن ينمو ويشتد عوده إذا ما ما أصبحت الكلمة للمدافع. لا يمكن للنضال الشعبي من أجل عالم بديل أن يُستأنف في ظل حرب كونية بين أطراف يستبد بها الهوس القومي إلى هذا الحد”.
وحسب البيان يقتضي هذا الموقف المبدئي تنسيقًا لجهود كل القوى السياسية والنقابية والمدنية الحريصة على إرساء سلام مستقر ومستدام في أوروبا وجوارها، ومنه منطقتنا العربية بالطبع، أن تضغط على حكوماتها بهدف:
• إلزام روسيا بوقف فوري وشامل لغزوها، وذلك عبر استخدام سلاح العقوبات بالطبع مع ضمان ألّا تمتد آثارها على أغلبية الشعب الروسي الذي لم يشعل هذه الحرب ابتداءًا، بل تحتج جماعات كبيرة منه بشكل شبه يومي ضد هذه الحرب وتواجه قمعًا وتنكيلًا واضحًا.
• تشكيل قوة أممية لمراقبة وقف إطلاق النار وحفظ السلام والمساهمة في عودة اللاجئين، وذلك بالتعاون بين المؤسسات القارية ومؤسسات الأمم المتحدة.
• إطلاق مفاوضات مباشرة بين الجانبين الروسي والحكومة الأوكرانية الحالية باعتبارها الممثل الشرعي الوحيد للشعب الأوكراني – أيًا كان تقييمنا لها – برعاية أوروبية تستجيب لشروط الواقع المتمثلة في التعهد بعدم توسع الناتو شرقًا، وضمان عدم نشر أسلحة هجومية في أوكرانيا تشكل تهديدًا للجوار الروسي، والتزام أوكرانيا الحياد حال أي صراع بين روسيا وطرف ثالث. وبالمناسبة أعلن الرئيس الأوكراني نفسه استعداده لمناقشة مبدأ حياد أوكرانيا في الأيام الأولى للغزو قبل أن يتراجع سريعًا عن إعلانه تحت ضغط أمريكي على الأرجح.
• إيجاد صيغة مناسبة لتقرير مصير شبه جزيرة القرم، بما في ذلك استفتاء جديد تحت إشراف أممي وأوروبي يضمن الحد الأدنى من الحرية والنزاهة.
• إطلاق مفاوضات مباشرة مع الانفصاليين في إقليم الدونباس علي أرضية الإقرار بحق تقرير مصير سكان هذا الإقليم، ووفقًا لمقررات اتفاقية منسك التي لم يلتزم بها الجانب الأوكراني.
نتفهم بالطبع التقديرات المتشائمة التي ترى أن الأهداف السابقة بعيدة المنال مع احتدام المعارك وصولًا إلي تهديد بوتين الإجرامي باستخدام الردع النووي. ولكن إن كان هناك بديل عقلاني وواقعي بخلاف ما ذكرناه يضمن حصار هذه الحرب قبل انفلاتها لرقعة جغرافية أكبر، وامتداد آثاراها خارج أوروبا، لكان ظهر خلال الأسابيع الماضية.
كما أننا نتفهم الآراء الشائعة في مصر وعالمنا العربي والتي تظهر قدرًا من الارتياح لمقارعة الولايات المتحدة بالسلاح، خصوصًا وأن منطقتنا ذاقت ويلات مضاعفة من الهيمنة الأمريكية المنفردة في العراق ولبنان وفلسطين، ناهيك عن أن إفقار شعوبنا وإذلالهم المستمر كان على يد حكومات صُنعت في الأغلب على عين الإدارات الأمريكية المتعاقبة. ولكن تفهم هذا الارتياح لا يجب أن يمنعنا من التنبيه للحقائق، ومن ضمن هذه الحقائق أن روسيا نفسها ساهمت كما قلنا في قمع ثوراتنا العربية، ومثال المجزرة السورية ما زال قائمًا ومتجددًا، بل إنها اليوم تمد أواصر التعاون مع كل النخب الحاكمة التي توغل في دمائنا من الإمارات إلى إسرائيل إلى تركيا وحتى السودان، وهي نخب تنوع عبر اقترابها من بوتين من إمكانيات وفرص حياتها على حساب أرواحنا ومستقبل أولادنا. تجاهل هذه الحقائق لا يعني إلا الاستسلام لروح عدمية مهزومة تتناسى تاريخها القريب جدًا والذي كانت فيه الشعوب، في منطقتنا العربية وكثير من بقاع العالم، قد بدأت تتلمس طريقًا بديلًا قد يفضي لتغيير قواعد اللعبة برمتها.
إن الهزيمة الحالية للمشاريع الديمقراطية الشعبية هي هزيمة مؤقتة بالضرورة. فبمجرد أن ينقشع غبار المعارك الأولى ستعود الأسئلة البديهية لتطرح نفسها مرة أخرى على شعوب منطقتنا والعالم، ويعود النضال من أجل شق مسار لعالم بديل. هذا هو درس التاريخ الذي لن يفلح كل مجرمي العالم في محوه من ذاكرة الشعوب.