القصة الكاملة لتاريخ مجمع التحرير ومصيره.. من الجلاء إلى اختيار تحالف أمريكي لتطويره بـ 3.5 مليار جنيه
كتب – أحمد سلامة
مع مطلع عام 1948، ومع تسلم المهندس محمد كمال إسماعيل إدارة مصلحة المباني الأميرية، بدأ في وضع تصميم لإنشاء مُجمع تابع للدولة المصرية يشمل عدة مصالح حكومية.. وفي عام 1949 وافق الملك فاروق الأول على إنشاء المبنى الإداري الضخم الذي يضم كل الخدمات التي تمكن المواطنين من تخليص أوراقهم من مختلف الهيئات الحكومية في مكان واحد.
تعود قصة “المجمع” قبل إنشاءه حينما كان مجرد أرض تنتشر فيها ثكنات عسكرية إنجليزية كثيفة، ترتكز وسط ميدان من أهم ميادين مصر، لتفرض سيطرتها على القاهرة شرقا وغربا، حتى جاء وقت “جلاء الإنجليز” عن منطقة قصر النيل في مارس 1947، ليُقرر حاكم البلاد حينها، استغلال تلك المنطقة، ميدان التحرير (المعروف وقتذاك بميدان الإسماعيلية)، في إنشاء كيان حكومي ضخم، ليقلل نفقات استئجار عقارات لشغل المصالح الحكومية، وإعجابا بفكرة “الشباك الواحد”، لتوفير الخدمات للمواطنين في منطقة واحدة، لينشئ “مجمع الحكومة”، والذي غُير اسمه فيما بعد لـ”مجمع التحرير”.
فكرة المجمع كانت قائمة إذن على أمرين، ترشيد الإنفاق، المتمثل في توفير نفقات استئجار العقارات الحكومية، والرمزية السياسية المتمثلة في استقلال حكومي -ولو جزئي- على أرض كانت محُتلة.
عندما تم افتتاح المجمع عام1951 كان تحفة يحكي عنها الكاتب أحمد فرهود قائلاً: “أعتبر العمل في المجمع نوعاً من الوجاهة الاجتماعية، المنخرط فيه لا بد أن يكون متأنقاً، ذلك أنه ذاهب إلى مكان شديد الاحترام، وسيجلس إلى مكتب في غرفة مستقلة، معه زميل أو زميلان على الأكثر، وإذا طلب شاياً أو قهوة فإن النادل سيقدم له المطلوب وهو يرتدي جاكتة بيضاء وبنطالاً أسود، عمال النظافة لا يتوقفون عن العمل، والسعاة يرتدون بزات صفراء، ودورات المياه، شأنها شأن الممرات البالغة النظافة، ما يدفع المرء إلى التصرف بتحضّر”.
بمرور الأيام، تحول مبنى مجمع التحرير إلى “مَعلَم جغرافي”، فقد كتبت صحيفة الأهرام في 18 ديسمبر 2015 “تحوّل المبني إلى معلم جغرافي (حدد موقع وشكل المجمع كمركز ثقل في المكان ملامح ميدان التحرير والشوارع المحيطة)، ومعلم هندسي (بخلاف الارتفاع وعدد الحجرات، بناه على شكل قوس وجعل له فناء داخلياً كالقصور القديمة التي تتميز بها العمارة الإسلامية)، ومعلم اجتماعي (منذ الخمسينيات حتى يومنا هذا يندر أن تجد عائلة مصرية لم يتردد شخص واحد منها على المكان لقضاء مصلحة ما)”.
حين شرع محمد بك إسماعيل في وضع التصميم لم يركن إلى الشكل الجمالي، وإنما غَلّبَ المنطق العملي، فالمبنى يشمل 13 طابقا بالإضافة للطابق الأرضي، بما يضم 1310 حجرات كاملة، فمجمع المصالح الحكومية المعروف اختصارًا بـ مجمع التحرير، ويسع تسعة آلاف موظف حكومي، ويتكون من 14 دورًا، وتكلف إنشائه قرابة مليونَي جنيه وقتها، وتم بنائه على مساحة 28 ألف متر وارتفاعه 55 متراً.
ومع توجه الحكومة إلى إنشاء عاصمة إدارية جديدة وصدور قرار من الرئيس عبدالفتاح السيسي، حمل رقم 459 لسنة 2020، بإزالة صفة النفع العام عن عدد من المنشآت المملوكة للدولة، ونقل ملكيتها لصالح صندوق مصر السيادي، ومن بينها “أرض ومبنى مجمع التحرير بمساحة 3.055 فدان” بدأ التفكير في “وضع المجمع” مع اتهامات لاحقته بالتشوه.
وفق ذلك القرار، ومع بدء التفكير في إخلاء المجمع كان هناك اهتمام بكيفية استغلال هذا البناء الضخم، وهنا ظهرت العديد من الاقتراحات، أقربها للتنفيذ هي تحويله إلى فندق كبير.. لذا يقول الدكتور أيمن عاشور، أستاذ العمارة والتخطيط العمراني في جامعة عين شمس في حوار صحفي قبل سنوات، “المجمع لا يكتسب قيمته من القدم أو من الشكل الفنى المميز، ورغم حداثة عهده وطرازه المعماري البسيط، إلا أنه يكتسب أهمية، وله مكان في عقل ووجدان المصريين، وبات جزءًا لا يتجزأ من ميدان التحرير، ويصعب تصور المنطقة دونه، كما أنه يعكس في الوقت نفسه الطراز المعماري الذي كان سائدا في تلك الفترة، من ضخامة البنايات، وكثرة الفتحات بها”.
وأضاف عاشور: “مشكلة المجمع في الخدمات الكثيرة وغير المتكاملة التي يضمها مكان واحد، لكن الاستخدام الواحد له سيحل مشكلات كثيرة، سواء كان هذا الاستخدام الجديد كمبنى إداري خاص، أو فندق، أو أي مشروع آخر، بشرط أن ينفذ بعد دراسة جيدة للمنطقة، خاصة أننا بصدد إحياء القاهرة الخديوية، ولذلك أعتقد أنه سيكون لـ(جهاز التنسيق الحضاري) دور في حسم أمر المجمع”.
غير أنه لم يكن لـ”جهاز التنسيق الحضاري” ولا للأيادي المصرية أي دور في “تطوير” مجمع التحرير، فقد ذهب التطوير إلى “تحالف ثلاثي أمريكي” وفق ما تم الإعلان عنه رسميًا.
ويوم أمس، شهد الدكتور مصطفى مدبولي، رئيس مجلس الوزراء، مراسم توقيع اتفاقية مع التحالف الفائز بتطوير وإعادة تأهيل مجمع التحرير، وذلك بحضور الدكتورة هالة السعيد، وزيرة التخطيط والتنمية الاقتصادية، رئيس مجلس إدارة صندوق مصر السيادي، وأيمن سليمان، الرئيس التنفيذي لصندوق مصر السيادي.
وجاء فوز التحالف الأمريكي، الذي يضم مجموعة “جلوبال فينتشرز”، ومجموعة “أوكسفورد كابيتال”، وشركة “العتيبة للاستثمار”، بعد عملية طرح استهدفت جذب مطورين وشركاء من كافة أنحاء العالم، متخصصين في إعادة تأهيل وتطوير المباني التاريخية، وتم تصفيتهم إلى ثلاثة تحالفات، ليفوز التحالف الأمريكي بأفضل عرض فني ومالي، هذا بالإضافة إلى ما يتمتع به التحالف من سابقة أعمال ثرية لتطوير مجموعة من المباني التاريخية في أمريكا وأوروبا.
ووقع اتفاقية اختيار التحالف الأمريكي الفائز كلٌ من: المهندس عمرو إلهامي، المدير التنفيذي لصندوق مصر الفرعي للسياحة والاستثمار العقاري وتطوير الآثار، وراندال لانجر، رئيس مجلس إدارة مجموعة “جلوبال فينتشرز”، وجون راتليدج، رئيس مجلس إدارة مجموعة “أوكسفورد كابيتال”، وعمرو شكري، رئيس قطاع تطوير الأعمال بشركة “العتيبة للاستثمار”.
وتصل إجمالي الاستثمارات التي سيتم ضخها في عملية التطوير إلى أكثر من 3.5 مليار جنيه مصري.. وحسب البيانات الرسمية فتتضمن استراتيجية الصندوق السيادي في هذا الشأن تطوير المبنى ليكون متعدد الاستخدامات (فندقي -تجاري- إداري – ثقافي)، وليتناغم مع طبيعة وجهود التطوير التي تقوم بها الدولة في منطقة وسط العاصمة والقاهرة الخديوية.
هالة السعيد، وزيرة التخطيط والتنمية الاقتصادية، رئيس مجلس إدارة الصندوق السيادي، أشارت إلى أن توقيع اتفاقية تطوير وإعادة تأهيل مجمع التحرير مع تحالف يضم 3 من أكبر الشركات الدولية المتخصصة في تطوير المباني التاريخية بالعواصم الكبرى، جاء بعد عملية طرح عالمي تنافست فيها كبرى الكيانات المحلية والعالمية التي تسعى للدخول إلى السوق المصرية لأول مرة.
أيمن سليمان، الرئيس التنفيذي لصندوق مصر السيادي، قال إنه باختيار التحالف الأمريكي الفائز، يبدأ مجمع التحرير رحلة جديدة، بعد انتهاء مهمته كمبنى حكومي عريق وعلامة مميزة في قلب القاهرة، ويتحول إلى مبنى متعدد الاستخدامات يجتذب السياحة العالمية وكبرى الشركات العالمية والإقليمية، ولتكون خطة تطوير المجمع وإعادة هيكلته نموذجاً في إعادة استغلال أصول الدولة المصرية.
على صعيد آخر، قال راندال لانجر، رئيس مجلس إدارة مجموعة جلوبال فينتشرز: “سعداء للغاية بدخول السوق المصرية لأول مرة بمثل هذا المشروع الاستثماري الضخم، ونأمل أن نساهم في تطوير المبنى التاريخي بما يليق بمكانته وأهميته لدى الشعب المصري”.. مضيفا أن مشروع مجمع التحرير يُعد هو الخطوة الأولى وباكورة استثمارات المجموعة في مصر، ولكنها لن تكون الأخيرة.
المهندس عمرو شكري، رئيس قطاع تطوير الأعمال بشركة العتيبة للاستثمار: “شرفنا باختيارنا ضمن التحالف الثلاثي العالمي لتطوير مجمع التحرير التاريخي، ونرى أن مهمة تطوير وإعادة تأهيل مجمع التحرير تمثل قيمة مضافة ستثري سابقة أعمال كافة الأطراف المشاركة، ونحن على ثقة أن خبراتنا الواسعة في مجال الاستثمار ستؤهلنا لجذب المزيد من الاستثمارات في مختلف القطاعات إلى مصر، حيث تستهدف الشركة جذب مشروعات بمليارات الدولارات في العامين المقبلين، ونأمل أن يكون مشروع تطوير مجمع التحرير هو البداية للعديد من المشروعات والاستثمارات الرائدة في المستقبل”.