إلهامي الميرغني يكتب: أزمة تنمية وليس انفجار سكاني

عادة ما تحمل الدول الفاشلة أزماتها علي المواطنين لتخلي مسئوليتها، وتحمل المواطن البسيط أعباء الأزمة. منذ السادات وحتي الآن يتردد بين الحين والآخر أن الزيادة السكانية تلتهم ثمار سياساتهم، وهي أكذوبة أطلقتها الأنظمة الفاشلة لتغطي عجزها وفشلها، عندما علق حسني مبارك فشل سياساته التنموية علي الزيادة السكانية، رد عليه الأستاذ الدكتور إبراهيم العيسوي بكتابه الهام “إنفجار سكاني أم أزمة تنمية” والذي نشره الدكتور العيسوي عام 1984، وفند خلاله كل إدعاءات مبارك بالإحصاءات والأدلة والبراهين العلمية، إنها أزمة تنمية فشلت في تحقيق المعدلات المطلوبة.

وعندما ردد النصاب يوسف بطرس غالي مستشار صندوق النقد الدولي حالياً، عندما كان وزير مالية مبارك في حكومة نظيف، نفس الفكرة بل وتحدث عن القفزة التي حدثت في نمو الاقتصاد المصري بفضل سياساتهم الفاشلة، رد الدكتور العيسوي وآخرون، بأنه نمو وليس تنمية ودحضوا رؤية جمال مبارك حول تساقط ثمار التنمية .

بعد 34 سنة من رد الدكتور العيسوي علي إدعاءات مبارك، يعود الرئيس السيسي ليردد نفس الأفكار القديمة البالية ليغطي بها علي فشل سياسات التنمية بالكباري والطرق والعاصمة الجديدة والقطار المونوريل مع ارتفاع حدة الفقر وانتشاره. فالزيادة السكانية هي الشماعة التي تعلق عليها فشل السياسات الاقتصادية وغياب التنمية.

مصر في تقرير التنمية البشرية

تقرير التنمية البشرية الصادر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي لعام 2019 وضع مصر في المرتبة 116 بين 189 دولة شمهلم الدليل لتكون الدولة الأخيرة في التنمية البشرية المرتفعة، ولكن لكي ندرك مدي التقدم الذي حدث علينا ان نعرف أن الدول التي بها تنمية بشرية مرتفعة جداً تضم إسرائيل في المرتبة 22 ، قبرص 31 واليونان 33 ، ولن نقارن وضع مصر بالدول النفطية الخليجية ولكن نقارنها بدول مشابهة لظروفنا، ومن الدول التي سبقت مصر في ترتيب تقرير التنمية البشرية نجد الأرجنتين في المرتبة 48 ، أرجواي 57 ، تركيا 59 .

أما الدول ذات التنمية البشرية المرتفعة والتي تعد مصر أخر دولة بها في الترتيب 116 مهم أن نعرف أنه سبقتنا في الترتيب دول مثل إيران، وسري لانكا، وكوبا، والبوسنة والهرسك، والجزائر في المرتبة 82 ، تونس 91، لبنان 93 ، الأردن 102 ، ليبيا الذي تمزقها الحرب الأهلية في الترتيب 110 وبوليفيا والجابون ثم تأتي مصر في الترتيب 116 . ولم يأتي بعدنا من الدول العربية إلا فلسطين والعراق والمغرب ثم سوريا وجزر القمر وموريتانيا والسودان.

هل سبب هذا الترتيب المتأخر هو الزيادة السكانية أم فشل سياسات التنمية ؟!

لنعود إلى تقرير التنمية البشرية 2019 لنعرف تقييم نتائج التنمية في مصر مقارنة بباقي الدول والتي وضعت مصر في الترتيب 116 لنجد الآتي :

  • معامل عدم المساواة بين البشر في مصر 28.7% بينما كان في الجزائر 19.7% وفي تونس 9% وفي الأردن 14.7%.
  • معامل عدم المساواة في التعليم 38.1% في مصر و 33.7% في الجزائر ، 32.8% في تونس و 15.4% في الأردن.
  • معامل عدم المساواة في الدخل في مصر 38.5% بينما يبلغ في الجزائر 11.4%، 18.9% في تونس و 17.9% في الأردن .
  • السكان المعرضون للفقر المتعدد الأبعاد بالنسبة المئوية في مصر 6.1% بينما النسبة 0.7% في الأردن و 3.7% في تونس و 5.8% في الجزائر و7.7% في سوريا و 5.2% في العراق و5.4% في فلسطين .

الفقر وعدم المساواة وعدم المساواة في التعليم كلها مؤشرات لسياسات تنموية ثبت فشلها، وموثقة في التقارير الدولية، ولا دخل للزيادة السكانية بها. بل هي مرتبطة بسوء توجيه الموارد واستنزافها والإغراق في الديون والتركيز علي أكبر مسجد وأكبر كنيسة وأعلي برج وإهمال البشر أساس التنمية وركيزتها الأساسية.

النمو السكاني في مصر والدول العربية

تشير بيانات التقرير العربي الموحد لعام 2019 الي نتائج مهمة مرتبطة بالسكان في مصر وباقي الدول العربية نذكر منها:

  • معدل النمو السكاني في 2017/2018 بلغ في مصر 2.3% بينما بلغ 2.6% في الأردن و 1.2% في تونس و 2% في الجزائر و 2.3% في العراق و 2.9% في فلسطين و 2.4% في موريتانيا .
  • معدل العمر المتوقع عند الميلاد بلغ في مصر 70.5 سنة بينما بلغ 74.5 سنة في الأردن و تونس 75.9 سنة والجزائر 77.6 سنة و سوريا 71 سنة، والعراق 70 سنة، وفلسطين 73.6 سنة، ولبنان 79.8 سنة، وليبيا 72.1 سنة، والمغرب 76.1 سنة . الا يعكس ذلك سوء الخدمات الصحية وضعف المخصص لها وارتفاع معدلات الفقر بما يؤدي إلى انخفاض العمر المتوقع عند الميلاد في مصر مقارنة بباقي الدول العربية .
  • ويؤكد ذلك مقارنة وضع مصر بباقي الدول العربية في معدل وفيات الأمهات لكل 100 الف مولود حي، ومعدل وفيات الرضع لكل 1000 مولود حي، ومعدل وفيات الأطفال دون سن الخامسة لكل 1000 مولود حي .

مؤشرات التنمية في تقارير البنك الدولي 2019

  • القيمة المضافة في قطاع الزراعة (% من إجمالي الناتج المحلي) بلغت في مصر عام 2019 نسبة 11% من الناتج محلي، بينما كانت 25.8% في أفغانستان، و 33.5% في اثيوبيا، 12.4% في الجزائر ، 19.5% في سوريا ، 12.2% في المغرب ، هل الزيادة السكانية هي المسئولة عن تراجع الاهتمام بالزراعة المصرية والاعتماد علي الاستيراد من الخارج ؟! أليست سياسات حكومية وتوجهات وانحيازات تدمر الانتاج القروي الصغير وتزيد فجوات الغذاء في مصر.
  • أرصدة الدين الخارجي (% من إجمالي الدخل القومي) بلغت 39.4% في مصر، بينما كانت النسبة 13.7% في افغانستان، و 3.3% في الجزائر و 25.5% في اليمن ، 47.2% في المغرب، 18% في بنجلاديش، 1.5% في إيران ، 30.4% في مالي.. هل الزيادة السكانية هي التي دفعت لزيادة الديون الخارجية لتمويل النمو المصطنع ؟! ألا يمكن الاعتماد علي مصادر تمويل أخرى كالنظام الضريبي بدل من الديون المحلية والخارجية ؟!
  • معدل انتشار سوء التغذية (% من تعداد السكان) بلغ 5% في مصر ، 3% في اسرائيل ، 3% في الجزائر والبرازيل، 4% في المغرب، و3% تركيا و5% في ايران . ألا يعكس ذلك أن سياسات التنمية بالمول والكمبوند والطرق والكباري لم تؤدى إلى تخفيف معدلات الفقر بل رفعتها إضافة إلى معدل سوء التغذية . ألا يعكس ذلك فشل سياسيات التنمية الحكومية وتحميل ذلك علي شماعة النمو السكاني .

إذن ما تعاني منه مصر هو فشل سياسات التنمية وانحيازات اقتصادية واجتماعية قادت لما تعانيه مصر اليوم. والزيادة السكانية يمكن التعامل معها كثروة بشرية وتنميتها وتطويرها بالتعليم والتدريب المستمر.لكن الأنظمة الفاشلة فقط هي التي تري السكان عبء علي التنمية وليس ركيزة للتنمية.

إذا كان معدل النمو السكاني 2.3% فإننا بحاجة لسياسات تنموية تحقق 7% على الأقل لتغطي فروق الزيادة السكانية، والتضخم، وتستطيع ضخ استثمارات جديدة ومشروعات انتاجية في القطاعات السلعية الزراعية والصناعية.

لتظل رؤية الدكتور إبراهيم العيسوي لازالت صالحة رغم مرور أكثر من ثلاث عقود علي إطلاقها، فهي بلا شك أزمة تنمية وليست إنفجار سكاني.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *