أحمد طه النقر يكتب: سد “الموت” الإثيوبي أخطر من كورونا.. فماذا نحن فاعلون؟!
ستمر محنة كورونا إن عاجلاً أو آجلاً كما مرت قبلها كثير من مِحن الأوبئة المميتة بعد أن حصدت أرواح الملايين ، مع كل الأمل في إحتواء قريب لهذه الكارثة دون خسائر بشرية فادحة.. ولكن مواجهة مرحلة ما بعد كورونا لن تكون بأي حال أسهل أو أقل صعوبة من المعركة الحالية..نعم هى معركة بمعنى الكلمة، بل يمكن إعتبارها دون مبالغة نوعاً من الحرب البيولوجية بين البشرية وعدو شرس تتمثل خطورته في أنه غير مرئي ومراوغ وسريع الإنتشار كما أن أنجع وأيسر طرق مواجهته هى عدم المواجهة، أي الفرار من أمامه وإلتزام البيوت والتباعد الجسدي والإجتماعي!!.. وهناك العديد من الدول التي شرعت في الإستعداد لمرحلة ما بعد الوباء ب”سيناريوهات” مختلفة تعتمد على تصور العواقب المتوقعة وسبل التعامل معها ، وخاصة في مجال الإقتصاد الذي سيتأثر الى أبعد الحدود نتيجة التوقف القسري للنشاط كلياً أو جزئياً..
غير أن مصر لن تواجه عواقب كورونا فقط، ولكنها ستواجه ما هو أخطر بما لا يُقاس وهو الآثار الكارثية لسد “الموت” الذي أعلن رئيس الوزراء الإثيوبي أن بلاده ستبدأ ، ومن طرف واحد، في ملء خزانه في موسم الأمطار المقبل، أي بعد أسابيع من كتابة هذه السطور!!..وإذا كان وباء كورونا كارثة مؤقتة، مهما كانت فداحة خسائرها، فإن السد الإثيوبي سيكون كارثة ممتدة ودائمة ومميتة بالنسبة لنا ما بقينا ملتزمين بهذا الموقف السلبي الغريب الغامض، أو العاجز، أمام التبجح والتصريحات العدائية الوقحة من قِبل نظام أديس أبابا، خاصة وأننا نواجه حالياً عجزاً مائياً يتمثل في نقص خطير في مياه الري في عدد من المحافظات منها السويس وبورسعيد على سبيل المثال لا الحصر.. وكان هذا النقص قد تسبب في دمار المحاصيل الزراعية وخراب بيوت الفلاحين في مناطق عدة بالمحافظتين في الموسم الماضي ، ناهيك عن سوء إدارة ما يتوفر من مياه للري بعد إعطاء الأولوية لمياه الشرب..
والغريب أن حكومتنا تتستر على هذا الوضع الكارثي وتُخفيه كأنه خطأ من جانبنا أو عيب فينا ، بدلاً من إعلانه على الملأ ووضعه أمام الجهات المعنية بمشاكل وأزمات المياه في العالم لكي تعلم أننا تجاوزنا مرحلة الفقر المائي وأن مواردنا المائية الحالية تقف عند حدها الأدنى الذي يعني انخفاضه موت الزرع والضرع ثم البشر!!.. أما الأغرب فهو أن أحاديث وتصريحات مسئولينا لا ترد على الإستفزاز والتحدي الإثيوبي بل تكاد تقتصر على كيفية إدارة مواردنا المائية “المتاحة” وترشيد استهلاكنا لمياه الري والشرب وإفتتاح محطات عملاقة لتحلية مياه البحر وكأننا نبعث برسائل غير مباشرة لإثيوبيا والعالم تفيد بتسليمنا بالأمر الواقع الذي تحاول أديس أبابا فرضه علينا ، وذلك موقف يرقى الى جريمة التفريط في حقوقنا التي تقرها كل الإتفاقيات والقوانين الدولية!!..
ومن سوء الحظ أن أفضل السيناريوهات المتاحة أمامنا للتعامل مع عواقب وباء كورونا وتجاوزها، مرتبطة الى حد كبير بإستجابتنا للتحدي الإثيوبي.. وأعني هنا توفير المياه اللازمة لنمو وازدهار القطاع الزراعي.. فمن المقطوع به أننا سنعاني مثل كل دول العالم من أزمة اقتصادية حادة تتمثل أخطر مظاهرها في نقص المواد الغذائية الأساسية، ومن هنا تأتي أهمية توجيه كل الجهود والإهتمام الآن وفوراً الى دعم الزراعة والمزارعين لتأمين الإكتفاء الذاتي من هذه المواد أو توفير أكبر قدر من احتياجاتنا منها على الأقل، وذلك لأنه حتى لو توفرت العملة الصعبة اللازمة لإستيراد المواد الغذائية فالأرجح أنه سيكون من الصعب الحصول عليها لأن الدول المُصدِرة ستعاني من نقص الإنتاج وبالتالي فإنها ستمتنع عن تصدير مواد هى في مسيس الحاجة اليها..وعليه لا مناص من التحرك من الآن لدعم القطاع الزراعي..ففي الأزمات الكبرى لن ينقذك سوى ما تنتجه يداك ، ومن حسن الحظ أننا على أبواب موسم جمع محصولين رئيسيين هما القمح والفول ، وأرى أن تتحرك الحكومة فورا لشراء كل الكميات المتاحة منهما من الفلاحين وبأعلى الأسعار كي نشجعهم على زراعة ما نحتاجه مستقبلاً تمهيداً لتطبيق الدورة الزراعية لتأمين احتياجاتنا من المواد الغذائية والمحاصيل الرئيسية وخاصة إذا طال أمد الوباء ، لا قدر الله..
لقد علمتنا التجارب والأحداث التاريخية الكُبرى أن الصديق الحقيقي هو صديقك وقت الحاجة ، وعلمتنا أيضاً أنه في مواجهاتنا المصيرية مع الأعداء الظاهرين والمستترين لن “يحك جلدك مثل ظفرك”..ففي حرب الإستنزاف التي أعقبت نكسة 1967 ، لم ينقذنا ويحول دون إنهيار البلاد تماماً سوى شركات القطاع العام التي فرطنا فيها وتخلصنا منها بأبخس الأسعار بعد انفتاح “السداح مداح” وتدشين المشروع الساداتي الكارثي..وفي المحنة الحالية لم نجد إلا مستشفيات الدولة وما تبقى من شركات قطاع الأعمال مثل شركة غزل المحلة التي سارعت بإفتتاح خط جديد لإنتاج الكمامات بكميات تجارية ، وشركات السكر التي وفرت احتياجاتنا من الكحول والمطهرات..ولم يقف مع العمال الغلابة سوى الرأسمالية الوطنية المنتمية لهذا الشعب مثل رجل الأعمال الطيب محمود العربي..أما مَن كونوا ثرواتهم وبنوا امبراطورياتهم في حقبة الإنفتاح ورأسمالية المحاسيب ، فقد أداروا ظهورهم للعمال وللمجتمع مع أول ظهور لأعراض الوباء!!..
أعرف أن نظام الحكم الحالي ، بإنحيازاته وانتماءاته النيوليبرالية المتوحشة ورضوخه لإملاءات صندوق النقد والبنك الدوليين، أبعد ما يكون عن التفكير في دعم الزراعة والمزارعين، رغم أنه الأمل الوحيد تقريبا لإنقاذنا من أزمة غذائية مؤكدة سيواجهها العالم كله ، فما بالنا إذا كان ينتهج سياسات ستؤدي حتماً الى التدمير الممنهج لقطاع الزراعة (رفع الدعم عن السولار وبنزين 80 وهما الوقود الرئيسي لكل ما يعتمد عليه الفلاحون من وسائل النقل وماكينات وآلات الري والرش ، على سبيل المثال) ، ناهيك عن عدم توفر مياه الري بإنتظام وهو الخطر الذي سيتفاقم الى حد الكارثة إذا ما فشلنا في التصدي للإستفزاز الإثيوبي..ولكني سوف اُحسن الظن بمسئولينا وأعود وأقول إن الخطر الوجوي الذي هز العالم وقلب موازينه ودفعه لإمعان التفكير في سيناريوهات ما بعد كورونا ، ربما يقنعهم بتغيير سياساتهم لمواجهة عواقب ما بعد الوباء ، والتصدي للخطر الوجودي الأكبر الذي يمثله سد “الدمار” الإثيوبي بإعتباره عدواناً سافراً وحرب إبادة شاملة ضد الشعب المصري!!..