أحمد سعد يكتب: المؤسسات الصحفية القومية والمسار المعكوس

يبدو أن هناك مسئولا ما عن اتخاذ القرارات في مصر يرغب في أن تسير المؤسسات الصحفية القومية عكس المسار الطبيعي الذي يجب أن تتخذه.

منذ سنوات، تم اختيار تشكيل الهيئة الوطنية للصحافة ومن ثم رؤساء المؤسسات القومية، والذي بدا لبعض المتابعين أنه اختيار على سبيل “المكافأة” لأعضاء “جبهة تصحيح المسار”، وهي الجبهة التي اتخذت موقفا مضادًا لنقيب الصحفيين يحيى قلاش ومجلس النقابة حينها على خلفية عدة قضايا كان أبرزها تبني النقابة لـ”مصرية تيران وصنافير”.

أثناء رئاسة محمد حسني مبارك الطويلة، كان الاختيار يتم من بين “أهل الثقة” وليس “أهل الكفاءة”، ورغم ما لهذه الطريقة من مساوئ كثيرة إلا أنها كانت تضمن إلى حد ما الحفاظ على قدر من الخبرة في الشخصيات المختارة، غير أن الأمر تراجع منذ ذلك الحين، فأصبح الاختيار يتم من بين “أهل المكافأة”.. تلك القيادات التي ظنت أنها قدمت الكثير وحان الوقت لتحصل على “نصيبها” من “كعكة المناصب القيادية”، وبالتالي صاحب الفشل معظمهم.

حين يتعامل القيادي باعتبار أن “الكرسي” الذي يجلس عليه هو “مكافأة” مستحقة فمن الطبيعي ألا يقدم تطويرًا مستحقًا للمؤسسة التي يرأسها.. المشكلة الأكبر أن عددًا ممن تم اختيارهم للمناصب القيادية بالمؤسسات الصحفية ليسوا أصحاب كفاءة في الإدارة ولا حتى هم محل ثقة في قدراتهم على تنفيذ “الرغبات الإعلامية”.

لذلك كان طبيعيا أن يخرج رئيس الجمهورية أكثر من مرة ليشكو ضعف الدور الإعلامي، بالطبع لم تكن المشكلة في الدور المنوط بالإعلام ولا في منهجيته الأصيلة.. لكن كانت المشكلة في اختيار الكوادر الإعلامية وطريقة إدارتهم.

منذ فترة انتظر الوسط الصحفي والإعلامي إجراء تغييرات تشكيلات الهيئات الثلاث (المجلس الأعلى للإعلام، الهيئة الوطنية للصحافة، هيئة الإعلام)، إلا أن المفاجآت كانت صادمة خاصة لكل من كان يرجو تغييرا وتطويرا حقيقيا في أداء هذه المؤسسات.. فالمسار كان معوكسًا تمامًا.

لم يبدأ المسار بقمة الهرم، لم يبدأ بتشكيل الهيئات، كذلك لم يبدأ باختيار رؤساء المؤسسات الصحفية، ولكن بدأ بانتخابات مجالس الإدارات والجمعيات العمومية بالمؤسسات!.. تم تجاهل التنبيه المستمر إلى أن ذلك لا يصح “أدبيًا” فالانتخابات يجب أن تُجرى في أجواء أكثر “صحيّة” دون وجود رؤساء مؤسسات يحشدون لصالح مرشحين بعينهم، وأن تتم الانتخابات في أجواء من الحيادية وعقب التغييرات المنتظرة، لكن ضُرب بهذه التنبيهات عرض الحائط.

وانتهت الانتخابات إلى ما انتهت إليه، وانتظر الجميع تغييرات الهيئات أو على الأقل تغييرات رؤساء المؤسسات من أجل انطلاقة جديدة تصحح أخطاء الفترة الماضية، إلا أننا فوجئنا بتصريحات رئيس الهيئة الوطنية للصحافة كرم جبر والتي قال فيها “إن المطروح هو إجراء مناقشات حول تشكيل تعيينات مجالس الإدارات بالمؤسسات القومية مع رؤساء مجالس الإدارات الحاليين ما لم يتم إجراء التغييرات”.

حسنًا، يبدو أن هناك من يرغب في أن يمارس الرؤساء الحاليين سلطاتهم في اختيار مستقبل المؤسسات، أن يختاروا العناصر التي اعتادت على التقرب للجالس على “الكرسي” بالطرق المشروعة وغير المشروعة.

الأمر نفسه يطرح تساؤلا حول ماهية العلاقة التي ستكون بين أعضاء مجالس الإدارات المُعينيين من الرؤساء الحاليين من جهة وبين رؤساء المؤسسات المرتقب تعيينهم من جهة أخرى، أرجو ألا يحاول أحد ما أن يقنعني بأن انتماء “المُعينين” سيكون لصالح المؤسسات فلو كان ذلك صحيحًا لما وصلت تلك المؤسسات -في ظل وجودهم أصلا في مناصب قيادية صراحة أو ضمنًا- إلى ما وصلت إليه من تردي في كافة الأوضاع.

إذا كان هناك رغبة حقيقية في تصحيح دور المؤسسات القومية، وهو ما أكده رئيس هيئة الصحافة كرم جبر، فإن ذلك يبدأ بتغيير الدماء.. لكن المسار الحالي يضمن عدم تغيير الدماء وإبقاء الأوضاع على ما هي عليه لسنوات قادمة.

ورغم التحفظ الدائم على اختيار رؤساء مجالس الإدارات لـ 6 أعضاء يتم تعيينهم من أصل 12 عضوا، على اعتبار أن ذلك لا يحقق الأداء القوي المطلوب في إدارة المؤسسات ويجعل الغلبة لرئيس المؤسسة والمحيطين به وليس لرغبات العاملين ممثلة في أعضاء منتخبين، إلا أن الجميع ارتضى الموقف القانوني الحالي لحين تعديله.. وبالرغم من ذلك يحاول البعض أن يُبقي على المشكلات داخل المؤسسات بصراع خفي بين قيادات انتهى دورها وقيادات يُنتظر توليها.

من الواضح أن هناك رغبة ما لدى شخص ما في أن يكون السير عكس عقارب الساعة، أو أن تبقى الأوضاع على ما هي عليه، وأن تُجرى الانتخابات والتعيينات في وجود قيادات “جبهة تصحيح المسار” التي مُني معظمها بفشل ذريع، ثم تُجرى بعد ذلك اختيارات رؤساء المؤسسات، يتلو ذلك اختيار تشكيل الهيئات.

إن “المؤسسات القومية” هي رمانة الميزان للعمل الإعلامي ككل، وإبقاء هذه المؤسسات في حالة الضعف التي تعانيها يُنذر بإبقاء الإعلام مكبل اليدين في حالة وهن وركود لا يستفيق منها، ويحولها لمهنة سيئة السُمعة.

أيها السادة المسئولين، لا تحدثونا بعد ذلك عن ضعف الدور الإعلامي إذا استمر هذا المنوال، لا تحدثونا على تطوير المؤسسات، لا تحدثونا عن التحديث، فللأسف يبدو أن البعض لا يرغب في تطوير ولا تحديث حقيقي.. يبدو أن البعض لا يرغب سوى في الحديث عن “الدمج” و”التصفية”. 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *