أحمد السيد النجار يكتب: ماذا يجري في أسواق النفط والغاز العالمية وما هو تأثيرها على أسعار البنزين والسولار والغاز في مصر؟
نشر الخبير الاقتصادي ورئيس مجلس إدارة الأهرام السابق، أحمد السيد النجار، تحليلا اقتصاديا، حول التغييرات في أسواق النفط والغاز العالمية، في ظل أزمة تفشي فيروس كورونا، وتأثيرها على أسعار الغاز والسولار في مصر، على صفحته على فيسبوك، واستعرض المقال تفاصيل ما يجري في سوق النفط وتأثير ذلك على اللاعبيين الأساسيين، والمستفيدين والخاسرين من هذه التغيرات، منتقلا لتحليل تأثير ذلك على الوضع في مصر، وتحديدا على أسعار البنزين والسولار والغاز في السوق المصري.
وإلى نص المقال كما نشره أحمد السيد النجار على صفحته على فيسبوك:
تشهد الأسواق الدولية للنفط والغاز انهيارًا مدويا للأسعار التي انحدرت إلى مستوى 23 دولار للبرميل في ظل التأثيرات الاقتصادية الانكماشية لفيروس “كورونا” وسياسة الإغراق التي تنتهجها السعودية حاليا في خضم التوتر النفطي مع روسيا. ومن المرجح أن يكون الانخفاض طويل الأجل حتى لو تحركت الأسعار لأعلى من القاع الذي تقبع فيه حاليا.
ورغم التوتر الظاهر بين روسيا والسعودية في أسواق النفط، إلا أن هناك مصلحة مشتركة للدولتين في تراجع الأسعار ولكن ليس لهذا القاع الذي وصلت إليه، مما يرجح تعاونهما مجددا لرفع الأسعار لتراوح في مدى الثلاثينيات دولار للبرميل. وتتمثل مصلحة روسيا والسعودية في بعض الإنخفاض لأسعار النفط لمستوى يدور بين 30 و 35 دولار أو حتى 40 دولار للبرميل في أن ذلك المستوى السعري يخرج منتجي النفط والغاز مرتفعي التكلفة وتحديدا منتجي النفط والغاز الصخري من السوق بما يتيح للسعودية وروسيا إمكانية استعادة وإحكام السيطرة على السوق ورفع الأسعار مستقبلا.
أما الخاسر الأكبر مما يجري من تطورات درامية في أسواق النفط والغاز فهي صناعة استخراج النفط والغاز الصخريين في الولايات المتحدة التي لم تعد مجدية اقتصاديا، وكذلك الأمر بالنسبة للشركات النفطية الأمريكية التي تعمل في استكشاف واستخراج النفط في بلدان أخرى مقابل حصص من الإنتاج تعادل احتياطيات دولة نفطية والتي ستخسر جبال من الأموال بعد انخفاض الأسعار.
أما الصين وهي أكبر مستورد للنفط في العالم فإنها ستحقق فائدة هائلة بانخفاض فاتورة وارداتها النفطية. وتبلغ وارداتها النفطية نحو 10 ملايين برميل يوميا، وبالتالي فإن انخفاض أسعار النفط بمقدار دولار واحد يقلل فاتورة مدفوعاتها النفطية بنحو 3,6 مليار دولار في السنة، أي أن استقرار سعر النفط عند 30 دولار للبرميل نزولا من نحو 60 دولار للبرميل قبل أزمة كورونا والخلاف النفطي الروسي-السعودي، سوف يوفر عليها نحو 108 مليار دولار في العام.
وصحيح أن أسعار النفط والغاز كانت ستتجه للتراجع على ضوء التخمة النفطية التي أوجدتها صناعة استخراج النفط الصخري الأمريكية، لكن تأثيرات فيروس “كورونا” التي تدفع الاقتصاد العالمي للانكماش وربما الركود، والتوتر النفطي الروسي-السعودي عجلت بانخفاض الأسعار وأوصلتها لمستويات بالغة التدني.
شكوى أمريكية ضد السعودية!
وفي الوقت الحالي تنظر وزارة التجارة الأمريكية في شكوى تقدم بها الملياردير “هارولد هام” مؤسس شركة “كونتيننتال ريسورسيز” ضد السعودية بشأن إغراقها للأسواق الدولية بالنفط لتخفيض أسعاره والإضرار بالمنتجين الآخرين وعلى رأسهم الولايات المتحدة. وتلك الشكوى محكوم عليها بالرفض في أي تقييم موضوعي لأن العنصر الأساسي في الإغراق هو تصدير السلعة بأقل من تكلفة إنتاجها بغرض الإضرار بالمنتجين المناظرين وهو أمر غير موجود مطلقا في هذه الحالة لأن تكلفة إنتاج النفط في السعودية وروسيا والعراق وباقي الدول العربية المصدرة للنفط وفنزويلا وإيران ونيجيريا وأنجولا وكازاخستان وأذربيجان تقل كثيرا عن أدنى سعر انخفض إليه النفط. وكانت المملكة قد قررت تخفيض أسعار النفط بمقدار 8 دولارات وبخاصة صادراتها المتوجهة لدول شمال وشرق أوروبا وهي أسواق رئيسية للنفط الروسي، وذلك ردا على رفض روسيا لخطة المملكة بتخفيض حجم الإنتاج اليومي من النفط بمقدار 1,5 مليون برميل لمدة 3 أشهر للحفاظ على الأسعار بعد انخفاض الطلب على ضوء التأثيرات السلبية الكبيرة لفيروس “كورونا” على النشاط الاقتصادي العالمي وعلى الطلب على النفط ومنتجاته. لكن المتضرر الرئيسي من ذلك التخفيض لسعر النفط هو الصناعة العملاقة لاستخراج النفط والغاز الصخري في الولايات المتحدة.
ويبلغ الإنتاج النفطي الأمريكي نحو 9,2 مليون برميل يوميا وغالبيته الساحقة أو نحو 8,7 مليون برميل يوميا من النفط الصخري. وهذا الإنتاج المرتفع التكلفة لن يصمد في المنافسة وقد يتوقف إنتاجه كليا وتعود الولايات المتحدة لمضاعفة وارداتها النفطية إذا ظلت أسعار الخام تحت 35 أو حتى 40 دولار للبرميل لمدة طويلة وهو ما تنويه السعودية وروسيا سواء بالاتفاق أو في خضم الصراع بينهما على حصة كل منهما في السوق النفطية العالمية.
مصالح روسية-سعودية مشتركة رغم التوترات الظاهرة
هناك مصلحة روسية-سعودية مشتركة من تخفيض الأسعار لإخراج المنتجين الحديين من السوق وبالتحديد منتجي النفط الصخري الأمريكي رغم التوتر النفطي الظاهر بين الدولتين. ويهيمن منتجي النفط الصخري الأمريكي حاليا على السوق الأمريكية العملاقة والتي كانت وارداتها الصافية نحو 6 ملايين برميل يوميا وأصبحت وارداتها الصافية حاليا نحو 1,2 مليون برميل فقط. كذلك فإن انخفاض أسعار الغاز يمكن أن يشل منتجي الغاز الصخري الأمريكي الذين كانوا يحاولون إزاحة روسيا ولو جزئيا من السوق الأوروبية ولو بالترهيب السياسي الذي يقوم به ترامب، وذلك بعد أن حولوا الولايات المتحدة إلى أكبر منتج للغاز في العالم منذ عام 2009، وإلى مصدر صاف للغاز منذ عام 2017 الذي أنتجت خلاله نحو 734,5 مليار متر مكعب من الغاز، مقارنة بنحو 635,6 مليار لروسيا الاتحادية، ونحو 223,9 مليار لإيران، ونحو 176,3 مليار لكندا، ونحو 175,7 مليار متر مكعب لقطر، ونحو 149,2 مليار متر مكعب للصين.
وتكمن مشكلة الولايات المتحدة في أن الأسواق العملاقة المستهلكة والمستوردة للغاز الطبيعي هي القارة الأوروبية (تستهلك 400 مليار متر مكعب سنويا تستورد 250 مليار منها) التي يفصلها عنها المحيط الأطلنطي، والصين (تستهلك 285 مليار متر مكعب وتستورد أكثر من 100 مليار متر مكعب منهم) التي يفصلها عنها المحيط الهادئ. وبالتالي لا يمكنها تصدير الغاز لتلك الأسواق إلا في صورة الغاز المسال وتكلفته أربعة أمثال تكلفة الغاز الطبيعي غير المسال. وبهدف إزاحة الغاز الطبيعي الروسي المهيمن على الأسواق الأوروبية أقامت الولايات المتحدة أول مشروع عملاق لإسالة الغاز في لويزيانا عام 2016 بما مكنها من التحول لرابع أكبر مصدر للغاز المسال بعد قطر واستراليا وماليزيا، وأصبحت تستحوذ على 13,5% من صادرات الغاز المسال في السوق الفورية العالمية، ولديها وفقا للنشرة الشهرية لمنظمة “الأوابك” 4 مشروعات عملاقة أخرى لإسالة الغاز بطاقة إجمالية 74 مليون طن تكتمل عام 2021. ومع انخفاض سعر الغاز الطبيعي أصبحت تكلفة إنتاج الغاز الصخري الأمريكي أعلى من سعر بيعه في الأسواق الدولية وبالتالي أصبح إنتاجه غير مجد اقتصاديا وأصبحت مشروعات إسالته وطموحات تمدد صادراته إلى أوروبا في مهب الريح!
وعلى أي حال فإن المصلحة الروسية-السعودية من تخفيض أسعار النفط والغاز واضحة رغم الخسائر الجانبية الكبيرة المتمثلة في انخفاض إيرادات الصادرات في الأجل القصير وربما المتوسط حتى لو عملت الدولتان على تحسين الأسعار عن مستواها الراهن وإبقائها عند مستوى 35 دولار للبرميل الذي تعجز عنده صناعة استخراج النفط الصخري الأمريكي عن المنافسة وتخرج من السوق. وسوف تتأثر السعودية من انخفاض أسعار النفط في الأجل القصير بصورة سلبية بأكثر كثيرا من روسيا صاحبة الاقتصاد الأكثر تقدما وتنوعا. وقد بلغ العجز المقدر في الموازنة العامة السعودية 50 مليار دولار تعادل 6% من الناتج المحلي الإجمالي. وهذا العجز يمكن أن يرتفع في ظل أسعار النفط الحالية (23 دولار للبرميل أو حتى عند الرقم المستهدف مرحليا 35 دولار للبرميل) إلى نحو 125 مليار دولار تعادل 15% من ذلك الناتج بما سيستنزف احتياطيات تلك المملكة التي تهدر الكثير من احتياطياتها في تمويل وارداتها العسكرية لإرضاء غول المجمع الصناعي العسكري الأمريكي، وتهدر الكثير أيضا في تمويل مغامرتها العسكرية الفاشلة في اليمن، وفي تمويل تأجيج الاضطرابات والمجموعات الانفصالية والإرهابية في سورية.
وكانت المملكة قد وضعت موازنتها على أساس سعر نفطي يزيد عن 65 دولارا للبرميل، بينما خططت روسيا موازنتها على أساس سعر 45 دولار للبرميل، وأشار وزير ماليتها مؤخرا إلى أن بلاده تستطيع تحمل سعر نفطي يتراوح بين 25 و 30 دولار للبرميل لمدة 10 سنوات. وعلى الأرجح فإن المستوى المنخفض لأسعار النفط حاليا سوف يستمر لسنوات طويلة حتى لو تحسن وارتفع ليدور حول مستوى 35 دولار للبرميل، وعلى كل من لهم صلة بالسوق وبالتعامل في أسهم الشركات العاملة في القطاع النفطي إجمالا أن يدركوا ذلك. كما أن أسعار صرف عملات البلدان المصدرة للنفط والمعتمدة على إيراداته في دعم عملتها سوف تتعرض لضغوط قوية في الفترة القادمة.
مصر وتأثيرات انهيار أسعار النفط والغاز
بالنسبة لمصر فإنها لن تستفيد أو تتضرر مباشرة لأن قيمة صادراتها من النفط والغاز متعادلة تقريبا عند مستوى 11,6 مليار دولار لكل جانب عام 2018/2019. وكانت الواردات أعلى كثيرا من الصادرات خلال الأعوام من 2013/2014 حتى 2017/2018. لكن دخول حقول الغاز الجديدة للإنتاج أدى لتوازن ميزان تجارة مجموع النفط ومنتجاته والغاز عام 2018/2019. لكن مصر ستضرر بصورة غير مباشرة من تراجع النشاط الاقتصادي في الدول العربية المصدرة للنفط وما يترتب عليه من انخفاض في أجور وتحويلات المصريين العاملين في تلك البلدان. وكانت تحويلات المصريين العاملين في الخارج قد بلغت نحو 25,2 مليار دولار في العام المالي 2018/2019، وبلغت نحو 6,7 مليار دولار في الربع الأول من العام المالي 2019/2020. وقد يساهم ذلك الأمر في تعميق الركود في سوق العقارات الراكدة حاليا بالنسبة للعقارات الفاخرة وفوق المتوسطة باعتبار أن الطلب الآتي من العاملين في الخارج يشكل محركا أساسيا لسوق العقارات ومانعا من انفجار الفقاعة العقارية، وبالتالي سيؤدي تراجع ذلك الطلب إلى حدوث أزمة في تلك السوق العملاقة والصناعات المرتبطة بها.
لكن أكثر ما يهم المواطن المصري من انخفاض أسعار النفط والغاز عالميا هو أن ذلك الانخفاض من الضروري أن يترتب عليه تخفيض أسعار البنزين والسولار والغاز وفقا لما اتبعته الدولة من ربط تسعيرهم بالأسعار العالمية عندما كانت تلك الأسعار مرتفعة، ولا يجوز أن تتجاهل تلك القاعدة بعد انخفاض الأسعار العالمية الذي سيكون طويل الأجل على الأرجح حتى لو تحرك سعر البرميل إلى 35 أو فوق مستوى 40 دولار في ذروة ارتفاع الحرارة في فصل الصيف في النصف الشمالي للكرة الأرضية. وقد انهار سعر النفط مؤخرا ووصل إلى أقل من 23 دولار للبرميل. وينتج البرميل الواحد من النفط 159 لتر في المتوسط منها نحو 72 لتر من البنزين، ونحو 45 لتر من الديزل، ونحو 15 لتر من وقود الطائرات، ونحو 7,6 لتر من الغاز النفطي المسال، ونحو 3,8 لتر زيت وقود ثقيل، إضافة إلى الأسفلت والقار والبتروكيماويات. وبأخذ تكلفة تكرير النفط وضريبة القيمة المضافة في الاعتبار، فإن هناك ضرورة لتخفيض سعر البنزين والسولار والغاز الطبيعي احتراما للقاعدة التي استنتها الدولة بتغيير السعر على ضوء حركة الأسعار العالمية.
الشركات العالمية الكبرى من متحكم إلى متلقي
أما الشركات النفطية العالمية الكبرى التي تتحكم عادة في حركة السوق، فإن اتخاذ الدول لقرارات مؤثرة بقوة على السوق واتجاهات الأسعار يجعلها في وضع المتلقي وليس المتحكم. وتلك الشركات سوف تتعرض لخسائر جسيمة ولتراجع كبير في أسعار أسهمها بسبب الانخفاض غير المخطط له للأسعار والذي يمكن أن يستمر لفترة طويلة، وذلك ببساطة بسبب انخفاض قيمة حصتها الكبيرة من النفط الذي تقوم بالتنقيب عنه واستكشافه وإنتاجه للدول صاحبة الموارد النفطية مقابل نسبة من الخام المكتشف والمنتج. لكن تلك الشركات لا تستسلم بسهولة وجعبتها متخمة بالحيل والألاعيب التي ستستخدمها لاستعادة تحكمها وسيطرتها على أسواق النفط وحركة أسعاره.
ومن المنطقي أن تقوم الولايات المتحدة بزيادة مشترياتها من النفط الرخيص للاستهلاك والتخزين، لكن استثماراتها الضخمة في استخراج النفط الصخري من خلال 821 حفار عملاق تعمل الآن سوف تصبح مشلولة وبلا فاعلية أو عائد وستفقدها عشرات الآلاف من الوظائف والدخول المرتبطة بها التي كانت تشكل جزءا من الطلب الفعال المحرك للاقتصاد. كما أن التحول التدريجي نحو السيارات الكهربائية قد يجعل العودة لاستخراج النفط الصخري مجرد سراب حيث سيظل العالم يعتمد على النفط الأقل تكلفة لأكثر من خمسة عقود قادمة إلى أن ينتهي عصر النفط وتحل محله مصادر متجددة ونظيفة للطاقة في غالبية أوجه استخدامه وعلى رأسها السيارات ومحطات توليد الكهرباء.
أحمد السيد النجار