محمد رفاعي يكتب: اقتصاد الرجل الأمّي الفقير.. عن استعادة مقوماتنا الاقتصادية

ورث الرجل االمصرى الأمّي من أسلافه كل أنواع المعرفة التى تساعده فى تيسير أموره المعيشية ،حتى عهد قريب كنا نرى الفلاح والتاجر والصانع الحصيف والحرفى المتقن، على دراية وخبرة واسعة تؤهله للوصول إلى أحسن وأجود إنتاج بأقل وأبسط الأمكانيات المتاحة.

 ورأينا الفلاح يمارس ثلاث مهن فى وقت واحد، ويجد الوقت الكافى والجهد والهمّة المطلوبة ليمارس نشاطه الإجتماعي الكامل.

وكان هذا الفلاح يعرف جيداً أنسب مواعيد الرزاعة، والرى وكمياتها، يعرف تماماً متى يملأ حقله بالماء ومتى يعطشه والوقت المناسب تماماً لري البذور وحصادها، وكان لا يحصد محصوله قبل أن يختار وينتقى أحسن البذور وأصلحها للزراعة للموسم القادم ، وكان يعرف كيف ينتقى السلالة المناسبة من الأبقار والجواميس والدواب، على أساس من الخبرة لما يناسبه، ويختبر من ذرية البقرة الحلوب أو الممتلئة باللحم أو القوية الطيّعة التى تساعده فى أمور حياته وحقله، وهى كانت الوقود الرخيص والطاقة الرئيسية التى لا تلوث البيئة بل تنميّها، وكان الفلاح يحرث بها أرضه  ويدرس أجرانه ويدير ساقيته وكان ينتقى كذلك السماد الطبيعى  المناسب لكل زرع وتربة وكان يحصل عليه من بيئته سواء كانت زراعية أو صحراوية .

وكان يحسن استغلال كل شيىء موجود ومتوفر تحت يده، وفى بيئته، بدءأ من استغلال الهواء ونسبه واتجاهه فى تصميم مبانيه، وهى ذات التجربة  والنظرية الرائدة  التى دعمّها وسار على هداها عملياً ونظرياً رائد عمارة الفقراء المهندس “حسن فتحى”.

وهذا الفلاح يصنع أثاثه من الأشجار التى يغرسها على رأس حقله أو على شواطىء  قنوات الرى. وكان يصنع طعامه من قمحه وشعيره ومن لبن مواشيه بأنواعها “ماعز، أغنام، أبقار.. الخ . ويعرف كيف يخزن منتجاته الرزاعية لسنوات دون أن تسوء أو تتلف. 

وكان يصنع من جريد النخيل التى تعتبرها خامة اقتصادية ، أثاث بيته، سلاّله التى تحفظ فواكه ودواجنه، ومن ليف النخل يصنع الحبال التى يحسن استغلالها فى أشياء متعددة .

هذا الفلاح  لا يحرق أى مخلفات تنج من زراعاته ، بل كان يستغلها أحسن استغلال، وحتى البناتات التى تنمو عشوائياً على أطراف الحقل مثل نبات الحلفا أو ما ينمو داخل مياة الترك والبرك مثل نبات الفارسي أو السمّر، كان ينظف مصادر المياه جيدا حتى لا تلوث المياة أو تركّد، ويصنع من هذا النبات حصيراً يجلس وينام  عليه  لسريره أو مصطبته أو لأرض بيته أو لمصلاته.

ورأينا كيف صنع الرجل الأمى الأنوال ويغزّل عليها من صوف أغنامه ووبّر أبله، وقطن غيطه ملابس وشيلان وسجاد راقى.

ومن خشب الشجر يصنع السواقى والدكك والنوارج والمحاريث وكل أثاثه ويشّكله بزخارف ومنمنمات غاية فى الدقة والجمال.. وكيف يصنع من الطمّى والطين أدوات لمائدته من فخار وخزف .

وكان الفرد الفلاح الأمى يجلس فوق مصطبته تحت الشجر وحوله عائلته وأفراد من قبيلته أو قريته يقص عليهم الحكم والمواعظ والحكايات الشعبية التى توارثها من أسلافهم فتمتد الخبرة العملية والحياتية من جيل الى آخر.

آلم تكن هذه الخامات والقوى الطبيعية تسير حياة المصريين قديماً وحتى عهد قريب؟. أين ذهبت هذه الأستراتيجية والعقول الواعية المتفتحة والآيدى المدربة التى لا تكن ؟ هل سحقت تحت غول التحديث والتعليم الذى لا يراعى معايير المجتمع واحتياجاته لا تستوعب مهارات وقدرات وامكانيات أفراد المجتمع؟؟.

 متى نتوقف عن استيراد مناهجنا التعليمية، من بيئات لا تناسب مقوماتنا البيئية والحضارية؟ متى نبدأ  فى رسم استراتيجية للتعليم المهنى للصناعات الحرفية البيئية والتقليدية لاستعادة هويتنا الثقافية واقتصادنا الوطنى المستقل الذى يراعى امكانياتنا.

 إن دولاً عريقة متقدمة ولها القدرة  تنافسية عالية، قامت على منهج إعادة تراثها الثقافى وفنونها الشعبية، وقامت الصين بثورة ثقافية فى الأربعينيات والخمسينيات قبل أن ينطلق المارد الصينى العملاق القادر على مناطحة أمريكا.  

ليست هذه دعوى العودة إلى الماضى أو تذكره أو العيش فيه، إنما هى استعادة مقومات ثقافة كل أمة، وقدرتها على حسن استغلال ما تملكه من مقومات اقتصادية تناسب امكانياتها وطموحاتها، هى المعيار الوحيد القادر على أن تقدم  أنجع الحلول لمشاكلنا، تلائم كل عصر.        

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *