خالد حمزة يكتب: شدة المستنصر وورطة السد وفوبيا الكورونا

يا خفى الألطاف .. نجنا مما نخاف

قالها المصريون عبر تاريخهم آلاف المرات .

 إلا أن أكثر الكوارث فتكًا وأعتاها قساوة وأبشعها صورًا كما صورها تاريخ المقريزى وأب أياس؛ كانت الشدة المستنصرية التي ضربت مصر في عهد الخليفة المستنصر بالله الفاطمي

 انخفض منسوب المياه وجفت الأراضي الزراعية، مات النبات وهلك الحرث والنسل ، وفقد الناس أعمالهم وفقدت الأموال قيمتها، شح الرزق وخابت الأماني وظن الناس أن الساعة كادت أن تقوم .

والغريب .. أن المستنصر لم يكن ظالمًا، بل كان على العكس تمامًا، فلقد كان حاكمًا عادلًا حسن السيرة محبوبا من رعيته، وكان نسبه يمتد إلى الإمام علي بن أبي طالب. وُلد المستنصر في سنة ٤٢٠ هجرية وأصبح وليًا للعهد وهو ابن الثمانية أشهر. وتسلم أمور الحكم وهو ابن السابعة.

ونظرًا لحداثة سنه وتعاظم شئون الحكم عليه، أصبحت أمه وصية عليه؛ واستبدت بزمام الحكم حتى يبلغ أشده؛ ويستطيع أن يتولى أمور الدولة. إلا أن فترة الوصاية طالت كثيرًا؛ وامتدت وكانت أمه تتدخل في شئون الحكم؛ حتى بعد توليه أمور الدولة بشكل كامل؛ وكان لهذا تأثير عظيم على الدولة وأحد أسباب الشدة

عاشت مصر في بداية عهد المستنصر في رخاء شديد؛ وشهد الاقتصاد ازدهارًا واسعًا لم يشهده منذ أزمنة بعيدة. حتى أن أبواب القصر كانت مفتوحة للعامة، والأدوية داخل القصر كانت توزع على العامة بالمجان. وظل الحال هكذا حتى حدث ما لا يحمد عقباه؛ وتعاقبت الأحداث العظام المسببة للشدة المستنصرية التي ذهبت بعظمة الدولة

ولم تكن الشدة المستنصرية هي الأزمة الاقتصادية الأولى التي ضربت مصر في عهد المستنصر؛ بل سبقتها إحدى الأزمات الشديدة. فقد كانت من التقاليد المتعارف عليها لإدارة شئون البلاد؛ أن يقوم الخليفة بشراء غلة بقيمة مائة ألف دينار سنويًا؛ حتى يستطيع أن يسيطر على الأسواق وأسعار السلع؛ الأ ان كبير وزرائه أشار عليه  بأنه لا داعي لشراء هذه الغلة. ولقلة خبرة الخليفة وعدم امتلاكه لرؤية ثاقبة وبصيرة لامعة انصاع لنصائح وزيره الغشيم حتى حدث ما لم يحمد عقباه

وفي العام ٤٤٤ هجريًا أصابت الأقدار غير المحمودة مصر، حيث انخفض منسوب المياه اللازمة للزراعة، فشحت الغلة وارتفعت الأسعار. وما زاد الطين بلة أن التجار ازداد جشعهم فاستغلوا المواقف العصيبة، وسارعوا لتعطيش السوق وتخزين الغلال؛ ولم يعد هناك ملجأ سوي الغلة المخزنة في المخازن السلطانية التي لم يعد الخليفة يشتريها . ولكي يصلح الوزير ما قام بتخريبه؛ قام بمصادرة القمح من مخارن التجار وأودعها في المخازن السلطانية؛ كما قام الخليفة بالتفاوض مع ملك الروم لاستيراد أربعمائة ألف أردب من القمح. لكن الصفقة لم تتم بسبب وفاة الملك. وظلت الأزمة لمدة عشرين شهرًا حتى منّ الله على مصر؛ ففاض نيلها وعادت الأوضاع إلى حالها الأول وارتوت الأراضي ونبت الزرع من جديد

وكان الفصل الثاني من الأزمات الاقتصادية في عهد المستنصر؛ هو الأشد فقد انخفض  منسوب المياه، ولكن ما جعلها أعتى أزمة مرت بها مصر هو أسبابها الأخرى. وكان السبب الأول هو تدخل أم المستنصر تدخلًا فجًا في أمور الحكم، فأصبح منصب وزير الدولة يعطى لمن تريد دون سواه. وتعاقب الوزراء عليه حتى إن التاريخ يذكرنا أن الحال قد وصل في فترة من الفترات بتبديل الوزير أسبوعيًا وأحيانًا يوميًا! والسبب الثاني هو الحرب التي دارت بين الجنود وبعضهم البعض، فقد كان الجيش الفاطمي يتألف من الأجناد التركية الذين تحالفوا مع جنود البربر؛ وطردوا الجنود السودانيين من القاهرة إلى الصعيد. وحين وصلوا لهناك؛ عاثوا فيها فسادًا وعملوا على نشر الفساد وتعمدوا إفساد نظام الري؛ لنشر القحط أكثر مما كان بسبب انخفاض منسوب المياه. أما عن الأتراك فلقد غدروا بالبرابرة وطردوهم من القاهرة إلى وجه بحري؛ وسيطر الأتراك على القاهرة ونهبوا قصور الخليفة وأسرته؛ وتقطعت أوصال المحروسة وانقطعت طرق نقل البضائع.. فبدأت المجاعة الكبري 

ولم يعرف المصريون سنين عجاف كهذه السبعة التي أذلتهم،  ففقدوا الغلة والقمح واللحوم وغيرها من صنوف الطعام. واضطروا لأكل الميتة والجيف حتى أصبحت الكلاب والقطط تباع بأسعار باهظة لا يقوي عليها إلا كل ثري. وبعد فترة ليست بطويلة اختفت الكلاب والقطط من الشوارع، أما عن سعر رغيف الخبز فلقد بلغ خمسة عشر دينارًا وثمن البيضة الواحدة من بيض الدجاج عشرة قراريط! أما رواية الماء فقد بلغ سعرها دينارًا

ولأول مرة في تاريخ المحروسة.. أكل المصريون بعضهم، وبدأت هذه الفاجعة بعد حدوث واقعة سرقة بغلة الوزير، فلقد ألقى الوزير القبض على ثلاثة ممن أكلوا بغلته وقام بصلبهم. وعند الصباح لم يتبق من هذه الأجساد سوي العظام حيث التهم الناس لحومهم من شدة الجوع؟! وذٌكر أن هنالك زقاق يسمي بزقاق القتل كانت المنازل فيه منخفضة فعمل سكانها على إنزال الخطاطيف؛ يصطادون بها المارة ومن ثم أكلهم

ويذكرأبن أياس.. أن امرأة باعت عقدًا ثمينًا له قيمته بحدود الألف دينار لتحصل على القليل من الدقيق. لكن الناس نهبوه منها وهي في طريقها إلى المنزل؛ ولم يتبق لها من الدقيق سوى ما يكفي لخبز رغيف واحد؛ فأخذت الرغيف ووقفت على مكان مرتفع؛ وصاحت بأعلى صوتها: يا أهل القاهرة ادعوا لمولانا المستنصر بالله الذي أسعد الله الناس في أيامه وأعاد عليهم بركات حسن نظره؛ حتى حصلت على هذه القرصة بألف دينار؛ ووصلت الأزمة إلى المستنصر نفسه.. فلم يعد هناك في حظيرته من الدواب شيء؛ وباع رخام قبور آبائه وأجداده من أجل الحصول على الطعام؛ ووصل به الحال الى إنه أصبح مدينا بحياته لابنة أحد الفقهاء التي اطعمته تصدُقا برغيفين يوميا. ومات ثلث سكان المحروسة وبيعت بيوت ثمينة لشراء أرغفة العيش؛ وطحنت المجاعة الشعب أكثر حتى بلغ السيل الزبى. ولم يستطع الخليفة التحمل أكثر، لذلك طلب يد العون من بدر ابن عبد الله الجمالي؛ بعد أن فقد العديد من البلدان التي كانت تحت ملكه وانخفض عدد المدن بعد أن انفصلت العشرات منها. انتهت الشدة المستنصرية على يد الجمالي الذي اشترط أن يأتي برجاله؛ وأن يفرض سلطته؛ وأن يعيد الأمور إلى نصابها بقوة السلاح. وهو ما وافق عليه المستنصر. وبعد أن عُين الجمالي وزيرًا للدولة؛ عمل على إصلاح نظام الري وقنوات الري التي فسدت واهتم بالزراعة؛ بعد أن قام بمحاربة الجند المتناحرة وطردهم من المحروسة؛ وجعل المحصول كله للفلاحين أول ثلاث سنوات ثم طلب منهم الضرائب في السنة الرابعة وبعد سبع سنوات عجاف على مصر.. فاض نهر النيل من جديد وانقشعت الغمة. وخلد المصريون ذكرى الوزير الجمالي؛ بأن أطلقوا اسمه على أحد أشهر المناطق والأحياء الخالدة في المحروسة وهو حي الجمالية

يا خفى الألطاف .. نجنا مما نخاف

 ولكن لماذا هذا الكلام الأن ؟ الأجابة ببساطة هى : تذكيرالناس خاصة البسطاء منهم؛ الذين لا يملكون من قوت يومهم الا الكفاف؛ أن مصر عانت كثيرا طوال تاريخها الممتد؛ وأن كل حاكم كان يأتى ليحكم ويتحكم فى البلاد والعباد؛ ويأخذ منها حتة أو هبرة فى بعض الحالات؛ ثم يمضى لأنه لا دايم الأ الله وحده؛ وقد ترك وراءه ما له وما عليه

ولأن البلاد والعباد تعيش هذه الأيام شدتين لا تقلان خطورة عن الشدة المستنصرية وهما : كورونا وسد النهضة . الأولى تنتشر بخبث ودهاء ولا أحد يعرف أن كانت ستتوقف برحمة الله؛ أو بقدوم الصيف أو بدعاء الوالدين ؟ّ والثانية لا أحد يعلم إلى أين ستقودنا بعد أن ظهرت نوايا الأثيوبيين والسودانيين من إبرام أى أتفاق؟ وما سيعنيه ذلك من تعرض البلاد والعباد لشدة نرجو ألا تصل للشدة المستنصرية؟ ووقتها هل ينفع خبير أو وزير؛ أم ستدعون الله أن يعيد لكم ابن بدر الجمالى من قبره؟ّ

3 thoughts on “خالد حمزة يكتب: شدة المستنصر وورطة السد وفوبيا الكورونا

  • 11 مارس، 2020 at 1:57 م
    Permalink

    ياخفى الألطاف نجنا مما نخاف..الجهل حين يقترن بالفساد والاستبداد. تلك هى شدتنا المصرية الحقيقية الآن

    Reply
  • 11 مارس، 2020 at 6:20 م
    Permalink

    الله الله وكاننا نعيش فى عصر المستنصر

    Reply
  • 11 مارس، 2020 at 7:54 م
    Permalink

    التلريخ يعيد نفسه فى مصر فقط ؟!

    Reply

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *