حنان فكري تكتب: ممنوع الدفن.. بين ختم اللإنسانية والفزع الوحشي

إنه موسم سقوط الأقنعة، وكشف المستور، ففى الوقت الذي  خيم الصمت فيه على الخائفين، وباعد الخوف بينهم، عزل ملوكاً وأمراء، وأغلق قصوراً وزنازين ولم يفرق بين مدرك وواع وغير واع ، فالكل خائف، والكل صار سواء، ففي الوقت الذي نحتاج فيه لسيادة لغة الإنسانية،  تطفو على السطح نفوساً احتكرت اللإنسانية، وتلفحت بالتدين المزيف طويلاً، وصارت لا تحمل من الأخلاق إلا ستاراً لجلد الآخرين، ولا تحمل من الدين إلا كلاماً أجوفاً للتشدق به والتسلط على مخاليق الله، صارت دواخلهم نحاساً يطن وصنجاً يرن، وحينما حلت الجائحة، كشفت الداخل المشوه، الجاهل، الأناني، كشفت مدى التخلف والضعف، وانعدام الإنسانية، الذى يصيب البعض اذا ما انتابه هوس الموت بكورونا، وتخوفات الإصابة بالعدوي، وبدلاً من التوجه للمسؤولين للتأكد من عدم وجود خطورة، صب الناس غضبهم على الجثة.

 تلك الممارسات التي تعود لانعدام الوعي، وغياب الشفافية، وغياب الترابط بين افراد المجتع الواحد، لم تقتصر على واقعة وحيدة، وهى واقعة منع بعض الأهالي، فى الدقهلية دفن جثة الطبيبة المصابة بكورونا، فى مدافن أسرتها ،بل تكررت وقائع مماثلة فى عدة قرى، كشفت عن وجه لم نكن نعلم عنه شيئأً من قبل، وللأسف بثتها كافة قنوات العالم، وصدرت مشهداً مسيئاً عن المصريين جميعاً.

كشفت وجهاً وحشياً لا أعلم إلى أي جنس ونوع سوف ينتمي اذا ما امتدت الأزمة وتوحشت على البشرية كلها، وتعقدت الأمور أكثر مما هي عليه الآن، ماذا قد يحدث لو طالت الغمة، ولم تنكشف، وصار الناس من كرب الى كرب، فى معيشتهم، وصحتهم، وتبدلت القوة المانعة الى خائرة، والشبع الى جوع، والسيطرة على المرض الى انفلات وضحايا، فى كل أرض وليس فى المدافن فقط؟ ماذا سيفعل أولئك الذين كشفت الجائحة عن همجية مختبئة فى عقولهم ونفوسهم، همجية تحركها الأنانية دون رادع، ودون تفكير، فاذا فكر احدهم قليلاً سيجد انه قد يصاب، فى أية لحظة، ويلتقي مع نفس الحمقي ليقذفوا صندوقه أو صندق عزيز لديه بذات الأحجار، احجار الوصم الذى لا ذنب لأحد فيه،  والكارثة الكبرى، ما أبرزته مقاطع الفيديو المصورة من اشتباكات بين الخارجين عن القانون وبين افراد الداخلية وأسرة المتوفية، ما كل هذا التدني؟ ما كل هذا التجمهر ، الذي يعكس شيوع الفكرة المنحطة، التي تنطوي  على تنمر بالموتي وأسرهم.

ففي الوقت الذي اعتلى “كورونا” فيه عرش القمع وتقويض حرية التنقل، ولم يفرق بين أمير وخفير، وحبس كل الناس ليس فى منازلهم فقط، بل فى اجسادهم، حتي صاروا يخشون المصافحة باليد، تقدمت الطواقم الطبية لتقوم بواجبها، وبالرغم من ذلك لم يحترم المجتمع موتاهم، الذين يرتقون لمرتبة الشهداء فى زمن كورونا،  فاليوم يطال الوصم الطبيبة المتوفاة، وبالأمس والد طبيب، وقبلهما ممرضة قادمة من العزل، الكل مختوم بالوصم، جميعهم يبحثون عن الإنسانية التي يتشدق الجميع بها، بينما يغيب السلوك الذي يُعلن عنها، وبينما تفتقر الطواقم الطبية وافراد الرعاية الصحية، المهمات الواقية، والتقدير المادي المناسب، في حياتهم، يختمونهم بخاتم ممنوع الدفن حينما يموتون.  

صحيح انه تم ضبط عدد 23  من المتهمين بمحاولة منع إجراءات دفن إحدى السيدات التى توفيت نتيجة إصابتها بفيروس “كورونا، في منطقة المدافن الكائنة بقرية “شبرا البهو” بمحافظة الدقهلية، وتم إتخاذ الإجراءات القانونية حيالهم، وجارى العرض على النيابة العامة طبقا لبيان الداخلية.

لكن السؤال المُلح وماذا بعد؟ هل تمنع وزارة الداخلية المخاوف الهستيرية من العدوي من موتي كورونا؟!  فبالرغم من قسوة ما جري، إلا أنه يخلف سؤالاً مُهماً:” هل تلقي اولئك المفزوعين- أياً كان تقديرنا للإنحدار الأخلاقي الذي مارسوه تجاه جثة – رداً على ما يخشونه؟

 لا اعتقد، فبرغم اعلان الداخلية التصدي لأية محاولات لإثارة الشغب أو الخروج عن القانون أو عرقلة إجراءات دفن المتوفين من ضحايا الإصابة بهذا الفيروس، إلا ان رايي الشخصي ان الداخلية لن تستطيع منع ذلك إلا اذا صاحبت قوة منها كل حالة متوفاة فى وقت الدفن، أو تنظيم مدافن جماعية لضحايا كورونا، إذا اتفق ذلك مع ضوابط ومعايير منظمة الصحة العالمية ووزارة الصحة المصرية، ولا يمكن للداخلية أن تقوم بهذا الدور منفردة، ولا يمكننا اغفال أن وزارة الصحة لم تخرج حتى الآن ببيان رسمي، ينفي فكرة نقل الجثث للعدوي بشرح وافي، بعيداً عن إعادة تلاوة إجراءات الدفن، على مسامعنا، لأن الجميع يرى -فى نشرات الأخبار المتنوعة- دفن الجثث فى مقابر  جماعية مثلما يحدث فى امريكا واوروبا، او حرقها مثلما يحدث فى بعض دول اسيا، لذلك يجب معرفة المغزى من اتباع تلك الوسائل عبر إعلان شفاف من وزارة الصحة، ومنظمة الصحة العالمية، حتي نتجنب تكرار هذه الحوداث، فكل ما أخشاه هو اتساع دائرة الخوف، لتضم الواعين، مع تصاعد ذروة انتشار الفيروس، حينها لا يمكن السيطرة أمنياً علي الخوف  المرضي، خاصة إذا تجاوز حدود القرية، وتسلل للمدن، لذلك لابد من التعامل مع مخاوف غير الواعين حتى لو دفعتهم، تلك المخاوف لسلوك غير انساني، وإلا سنجد انفسنا امام هيستريا الفزع الجمعي، او شريعة الغاب.

والبرغم من أن الفزع نوع من أنواع الضعف الإنساني، وإقراراً بالعجز عن مواجهة الكوارث، والشعور بالضآلة وقلة الحيلة في مواجهتها، إلا ان ذلك الفزع قد يتوحش كآلية من آليات الدفاع عن النفس تجاه المجهول، الذي يفزع منه الانسان، وإذا لم تتم توعية الناس وتفنيد مخاوفهم، بالحجج المنطقية مع وسائل الردع الأمنية، جنباً الى جنب، سيتحول الفزع الوحشي الي آلة حصد لكل المبادىء الإنسانية مع تغول أزمة كورونا واستمرارها غير معلوم النهاية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *