«الحرب الباردة».. فيلم عن الحب والحرب وأسئلة الهوية.. رحلة في عقل بافليكوفسكي السينمائي

رؤية سينمائية – أحمد سلامة
يبدو أن “بافل بافليكوفسكي” المخرج البولندي على مسافة واحدة من الأدوات التي يمتلكها و ما يريد إيصاله للمتفرج، بعد أهم أعماله ida عام 2013 و فوزه  بجائزة الأوسكار أفضل فيلم غير ناطق باللغة  الانجليزية عن نفس العام

أود أن أشير إلى أن هذا المقال ليس مراجعة سينمائية للفيلم، لان الكثير استفاض في هذا، على قدر ما هو محاولة للدخول في عقل بافليكوفسكي ، والتدليل على ذلك بالتكوينات السينمائية التي استخدمها، حيث يبدو أننا امام مخرج يطرح سؤال في فيلمه الأهم IDA ثم يستكمل عمله ليطرح عدة اسئلة في فيلمه الأخير COLD WAR

تدور أحداث (الحرب الباردة )  بين عدة عواصم أوربية هما وارسو، وموسكو، وباريس، تحديدا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية،  وإعلان هزيمة ألمانيا النازية في منتصف الأربعينيات.

 يبدأ الفيلم أحداثه الزمنية في نهاية الأربعينيات حتى أوائل الستينيات، قصة حب بين فيكتور  زولا، قصة مضطربة تماما كما هو حال أوروبا، تجمعهما لقاءات متفرقة على مدار أكثر من 10 سنوات، وهنا يطرح بافليكوفسكي هل الحب بمعزل عن الأوضاع السياسية،  والاحتمالات المفتوحة لتشكيل هوية أوروبية جديدة بعد الحرب.

 نجح فيكتور المؤلف الموسيقي في إحياء التراث الشعبي البولندي من الألحان التقليدية لسكان الجبال  والريف وترانيم العهد السوفيتي وذلك عبر صوت زولا الذي يكاد لا يفارقنا طوال مدة الفيلم، نجاحهما كان مشترك لكن فيكتور يواجه مضايقات سياسية من الاتحاد السوفيتي خلال الفترة “الستالينية” ، واضطر للسفر إلى باريس وحده دون زولا التي كانت متمسكة بقوميتها وبلادها، هنا أول اختلاف فيما بينهما في البحث عن هوية مشتركة ، فيكتور هرب إلى باريس المدينة الأوربية المفتوحة للجميع التي يبدو أنها تريد أن تتبع نفس أسلوب السياسة الأمريكية بعد الحرب واتخاذها هوية لها، اتحدث هنا عن الشكل السياسي فقط ، الأسلوب البصري الذي استخدمه بافليكوفسكي كان معبرا تماما عما يريد ايصاله باستخدامه لألوان الأبيض والأسود كما كان الحال في فيلمه الذي سبقه إيدا واستخدام الشكل التقليدي للنسبة الباقية و 4:3 التي تكون ابعاد الصورة فيها مربعة و هي دلالة سينمائية عن قيد الأبطال وعجزهم عن تغير ما يحدث حولهم كما تم استخدامها في فيلم (لايت هاوس) عام 2019 للمخرج روبرت ايجرز.



وحول ماهية الصورة السينمائية وجماليات الكادر السينمائي وتكوينه، يحدثنا الدكتور عقيل مهدي يوسف، في كتابه (جاذبية الصورة السينمائية)، عن مفهوم الصورة في السينما، ومفهوم المتلقي في تقبل هذه الصورة..  حيث يقول:  يود الإنسان وهو ينظر إلى  (صورة) تعجبه أن يلمسها، أو يتذوقها، أو يشمها أحياناً!  فحواسنا تثار أمام تمثال من الكريستال مثلاً، وحين نلمس زجاجه الصقيل نرتاح لنعومته، وقد يذكرنا بالثلج فيمد أحدنا لسانه ليتأكد من درجة حرارته وأحياناً نشم  (صور) الزهور في المجلات!!

بالعودة إلى بافليكوفسكي فهو واحد من أفضل المخرجين المعاصرين حاليا في طريقة استخدامه للمونتاج وتوظيفه مع عناصر صورة، يستخدم القطع في أضيق الحدود الممكنة و إذ استخدمه بطبيعة الحال يكون استخدام موفق.  مثلا نحن لا نحتاج لقطع الكاميرا كي نرى ما يحدث خلفها يكفي فقط أن نسمع صوت أقدام زولا، لنفهم أنها قادمة.

كما ذكرنا سابقا يبدو أن ايدا و(الحرب الباردة) متصلان لا منفصلان فلسفيا، داخل عقل مخرجنا  فـ آنا بطلة فيلم ايدا عندما تخرج من ديرها الصغير إلى العالم تكتشف أن العالم أوسع بكثير مما تخيله هي، و تبدأ أسئلتها الوجودية حول ذاتها وأهلها ومن حولها، وكذلك عن الحياة والعالم وعن المعنى، (معنى حياتها) ، استكمل بافليكوفسيكي ذلك في فيلم (الحرب الباردة )  لكن هذه المرة باستخدام سؤال نيتشه حول موت الإله الذي كان يقصد به موت المعنى  وتوقع أن تحل الإيدلوجيات محل الإله لإكساب الإنسان معنى لذاته فالسياق الزمني للفيلم هي قصة حب في عالم إنهار، ثم يعاد بناءه من جديد لكن بأي معنى، أوربا كان يتملكها اليأس في حرب راح ضحيتها أكثر من 50 مليون إنسان، كل من فيكتور  وزولا حاولا اعطاء نفسيهما معنى من خلال قناعتهما الساسية والقومية متخليان عن ذلك المعنى الذي كان في إيديهما بالفعل، وهو الحب الذي جمعهما، ويبدو أنهما أدركا ذلك في خاتمة الفيلم بالصورة البديعة التي شكلها مخرجنا بافليكوفسكي، والذي ربما يريد أن يخبرنا من خلال سينماه أنها متتابعة، وذات صلة ببعضها،  وأن بإمكان القصص دائما أن تطرح السؤال ذاته حتى و إن كانت أحداثها مختلفة .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *