أمل دنقل.. رافع راية الرفض “الباكي” على قبر “زرقاء اليمامة”: هل يلاقي الجنوبي الأوجه الغائبة (بروفايل)

كتب – عبد الرحمن بدر

“القصيدة دائما هي لحظات مستمرة من التوتر، بل هي كما كان يحلو أن يردد: البديل عن الانتحار”، هكذا وصفت الكاتبة عبلة الرويني زوجها الشاعر الراحل أمل دنقل الذي أخلص للشعر ولقضايا أمته فتجاهلته الأنظمة الحاكمة ورفعته الجماهير إلى مكانة عالية، وظلت كلماته حية وصوته قادرًا على التأثير، تستدعيه الجماهير في الوطن العربي كلما ثارت أو انتفضت دفاعًا عن قضاياها الكبرى.

سجل أمل دنقل المولود في 24 يونيو عام 1940 بقرية القلعة بمركز قفط بمحافظة قنا، اسمه بأحرف من نور في تاريخ الشعر العربي بقصائد مازالت حية في نفوس المصريين والعرب بعدما عبر بشعره عن أحداث كبرى في تاريخنا الحديث، لعل أبرزها نكسة يونيو 1967 والتي أثرت فيه بشدة، وكذلك رفضه للصلح مع إسرائيل والتي لقب بعدها بأمير شعراء الرفض بعد رائعته الخالد لا تصالح.

لا تصالح على الدم.. حتى بدم!

لا تصالح! ولو قيل رأس برأسٍ

أكلُّ الرؤوس سواءٌ؟

أقلب الغريب كقلب أخيك؟!

أعيناه عينا أخيك؟!

وهل تتساوى يدٌ.. سيفها كان لك

بيدٍ سيفها أثْكَلك؟

حين بلغ أمل دنقل العاشرة من عمره مات والده الذي درس بالأزهر وكان يكتب الشعر مثله، ليصبح، وهو في هذه السن، مسؤولًا عن أمه وشقيقيه وتركت هذه التجربة المبكرة مع الفقد أثرها على الشاعر الذي لم يكن وقتها تجاوز فترة الطفولة.

تحكي والدته عن تلك البدايات بقولها: “من طلعته راجل، في المدرسة كان متفوق، وكان يقرأ كتب أبوه، وكتب الناس الكبيرة، وهو لسه في الإبتدائي، قرأ الشعر والقصة والقرآن والإنجيل والتوراة، كل الناس كانت حاسة إنه هيطلع شاعر، وكنا فاكرين إنه هيتراجع بعد موت أبوه، لكنه استمر في إطلاعه”.

ربما كان يشعر والده بأنه لن يعيش طويلاً لذلك تعامل مع أمل بشكل مختلف وكأنه يعده لما هو قادم، يحكي الشاعر في فيلم “ذكريات الغرفة 8” للمخرجة الراحلة عطيات الأبنودي، أن والده عزله ومنعه من اللعب مع أقرانه لأنه كان الأبن الأكبر، وأن ذلك كان سببًا في اتجاهه إلى القراءة، يؤكد: “رؤيتي للعالم تشكلت من خلال الكتب، أمي كانت تعاملني كطفل، ووالدي كان يعاملني كرجل حين كان عمري 10 سنوات”.

ارتحل أمل إلى القاهرة فور إنهاء دراسته الثانوية في قنا، والتحق بكلية الآداب، لكنه لم ينتظم في الدراسة، وعاد مرة أخرى إلى قنا ليعمل في المحكمة برفقة صديقه الشاعر الراحل عبد الرحمن الأبنودي، ولم يستمر أي منهما في الوظيفة، حيث غادرا مرة أخرى إلى القاهرة.

من أبرز دواوينه الشعرية “البكاء بين يدي زرقاء اليمامة، وتعليق على ما حدث، ومقتل القمر، والعهد الآتي، وأقوال جديدة عن حرب البسوس، وأوراق الغرفة 8، ويؤكد أنس دنقل شقيق أمل أن الشاعر الراحل له مخطوطات شعرية لم تنشر حتى الآن.

تزوج الجنوبي من الكاتبة الصحفية عبلة الرويني، وكانت بداية تعارفه بها حورا صحفيًا أجرته معه لصحيفة الأخبار، لينهي إضرابه عن الزواج ويدخل عش الزوجية بإرادته الكاملة.

تحدث أمل عن زوجته بقوله: “الواقع أنني مدين لها بالكثير في وقفتها ولا اعتقد أنها كانت تستطيع تحمل هذا السجن مالم تكن مرتبطة بي وأنا مرتبط بها ارتباطا كاملا ووثيقا”. 

كان “أوراق الغرفة 8” آخر دواوينه، حيث كتبه وهو يصارع مرض السرطان، ونُشر بعد وفاته، وعبّر فيه عن معاناته مع المرض، وتصوراته عن الحياة، ولحظات ما قبل الموت، ودون فيه آخر أيام حياته، وحمل الديوان قصيدة الجنوبي التي حصل بسببها لقبه الأشهر الجنوبي، كما حمل كتاب عبلة الورني عن أمل دنقل نفس الاسم.

هل أنا كنت طفلاً

أم أن الذي كان طفلاً سواي

هذه الصورة العائلية

كان أبي جالساً، وأنا واقفُ .. تتدلى يداي

رفسة من فرس

تركت في جبيني شجاً، وعلَّمت القلب أن يحترس

أتذكر

سال دمي

أتذكر

مات أبي نازفاً

أتذكر

هذا الطريق إلى قبره

أتذكر

أختي الصغيرة ذات الربيعين

لا أتذكر حتى الطريق إلى قبرها

المنطمس.

“كلّ غرف معهد السرطان كان يسكنها يأس، إلا الغرفة رقم 8 كان يسكنها أمل”، هكذا تحدثت عبلة الرويني عن أمل دنقل الذي واجه المرض بشجاعة.

يقول الناقد جمال عطا في دراسة عن صورة الموت في شعر أمل إن مفهوم الموت في شعر أمل اتخذ أبعادًا فلسفية، وارتبط بالقضايا الحياتية وهمومها في عصره، فالشاعر فسر الشيء بالضد أو الحياة بالموت حين أتخذ من الموت مدخلاً يفسر من خلاله الحياة: معانيها ومقوماتها وغاياتها، أو بعبارة أخرى.

لقب أمل بشاعر الرفض، لأنه اختار موقعه من اللحظة الأولى على يسار السلطة، وانحاز للعمال والطلاب والفئات المهمش، ووصفه الشاعر الراحل فاروق شوشة بأنه رأس حربة شعراء الستينات.

في قصيدة “أغنية الكعكة الحجرية” عام 1972 تنبأ أمل بالثورة بميدان التحرير، وتسبب القصيدة في إغلاق مجلة سنابل التي نشرتها.

أيها الواقِفونَ على حافةِ المذبحهْ

أَشهِروا الأَسلِحهْ!

سَقطَ الموتُ; وانفرطَ القلبُ كالمسبحَهْ.

والدمُ انسابَ فوقَ الوِشاحْ!

تجاهل الإعلام الرسمي أمل دنقل وخاصمته منصات التكريم نتيجة مواقفه الواضحة، كسر الشاعر والإعلامي الراحل فاروق شوشة الحصار الإعلامي على أمل بعدما استضافه في أمسية ثقافية بالتليفزيون المصري وكان برفقته صديقه عبد الرحمن الأبنودي، وفي الحوار ظهر متماسكًا لا يبالي بالمرض وحين سؤل عنه قال إنه أمر شخصي، ورفض طلب الأبنودي بإلقاء قصيدة ضد من التي تتحدث عن معاناته مع المرض، وألقى قصيدة حوار على النيل.

كما سجلت المخرجة عطيات الأبنودي فيلمًا تسجيلا معه أثناء وجوده في المستشفى. حمل اسم “ذكريات الغرفة 8” تحدث فيه عن طفولته ونظرته لدور الشعر.

في 21 مايو 1983، رحل أمل دنقل بعد معاناة طويلة مع السرطان في الغرفة رقم 8، بمعهد الأورام بالقاهرة بعدما أوصى أن يدفت في مقبرة والده، ورغم كل السنوات التي مرت على رحيل أمل إلا أنه مازال حيًا بشعره وإبداعه وبصوت ثائر دافع بشعره عن قضايا وطنه وأمته فهل تحققت أمنية الجنوبي في ملاقاة الأوجه الغائبة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *