أحمد سعد يكتب: أحرار بالإسم.. عبيد بالفعل

مع أواخر عصور الدولة الرومانية، بدأت الإمبراطورية عملية تحول تدريجي للتخلي عن نظام العبودية، لم يكن ذلك تفضلا منها لكنه كان واقعا أجبرتها الظروف عليه.

“العبيد” كانوا مصدرا رئيسا لقوة الإمبراطورية الاقتصادية وعاملا هاما في تعزيز القدرة الإنتاجية، لكن ثوراتهم المستمرة كانت مصدر قلق دائم للأمراء وممتلكاتهم وللنظام الإقطاعي ككل.

مع تراجع الحروب الرومانية، وانتشار القلاقل في أرجاء الدولة، تحول العبيد إلى (سلعة نادرة) وبالتالي ارتفع سعرها، إضافة إلى انخفاض القدرة الانتاجية لأسباب منها الانشقاقات والهروب المتواصل، والأمراض والأوبئة، والقتل كعقوبة شبه موحدة على أكبر الجرائم وأقلها.. بات نظام العبودية -الذي كان مصدرا لقوة روما- نقطة ضعفها وسببا من أسباب انهيارها.

لم تنقرض العبودية، لكن بحلول عام ٥٠٠ ميلاديا بدأ الإقطاع في أوروبا البحث عن بدائل لهذا النظام المُكلف.. تفتق الذهن الاستغلالي عن نظام جديد يجمع للإقطاعيين بين مزايا الاستعباد وتقليل التكلفة.. ألا وهو نظام القنانة.

الأقنان، درجة وسيطة بين “العبد” و “الحُر”، لا هم ينتمون إلى هؤلاء ولا ينضون تحت راية أولئك.. حالة فريدة في ذلك العصر، أحرار بالاسم وعبيد بالفعل.

كان أمراء الإقطاع يُجبرون الأقنان على استئجار أراضيهم الممنوحة لهم مجانا من البلاط الملكي، ثم يجبرونهم على دفع الضرائب للأمير والملك والكنيسة.. حياة بائسة لم يجدوا فيها قوت يومهم لا لأنفسهم ولا لأبنائهم وذويهم، لم يجدوا إلا الموت لمن يفكر في الاعتراض على تلك المأساة المُلقبة -كذبًا- بالحياة.

ضع نفسك يا صديقي في موضع أي من هؤلاء الأقنان، أترك لنفسك عنان الخيال ودعنا نلهو بآلة الزمن لندرك حجم المعاناة، تخيل ولو للحظات أنك أحدهم.. تخيل أنك مضطر لسداد الضرائب مضاعفة لأن الأمير قرر أن يبني لنفسه مدينة جديدة.

تخيل أن عليك أن تدفع مقابلا باهظا لأسعار السلع والخدمات ورغم ذلك ستحصل على الأردأ دوما، ليس لشيء سوى أنك لا تستحق الأفضل، فالأفضل دوما للأمراء.. تخيل أن تتحمل، وأنت الفقير ابن الفقراء، سداد قروض الأمراء الذين سيحاولون أن يقنعوك دوما بأن تلك القروض لمصلحتك.

أمراء لا يعرفون إلا السيف والمقصلة، سيجرّمون الأفكار، ويحرّمون الكلمات، وسيأمرون مرتزقتهم برمي كل من يفكر في استخدام عقله أو لسانه خلف أسوار السجون التي تُبنى مع كل مشرق.. قد تلقى في سجنٍ أنت من دفع ثمن أحجاره وقضبانه وأجرة حراسه.

تخيل أن يتركك الأمراء في أزمان الأوبئة لتواجه الموت وحدك، سيغلقون على أنفسهم أبواب القصور وسيأمرونك بالانطلاق من فورك إلى المزارع والأسواق ليقتطعوا من دخلك الضرائب، وقد يتهمونك بأنك سبب الوباء.

ولأنك لست عبدًا، فقد يحق لك -ظاهريًا- أن تطلب من الأمراء اعتذارًا عن إهانة بدرت من أحدهم، لكن لأنك لست حُرّا فلن يرد عليك أحد.. لن يلتفتوا إليك، سيسمعونك كما يسمعون حفيف الأشجار في حدائقهم.. مجرد أصوات بلا مفهوم ولا مدلولات.

مهما قدمت من تضحيات، فلن تكون حرا تمتلك إرادتك وترفع رأسك وصوتك، ستظل اسما في كشوف الأحرار لكنك في الواقع لست سوى عبد.. في أزماتهم سيطلبون دعمك ليلا باسم الحرية، وفي الصباح سيعلقون جسدك على المشنقة باسم الحفاظ على النظام.. نظام العبودية.

والآن، وبعد كل هذه القرون، وبعد انتهاء تلك العصور الظلامية، كل ما نملكه هو أن نشكر للبشرية إلغاء القنانة ونشكر الحياة على أننا لسنا من الأقنان.. أليس كذلك؟!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *