كارم يحيى يكتب: ذكرى عابرة.. مع البابا شنودة
بمناسبة حلول الذكرى السنوية العاشرة لرحليه، أتذكر إنني قابلت البابا شنودة الثالث ( 3 أغسطس 1923 ـ 17 مارس 2012) تقدست روحه ورحمه الله مرة واحدة يتمية.
كنت مع صديقي فنان الديكور المسرحي ” ربيع عبد الكريم” في افتتاح بينالي القاهرة بقصر الفنون بالجزيرة ( مجمع الأوبرا) في إحدى ليالي الشتاء البارد. وأظنه كان يوم الافتتاح. ولسبب ما لا أتذكره تأخرنا في المغادرة، حتى لم يتبق بالقاعة إلا نفر على أصابع اليد الواحدة.
وعندما توجهنا إلى الباب للمغادرة، فوجئنا بالبابا شنودة يخرج من سيارة مرسيدس سوداء (موديل غير حديث ) ويسير مسرعا تجاهنا كأنه يريد اللحاق بموعد تأخر عليه.
وكان يلحق به كوكبة من رجاله يجاهدون لمجاراة سرعته وعزمه. لما اقترب في ملابسه الكهنوتية السوداء تبينت رجلا متقدما في العمر يميل للبدانة. وأدهشني على نحو خاص أنه قصير القامة إلى حد لم أكن اتخيله أو يخطر على البال.
وربما تصورت أنه قصير جدا جراء تكليفي بعد إغلاق صفحة “الحوار القومي ” بالأهرام لنحو خمس سنوات سبقت ثورة يناير 2011 من رئيسة صفحة “دينا الثقافة” الزميلة العزيزة الأستاذة ” سناء صليحة” بموضوعين في السنة اختارهما مع مناسبتي عيدي الميلاد والقيامة المجيدين.
وأنا اليوم أدرك مصادفة كون غالبية المصادر الكنسية التي التقيتها من أجل هذه الموضوعات القبطية المناسباتيه من أصحاب القامات الطويلة. وأتذكر بينهم الدكتور “ماجد صبحي”. وكان عندما التقيته وحاورته لمرتين باحثا مرموقا، وبمثابة العقل الحي للمركز القبطي ومعهد الدراسات القبطية داخل كاتدرائية العباسية الكبرى.
وأيضا الأنبا “إرميا” سكرتير أو مدير مكتب البابا، وقد حاورته نهاية عام 2008 بمناسبة افتتاح المركز الثقافي القبطي الأرثوذكسي ،وقدعينه البابا شنودة إلى جانب مهامه هذه مديرا للمركز.
وربما طاف بلا وعيي في لمح البصر عندما فاجأني حضور البابا بقامته القصيرة تساؤل طفولي ساذج: كيف لرجل سكرتيره بهذه القامة الطويلة أن يكون أقصر منه؟.. ولعل لهذا أدركت البابا شنودة قصيرا جدا،وعلى نحو يدهشني.
تفاصيل ما جرى حينها من البابا محفورة في ذهني إلى اليوم. دخل مندفعا إلى قلب القاعة الواجهة الحافلة بالأعمال التشكيلية الحداثية وخلفه رجاله في ملابسهم الكهنوتية السوداء يجاهدون لمجاراته في اندفاعه. وهو تحرك بهم يقودهم سريعا في مسارات مرتبكه، وكأنه يبحث عن شئ لا يجده عبثا.
جاب مساحة معتبرة في حركة مضطربه قلقه. ثم توقف أمامي أنا وربيع وكأنه لم يجد إلا كلانا ليسأل بدون سلام ولاتمهيد حرصا على وقت بدا أنه يفوته :”إحنا فين؟”.
أجبته بالمكان والمناسبة. نظر إلى حينها يتفحصني مندهشا. وحينها أدركت كم أن الرجل عجوز فعلا من عمق التجاعيد التي تشق الوجه. لكن أكثر ما شدني إليه في تلك اللحظة هي عيناه. براقة إلى حد عجيب، وتضج بالذكاء .. وأيضا “بالشقاوة”.
وأظنني في هذه اللحظة أحببت ما بدا مزيجا من الطيبة والشقاوة في وجه أخاله مرآة للروح. وهذا مع إنني طالما امتعضت حين كنت اطالع في الصحف كلماته المنافقة المؤيدة الداعمة للرئيس “مبارك” والداعية للذهاب إلى صناديق اقتراع كاذبة للتجديد له ولاية تلو أخرى ، تماما كإئمة الأزهر. كما كان عندي بالأصل سبب آخر لعدم الإرتياح. وهو موقفه المتشدد الرافض لطلاق الأشقاء الأقباط محتجا بـ” لا طلاق إلا لعلة الزنا”. وكنت ومازلت أرى في هذا جمودا و قسوة على الإنسان. وهذا مع تقديري واحترامي لموقفه الوطني بلالبس ضد التطبيع مع إسرائيل، وحظر زيارة الأماكن المقدسة عند المسيحيين بفلسطين المحتلة حتى تتحرر، ومعها القدس. .
ولدهشتي مرة أخرى، لم يسارع البابا بمغادرة البينالي مباشرة. بل تركني أنا وربيع حيث كان يقف ثلاثتنا، واستدار ليقف برهة أمام لوحة تصوير زيتي. وفجأة انتفض بشحمه ولحمه وكانه استفاق من إغواء بالتنويم المغناطيسي ليسرع باتجاه الباب. وقال لنا وهو يمر بنا دون توقف أو سلام وداع :
” معلش ما ليش حظ .. أنا متأخر”.
القاهرة في 17 مارس 2022