كارم يحيى يكتب: بعد 11 سنة.. ما الذي يتبقى من 25 يناير؟
كل ما تهل البشاير من 25 يناير كل عام، وكما اليوم بحلول العام 2022، هل يمكن أن ننسى؟ وألا نسأل أنفسنا عما تبقى من الثورة؟.. وفيما أخطأنا؟. وهل مكتوب علينا اليأس من التغيير؟.
النظام نفسه الذي نجا من الثورة لا ينسى.. لا يمكنه أن ينسى هذا اليوم/ التاريخ . يرتبك في خطابه بين التحذير من أنه لن يسمح بتكرار 25 يناير مرة أخرى، وبأنها جلبت الخراب، وبين التحيات والتهاني. لكنه في الشارع وعلى الأرض وفي الممارسة يستوقف الشباب مع اقتراب الموعد كل عام، ومعهم من هم على أعتاب الشباب، يبادرهم بشك رغم أنهم مجهولون. يفتش في هواتفهم المحمولة عن رائحة الثورة في صفحات “فيس بوك” وتدوينات “تويتر”.
يفتش في استعراض قوة تنتهك الآدمية خائفا، وساعيا لتخويف المجتمع بأسره، وقد رأيت هذه المشاهد تتكرر في شوارع وسط القاهرة قبل أيام.
*
يعترض السؤال مثقفين وبحَاثة ومازال: كيف نطلق على 25 يناير ثورة طالما لم تحقق أهدافها في الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية والاستقلال الوطني ومحاربة الفساد والتسلط؟. كيف وقد بقي النظام وأعاد سيرته الأولى؟، وعلى نحو أقوى وأشرس وأكثر فجاجة. وهذا وإن كان قد ذهب الطاغية “مبارك” وبعض من الوجوه المحيطة به ودون حساب؟.
كيف إذن نستمر في أن نطلق عليها ثورة ؟. أليس الأدق أنها انتفاضة 25 يناير طالما لم تنجز تغييرا جوهريا؟. وأليس من الواجب واللازم أن نحتكم إلى كتابات من تراث علم الاجتماع السياسي في توجهه للتفرقة بين الثورة والانتفاضة في أن الأولى تنجز التغيير في الأنظمة والسياسات وموازين القوى بين النخب والطبقات؟.
لكن وعلى خلاف كل ما سبق، ألا تستحق 25 يناير 2011 في اتساعها وعمقها أن توصف بالثورة على الرغم من أنها لم تحقق تغييرا ناجزا بعد في حياة المصريين ؟. وألم يطلق المؤرخون صفة الثورة على قيامة المصريين ضد الاحتلال الأجنبي وحلفائه المحليين عام 1919.
وهذا مع أنها هي الأخرى لم تنجز بدورها تغييرا جذريا حاسما فيما أشرنا إليه سابقا. وأليس من التجني إنكار حجم التغييرات التي أحدثتها ثورة المصريين قبل نحو 103 أعوام في حياتهم سياسيا واقتصاديا وثقافيا ووجدانيا. وهذا على رغم من أنها لم تطح بأسرة “محمد على” الحاكمة ومعها طبقة كبار الملاك، ولم تحقق جلاء الاستعمار الإنجليزي، ولم تصل بالفلاحين والفئات الاجتماعية الأخرى المهمشة الثائرة إلى السلطة؟.
*
بإمكاننا في الذكرى الحادية عشر استعادة دروس وعبر ومناقشة أخطاء. وهذا أمر سيظل مناسبا ومطلوبا في مرحلة جذر شديد قاسية بعد صيف 2013. فكما هو ظاهر استعاد النظام سطوته وعافيته تحت لافتات عديدة منها “هيبة الدولة ” و”الاستقرار”. عاد النظام الرأسمالي العسكري البوليسي مجسدا سطوته ومشددا قبضته على المجتمع على نحو أعنف وأكثر استهانة بالحقوق والحريات. بل وعاد مصادرًا الحياة ذاتها بالإفقار وبالجباية والتجهيل والتعتيم وانعدام العدالة وانتزاع القليل من أيدي الفقراء وغالبية الطبقة الوسطى.
بل وسرعان ما أعيد انتاج الحاكم الفرد وتضخمت عبادته وتقديسه مع أسرته وحاشيته من جنرالات ورجال أعمال محاسيب نافذين. وزاد اختلال التوازن عما كان قبل 25 يناير 2011 بين “سلطة هكذا دولة” من جانب وبين المجتمع من جانب آخر. واستفحل الفساد في مختلف قطاعات. وأصبحت الإساءة للمواطن وإهانته ثقافة رسمية تسود مصالح الدولة. واستهان اعلام سلطة الدولة ورجال أعمالها بالعقول والحقائق. وانخفض منسوب ثقة الناس في منظومة العدالة. وزادت قسوة السجون وتوسعها ضد أصحاب الرأي المختلف عن خطاب سلطة الدولة، وحتى إزاء مظاليم الحبس صدفة بين المواطنين غير المكترثين بالسياسة. وتوحش الفساد ظاهرا مباهيا بين النخب المنتقاة، هنا وهناك، كل ذلك بلا رقابة برلمان أو صحافة أو رأي عام أو أجهزة مختصة.
وفوق هذا بيعت وتباع مقدرات وأصول البلاد لأغنياء الخليج، ولم تكن “تيران وصنافير” إلا عنوانا على منهج حكم وعصر. وتضاءلت مكانة الدولة المصرية المدينة للخارج على نحو غير مسبوق. و تجاوز التحالف مع “إسرائيل” كونه خيارا وسياسة رسميين إلى ضرورة للنظام ولمجموعة على قمته.
هي بالتأكيد مرحلة جذر .. جذر كبير عنيف قاسى.
*
لم يكن لثورة يناير 2011 / يوليو 2013 قيادة يشار اليها بالبنان دون خلاف . لاحزب قائد ولا زعيم محل اتفاق. وربما ليس في ذلك خطيئة أو خطأ. لكن تم اصطناع العديد من “القيادات” و”الأحزاب” و”الكيانات” ليجرى التفاوض والمساومة معها من نظام مبارك، الذي أعاد انتاج نفسه عبر قيادات المؤسسة العسكرية والأجهزة الأمنية والمخابراتيه ومن خلفها قوى رأسمالية المحاسيب وتحالفات اقليمية إسرائيلية خليجية، وأيضا دولية نيوليبرالية.
إلا أنه يجب التأكيد على خطأ وخطيئة الفشل والعجز في تنظيم المواطنين من أسفل في لجان أحياء وقرى، وأفقيا لانخبويا في مختلف المهن. وهذا هو الدرس الذي تقدمه ومازالت الثورة السودانية.
ولسنا في حاجة لتعداد المزيد من الأخطاء، ومن بينها إدارة تلك النخب التي كانت معارضة “لمبارك” السياسة بينها وبعضها البعض بتغليب العواطف والكراهية والمكايدات، بدلا من تحكيم العقل والوعي بأين يكمن التناقض الرئيسي؟، وبالتوجه إلى المواطنين والعمل بينهم ومعهم، بمن فيهم ضحايا الاستبداد والتجهيل تحت رايات “الدين” و”الوطنية” المظهريين.
هي مرحلة جذر شديدة قاسية يدفع فيها الثمن باهظا قاسيا المواطنون المصريون في عمومهم، وليس فقط شباب الثورة ورموزها من مختلف الاتجاهات السياسية والفكرية في السجون والمنافي.
لكن مع كل هذا، يبقى من ثورة 25 يناير أثر وتأثير كامنين في وعي ووجدان أجيال تتوالى من المصريين . يتبقى هذا الحلم والأمل في التغيير والقدرة على تحقيقه ( ولو حتى في خلع حاكم فرد وأسرته من دون حاشيته وطبقته وتحالفاته). يتبقى حلم مصريين وأملهم في مجتمع حديث، مجتمع المواطنة والحريات والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والاستقلال الوطني وسيطرة الشعب ورقابته على موارده وجيشه ومحاربة الفساد، وحيث لا قداسة لمؤسسة ولا سلطة ولا أشخاص ولاحصانة لأي كان من النقد والمحاسبة والتغيير.
قد تطول علينا السنون وتزيد المعاناة في وضع تبدو فيه مصر خارج التاريخ والعصر. فيقينا ما جرى ويجرى لمصر وبخاصة بعد صيف 2013 معاكس لحركة التقدم ولتطورات العلم والتكنولوجيا ولتمكين الإنسان/ المواطن من مصيره. وهذا أمر جوهري ـ وجوهري جدا ـ لا يمكن أن تخفيه أو تمحوه طبول و”بروباجندا” الطرق والكباري والمدن والعواصم والجمهوريات الجديدة، والتي هي على هامش وخارج حسابات الغالبية من المصريين. بل هي بالأصل على حساب مقدراتهم وحياتهم المعيشة.
لكن مايدعو للتفاؤل بمستقبل الثورة في مصر أن السلطة / النظام وكأنه لا يتعلم من أخطائه، ولا يقلع عن غيه في الاستبداد والفساد والجور على الحقوق والحريات. لم يتعلم ومعه نخب على اختلاف ألوانها حالها كحال السلطة / النظام ستظل هي الأخرى على أخطائها.
ربما لا ينتبه الناس اليوم تحت سطوة ووطأة القمع والإحباط واليأس إلى الوعي والروح التي بثتها ثورة 25 يناير في أجيال تتوالي وستتوالى من المصريين. وربما لايستوعبون بعد معنى الحلم الذي يراودهم بأن الثورة ممكنة وستتجدد طالما بقيت ـ بل وزادت ـ الأسباب/ المظالم التي أدت الى انفجارها سابقا.
ومن بإمكانه أن يمنع غدًا أن يعود المصريون للثورة متسلحين بالتعلم من أخطاء وإخفاقات ما كان، وأيضا بالتعلم من خبرات الشعوب الأخرى، وبالثقة في قدرتهم على ابتداع أشكال من التعبئة والتنظيم ووسائل التغيير.
.. رحم الله شهداء ثورة يناير، وأعان المنتسبين إليها على تضميد الجراح وقسوة السجون.
