إلهامي الميرغني يكتب: تأملات في الموازنة الجديدة.. 3- الصحة.. من أين يأتي الخلل؟
لا شك أن انتشار وباء كورونا لا بد أن ينعكس علي موازنة الصحة باعتبارها القطاع المنوط به مواجهة الوباء إضافة إلى الأدوار الوقائية والعلاجية الأخري. ويشمل قطاع الصحة في الموازنة العامة المصرية تسع جهات هي:
1. وزارة الصحة ومديريات الشئون الصحية بالمحافظات.
2. المستشفيات العامة.
3. المستشفيات الجامعية.
4. المراكز الطبية المتخصصة .
5. الهيئة العامة للمستشفيات والمعاهد التعليمية .
6. الهيئة القومية للرقابة والبحوث الدوائية .
7. معهد بحوث أمراض العيون .
8. صندوق علاج ومكافحة الإدمان والتعاطي .
9. هيئة الاسعاف المصرية.
إضافة إلى وجود 4 هيئات عامة اقتصادية للصحة تعمل خارج الموازنة وهي :
1. الهيئة العامة للتامين الصحى.
2. المؤسسه العلاجيه لمحافظة القاهرة.
3. المؤسسه العلاجيه لمحافظة الاسكندرية.
4. المؤسسه العلاجيه لمحافظة القليوبية.
وطبقا لبيانات مشروع الموازنة العامة الجديدة 2021/2022 تبلغ موازنة الصحة بالتقسيم الوظيفي 108.8 مليار جنيه بزيادة 15.2 مليار جنيه عن موازنة العام الماضي .وبمعدل نمو 16% مقارنة بالمخصص في العام الماضي. الا أن وزير المالية في البيان المالي يعلن ان مخصصات الصحة 275.6 مليار جنيه لكي يستوفي الاستحقاق الدستوري للانفاق علي الصحة، وهو ما يزيد 166.8 مليار عن الرقم الموجود في الموازنة بالتقسيم الوظيفي . ويعكس ذلك ان 166.8 مليار للصحة تتم ادارتها من خارج الموازنة ولا نعرف أي شئ عن تفاصيلها ومن اين يتم تمويلها. وبذلك تكون موازنة الصحة 39% من الانفاق الحكومي ويوجد 61% ذكرها وزير المالية في البيان المالي ولا نعرف عنها اي شئ كيف يتم تمويلها واين يتم انفاقها؟!
هل يزيد الإنفاق الحكومي علي الصحة؟!
لا يوجد لدينا مصدر متاح للمعلومات غير البيانات التي تعلنها وزارة المالية عن الانفاق علي الصحة وفقاً للتصنيف الوظيفي والذي ذكرت كل مكوناته في بداية المقال، ولا اعرف أين تنفق الـ 167 مليار التي ذكرها وزير المالية في البيان المالي.
ذكر الوزير في بيانه أنه تم زيادة مخصصات التأمين الصحي والأدوية وعلاج غير القادرين علي نفقة الدولة لتصل إلي 10.7 مليار جنيه ويتحدث عن بعض مكونات الرقم فيذكر 200 مليون جنيه مخصصات لدعم التأمين الصحي الشامل لغير القادرين من أصحاب معاش الضمان الاجتماعي .
ياعم الحج احنا بنتكلم عن 167 مليار تقولي 200 مليون دي فكه باقي الفلوس فين ، يرد 5.4 مليار للهيئة العامة للرعاية الصحية .6.2 مليار للأغذية بالموازنة طيب هي كل الأغذية للصحة طبعا دي داخل فيها التغذية المدرسية وهذا الخلط متعمد ليصل الي نسبة ال 3% المقررة في الدستور.
ويضيف أن زيادة مخصصات الأدوية الي 13.1 مليار جنيه رغم ان هذا المبلغ موجود في الباب الثاني شراء السلع والخدمات مش جديد وبعدين يفاجأنا وزير المالية العبقري بأن مخصصات المياه 2.3 مليار ودي تبع الصحة ومخصصات النقل والانتقالات 4.8 مليار جنيه ومش عارف ايه علاقتها بالصحة. ورغم كل ذلك فإن الأدوية موجودة في الموازنة ولم يدلنا الوزير علي مبلغ الـ 167 مليار من اين يمول واين ينفق؟!!
اذا تتبعنا سلسلة زمنية للانفاق علي الصحة ومقارنتها بإجمالي مصروفات الموازنة العامة نجد إنها بلغت 10.6 مليار جنيه عام 2007/2008 وكانت تمثل 4.4 % من المصروفات وانخفضت الي 4.3% في موازنة 2018/2019 ثم انخفضت في العام السابق علي الكورنا لتصل الي 61.8 مليار جنيه في 2019/2020 وتمثل 3.9% فقط من مصروفات الموازنة في العام السابق علي الكورونا .
مع هجوم الوباء والخطر العالمي والحجر الصحي ارتفعت مخصصات الصحة الي 93.5 مليار في موازنة العام الماضي تمثل 5.5% من المصروفات ثم وصلت الي 108.8 مليار جنيه في مشروع الموازنة الجديدة تمثل 5.9 % من مصروفات الموازنة .
مهم ان نعرف انه رغم زيادة الانفاق النقدي علي الصحة من 10.6 مليار الي 108.8 مليار اي 98.2 مليار جنيه ما بين 2007/2008 و 2021/2022 الا ان أهمية الصحة إلي إجمالي مصروفات الموازنة لم ترتفع الا بنسبة 1.5% فقط من إجمالي المصروفات رغم الزيادة الطارئة في آخر سنتين بسبب الكورونا.
لو تأملنا مخصصات الصحة وأهميتها للناتج المحلي الاجمالي المنشور في مشروعات الموازنة وليس إلى الناتج القومي المنصوص عليه في الدستور، وهو الأكبر في القيمة، ورغم ذلك نجد الانفاق علي الصحة ارتفع خلال هذه الفترة من 1.3% الي 1.5% فقط رغم كل ما نسمعه ونشاهده عن ميت مليون صحة وميت فل وعشرة .
لو تأملنا توزيع مخصص الصحة علي مختلف بنود الانفاق بالتصنيف الاقتصادي نجد الآتي :
– ارتفع المخصص للأجور في موازنة الصحة من 4.8 مليار جنيه في 2007/2008 إلي 48 مليار في مشروع الموازنة الأخيرة ورغم ذلك انخفضت أهمية الأجور إلى إجمالي الانفاق الحكومي علي الصحة من 45% إلي 44.2% خلال الفترة .لكن مقارنة بإجمالي الأجور علي مستوي الدولة فقد ارتفعت أهمية الأجور في الصحة مقارنة بباقي القطاعات من 8% إلى 13%.
– بالنظر إلى موازنة 2021/2022 نجد أن المخصص لبدل طبيعة العمل للأطباء لم يزيد عن العام الماضي سوي 300 ألف جنيه فقط ليصبح 79 مليون جنيه وكان في العام الماضي 78.7 مليون جنيه . وبدل العدوي والوقاية من الأشعة كان 200.5 مليون جنيه العام الماضي وانخفض الي 198.6 مليون في الموازنة الجديدة.كذلك انخفض بدل المهن الطبية من 5 مليون في العام الماضي الي 4.9 مليون في الموازنة الجديدة .
– ارتفعت قيمة مشتريات الصحة النقدية من السلع والخدمات من 3 مليار جنيه في 2007/2008 إلي 24.8 مليار في موازنة 2021/2022 ورغم ذلك انخفضت أهمية شراء السلع والخدمات إلى اجمالي الانفاق علي الصحة من 29% إلي 22.8%.
– ارتفعت مشتريات الأدوية من 10.9 مليار في العام الماضي الي 13 مليار في الموازنة الجديدة بزيادة 2.1 مليار لمواجهة أعباء كورونا . كما تم تخصيص بند جديد لشراء المستلزمات الطبية في الموازنة الجديدة وخصص له 2.6 مليار جنيه .كما استحدث ايضا بند جديد لصيانة الأجهزة الطبية وخصص له مليار جنيه وهي بداية لتوفير الاعتمادات اللازمة للصيانة في قطاعات الصحة وتقليل عطل الأجهزة الطبية الذي نعاني منه.
– ارتفعت القيمة النقدية للدعم والمنح والمزايا الاجتماعية للقطاع الصحي من 1.4 مليار جنيه إلى 7.6 مليار جنيه ورغم ذلك انخفضت أهمية الدعم إلى إجمالي الانفاق علي الصحة من 13% إلي 7%.وظلت أهمية دعم الصحة ثابتة مقارنة بدعم باقي القطاعات الاقتصادية ولم تتجاوز 2% من إجمالي الدعم لكل القطاعات الوظيفية.
– ارتفع دعم التأمين الصحي والأدوية 100 ألف جنيه فقط بين العام الماضي والموازنة الجديدة من 3.6 مليار الي 3.7 مليار رغم أعباء كورونا . أما نفقات علاج مواطني جمهورية مصر العربية فكان 9 مليار جنيه في موازنة 2019/2020 وانخفضت الي 7 مليار جنيه في العام الماضي وظلت ثابتة عند نفس القيمة في الموازنة الجديدة.
– يشكل الباب السادس الخاص بالاستثمارات كل ما ينفق لشراء الأراضي واقامة المباني وشراء الأجهزة والمعدات والتجهيزات، لا ننكر حدوث طفرة حقيقية في بند الاستثمارات بالقطاع الصحي حيث ارتفعت قيمة الانفاق من مليار جنيه في 2007/2008 إلي 26.4 مليار في مشروع الموازنة الجديدة ولذلك ارتفعت قيمة الاستثمارات الي إجمالي الانفاق الصحي من 10% إلى 24.3%. وارتفعت في إجمالي الانفاق علي الباب السادس لجميع القطاعات من 4% الي 7% خلال الفترة. كما استحدث في الموازنة الجديدة بند ضمن الاستثمارات لشراء الآلات والمعدات الطبية لأول مرة وخصص له 2.6 مليار جنيه.
– علي مستوي الانفاق علي الصحة في المحليات والمخصص لمديريات الشئون الصحية فقد ارتفعت قيمة المخصص النقدي من 20.1 مليار جنيه في موازنة 2014/2015 إلى 25.5 مليار في مشروع الموازنة الجديدة وهو ما يمثل 19.7% من الانفاق علي مديريات الخدمات في المحليات.
– لا شك انه حدث نمو طفيف في الانفاق الصحي، وتمت اضافة ثلاث بنود جديدة لموازنة الصحة، لم تكن موجودة حتي العام الماضي وهي: شراء المستلزمات الطبية، صيانة الأجهزة الطبية، شراء الآلات والمعدات الطبية وهي إضافات مهمة لبنود الانفاق الاقتصادي علي الصحة .
رغم الطفرة التي تحدث في استثمارات الصحة إلا أن لدينا مشكلة خاصة بالسياسات سواء من حيث دور الحكومة ودور القطاع الخاص أو من حيث رؤية الاستثمارات واختزالها في المباني والأجهزة والتجهيزات بغض النظر عن توافر العنصر البشري من أطباء وتمريض وهو ما عشناه في تجربة مستشفيات التكامل وفي العديد من المستشفيات الجديدة ذات الواجهات الرخامية الفخمة والأجهزة الحديثة والتي تعاني من غياب الكثير من التخصصات الهامة. لأن التنمية بالبشر وليست بالحجر وبتنمية الأطباء والتمريض وليس بالمقاولات والبناء والاستيراد ولكن بتصنيع الأجهزة والمستلزمات الطبية والأدوية وتلك قضية أخري.
كيف تمت إعادة هيكلة القطاع الصحي ؟!
منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي بدأت خطوات إعادة هيكلة القطاع الصحي بتمويل من المعونة الأمريكية ثم من البنك الدولي حيث تغير تركيب القطاع الصحي بالكامل واذا لجأنا إلى لغة الأرقام نجد التالي :
– القطاع الحكومي فقد عشرات المستشفيات والأسرة وانخفض عدد مستشفيات وزارة الصحة من 1,183 مستشفي تضم 79.4 ألف سرير عام 2006 إلي 390 مستشفي تضم 38.1 ألف سرير وبذلك فقد الشعب المصري ملكية 793 مستشفي و 41.3 ألف سرير حكومي.وهو ما نتج عنه قوائم الانتظار في العمليات الجراحية ومعاناة البحث عن غرف الرعاية المركزة للحالات الحرجة.
– تغير هيكل ملكية المستشفيات حيث أصبح القطاع الخاص يملك 60.6% من المستشفيات عام 2016 بينما القطاع الحكومي يملك 39.4% فقط . وبذلك اصبح القطاع الخاص الطبي يسيطر علي ما يقرب من ثلثي المستشفيات في مصر.
– مسشفيات الحميات كان عددها 106 مستشفي تضم 10,348 سرير عام 2007 ثم انخفضت الي 46 مستشفي تضم 4,526 سرير فقط.وبذلك فقد الشعب المصري 60 مستشفي حميات و 5,822 سرير. ولذلك عندما انتشرت أنفلونزا الطيور وأنفلونزا الخنازير ثم كورونا لم توجد أماكن للعزل لأن هذه الأماكن وخبرة التعامل مع مختلف أنواع الحميات والأمراض الفيروسية قد تم إهدارها وتحويل المرضي للمستشفيات العامة ليزيد انتشار العدوي.
– خلال السنوات الأخيرة 2014-2016 انخفض عدد أسرة وزارة الصحة 2,947 سرير وأسرة الجهات الحكومية التابعة لوزارة الصحة انخفضت 1,265 سرير، كما انخفضت إجمالي الاسرة الحكومية 3,933 سرير رغم زيادة عدد السكان.
– ارتفعت أسرة مستشفيات القطاع الخاص بحوالي 8,051 سرير خلال الفترة ويصبح القطاع الخاص مسيطر علي 25.8% من أسرة المستشفيات في مصر بعد ان كان لا يسيطر الا علي 20.1% عام 2014.
– بنهاية 2016 أصبح القطاع الخاص يسيطر علي 69.3 % من المنشآت الطبية ذات الأسرة ووزارة الصحة لها 18.1% والجهات التابعة لوزارة الصحة 6.1% والجهات الحكومية الأخري 6.5% وبذلك تكون جملة القطاع الحكومي 30.7%.رغم ذلك لازالت وزارة الصحة والجهات التابعة لها والجهات الحكومية الأخري تمتلك 72.7 % من الأسرة بينما يملك القطاع الخاص 27.3% من أسرة المستشفيات فقط وهو ما يزيد من فرص مواجهة الأمراض والأوبئة.
– نفس الوضع ينطبق علي الفريق الطبي حيث يوجد حوالي 30% من الأطباء والتمريض في الحكومة في اجازات دراسية واجازات عمل نتيجة تدني الأجور في القطاع الحكومي.ويتزايد تسرب الأطباء من وزارة الصحة ليشكل ذلك عقبة كبري أمام التنمية الصحية .
وربما تشكل مشكلة التكليف لدفعة مارس 2021 وفرض تخصصات معينة عليهم أو إجبارهم علي دراسة تخصصات محددة لا يرغبون فيها أو الدراسة علي نفقتهم الخاصة اضافة إلي مشكلة كليات العلوم الصحية ومشكلة كليات الطب في الجامعات الخاصة التي لا تملك مستشفيات تعليمية للطلبة وعرض تأجير بعض المستشفيات العامة لهم بما يحرم المواطن من فرص العلاج المجاني.
لقد أعيدت هيكلة القطاع الصحي لتصبح الغلبة للقطاع الخاص في عدد المستشفيات ولكن لا يزال القطاع الحكومي يملك العدد الأكبر من الأسرة .ومن المهم ان تدرك وزارة الصحة أن البشر أهم من الحجر ، وأن توافر المباني والأجهزة الحديثة لا تكتمل قيمته بدون توافر الطبيب/ة والممرض/ة ، وأنه بدون توافر العنصر البشري يصبح الانفاق الحكومي علي الصحة في خطر وبدون رقابة الدولة وتدخلها مع القطاع الخاص نصبح في فوضي ونباع لتجار المرض في الاستثمار الصحي الخاص . وتلك مشكلة سياسات وليست مشكلة إنفاق صحي فقط.
إلهامي الميرغني