اشهد يا محمد محمود| كيف عادت ذكرى أحد أهم أيام المسار الثوري في مصر: دروس من محاولات النضال الشعبي
كتب – أحمد سلامة
تعدّ أحداث محمد محمود واحدة من أبرز المحطات المفصلية في تاريخ ثورة 25 يناير في مصر. في 19 نوفمبر 2011، وبعد عشرة أشهر من تنحي الرئيس الأسبق حسني مبارك، خرج الآلاف من المتظاهرين إلى شارع محمد محمود وسط القاهرة للاحتجاج على بطء تنفيذ مطالب الثورة. كانت الاحتجاجات تهدف بشكل رئيسي إلى الضغط على المجلس العسكري الحاكم آنذاك لتنفيذ مطالب الشعب في بناء دولة مدنية حقيقية وتطهير الأجهزة الأمنية، فضلاً عن محاسبة المسؤولين عن قتل المتظاهرين في 2011. لكن ما بدأ كمظاهرة سلمية تحول إلى مواجهات دامية مع قوات الأمن المركزي، لتسجل أحداث محمد محمود واحدة من أسوأ وأعنف الفترات في تاريخ ما بعد الثورة.
تعود جذور أحداث محمد محمود إلى ما بعد تنحي الرئيس مبارك في فبراير 2011. وعلى الرغم من الإنجاز التاريخي المتمثل في إسقاط نظامه، إلا أن كثيراً من القضايا التي كانت محط مطالب الثورة لم تُحل بشكل جاد. كانت القوات المسلحة، التي تولت السلطة في البلاد عبر المجلس العسكري، تسيطر على مقاليد الأمور وتؤخر خطوات انتقال السلطة إلى حكومة مدنية. كما أن قضايا محاسبة المتورطين في قتل المتظاهرين وتطهير جهاز الشرطة من رموز النظام السابق لم تُحل بشكل فعال.
وتفاقم الوضع في ظل التباطؤ في عملية محاكمة قتلة الثوار، وكذلك استمرار الانتهاكات الحقوقية من قبل أجهزة الأمن. كانت الشوارع المصرية تعج بالغضب، فيما كانت السلطات تماطل في فتح ملفات الفساد والانتهاكات. في هذا السياق، قرر المتظاهرون الخروج مجددًا للمطالبة بحكومة مدنية، وهو ما قوبل بتصعيد .
في 19 نوفمبر 2011، نظم العديد من النشطاء والمواطنين مظاهرة سلمية في شارع محمد محمود، لكن قوات الشرطة والأمن المركزي واجهتهم بعنف مفرط. استخدمت الشرطة الغاز المسيل للدموع، والقنابل الصوتية، والرصاص الحي، في محاولة لتفريق المتظاهرين. سرعان ما تحولت المظاهرات إلى مواجهات دامية أسفرت عن سقوط العديد من الشهداء والجرحى. المشهد المأساوي تكرر يومًا بعد يوم، حيث أصيب العديد من المتظاهرين، ومن بينهم بعض الصحفيين الذين كانوا يقومون بتغطية الأحداث. وبالرغم من محاولات تهدئة الموقف من قبل بعض الشخصيات العامة، إلا أن التوترات استمرت طوال الأيام التالية.
شهدت هذه الأحداث العديد من مظاهر التضحية، حيث أظهرت الصورة الأيقونية للمظاهرات شبابًا يسقطون على الأرض، مصابين بالرصاص الحي، وهم يقاومون بصدور عارية قوات الأمن. ولكن رغم هذه التضحيات الجسام، فإن الغضب الشعبي لم يتوقف، بل كان له دور في تشكيل وعي جماهيري جديد.
لم تكن أحداث محمد محمود مجرد اشتباك بين المتظاهرين وقوات الأمن، بل كانت تمثل اختبارًا كبيرًا للمجلس العسكري الحاكم، خاصةً في كيفية تعامله مع المطالب الشعبية. وكانت هناك شكوك واسعة حول نوايا المجلس العسكري في الحفاظ على نفس نهج النظام السابق من حيث الهيمنة على السياسة الأمنية ورفض التغيير الجذري في هياكل الحكم. وفي الوقت ذاته، كانت الأحداث تمثل صراعًا بين القوى الثورية التي نزلت إلى الشوارع لتحقيق العدالة والمساواة، وبين القوى التي لا تزال تحاول الإبقاء على الوضع القائم.
لقد ساهمت هذه الاحتجاجات في دفع القضية الاجتماعية والسياسية في مصر إلى الأمام، حيث بدأ المصريون يدركون أن حلم الثورة لم يتحقق بعد، وأنه يتطلب جهدًا جماعيًا مستمرًا. كما أن أحداث محمد محمود شكلت منصة لتوحيد الجهود بين مختلف القوى الثورية، التي أدركت أن استمرار التفاوت بين الشعارات الثورية والواقع السياسي هو التحدي الأكبر.
في أعقاب أحداث محمد محمود، كان هناك مطالب واسعة بمحاكمة المسؤولين عن أعمال العنف والانتهاكات التي حدثت في تلك الأيام. وقد تزامن ذلك مع تصاعد المطالب بتطهير المؤسسات الأمنية والقضاء على الفساد المستشري داخل هذه المؤسسات. وعلى الرغم من بعض المحاكمات التي جرت في إطار المساءلة القانونية، إلا أن النتائج كانت متواضعة للغاية مقارنة بحجم الجرائم المرتكبة. ولم تكتمل بعد عمليات محاسبة جميع المتورطين في قتل المتظاهرين، مما أضعف ثقة الشعب في العملية السياسية وأدى إلى استمرار الاحتقان.
ورغم الجهود المستمرة من نشطاء الثورة والمجتمع المدني، إلا أن الملف الأمني ظل مغلقًا إلى حد كبير، حيث كان يصر النظام العسكري على تأجيل إجراء محاكمات عادلة وشاملة للمسؤولين عن قتل المتظاهرين. وهذا أدى إلى زيادة في التوترات بين الشعب والنظام الحاكم، وأدى إلى تراجع كبير في مصداقية الحكومة.
اليوم، ورغم مرور سنوات على تلك الأحداث، تبقى ذكرى محمد محمود حية في ذاكرة المصريين. ففي كل عام، يتجمع الآلاف من الثوار وأسر الشهداء في ذكرى هذه الأحداث، ليؤكدوا على ضرورة تحقيق العدالة للشهداء، ولتذكير الجميع بأهمية التغيير الجذري في مصر. ومع مرور الوقت، أصبحت ذكرى محمد محمود رمزًا للمقاومة.
الذكرى السنوية لأحداث محمد محمود تحمل في طياتها رسالة مفادها أن مصر لن تتراجع عن مطالب الحرية والعدالة، وأن الطريق نحو بناء دولة مدنية قائمة على احترام حقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية هو الطريق الوحيد الممكن. ورغم التحديات والصعوبات التي واجهها المتظاهرون في تلك الأيام، إلا أنهم تركوا إرثًا لا يُنسى، يشكل جزءًا من تاريخ النضال الوطني ضد الاستبداد.
إحياء ذكرى محمد محمود يجب أن يكون فرصة للتفكير في المستقبل، وخاصة فيما يتعلق بحماية الحقوق والحريات العامة، والعمل على تحسين أوضاع الصحافة والإعلام في مصر.. من هنا، تصبح ذكرى محمد محمود مناسبة لتقييم الوضع الراهن ومراجعة التقدم المحرز في تنفيذ مطالب نادت بها الجماهير قبل أكثر من عِقد من الزمان.