البلشي: الجرائم المرتكبة ضد الصحفيين في فلسطين ولبنان «الأبشع» خلال العصر الحديث
نقيب الصحفيين: من يقيدون عمل الصحافة يخسرون سلاحًا للدفاع عن المستقبل.. ولا بد من التفكير في كيفية حماية هذه المهنة
مرتكبو الجرائم بحق الصحفيين لم يخضعوا للمساءلة مما يعكس انعدام العدالة ويكشف دافعًا رئيسيًا لاستمرار هذه الانتهاكات
هناك حاجة ملحة للتضامن بين الصحفيين ووضع قواعد مهنية وإنسانية تحميهم وتدعمهم في سعيهم لنقل الحقيقة ومن أجل دفع العالم لتحمل مسئوليته في الدفاع عن إنسانية الصحفيين
أكد خالد البلشي، نقيب الصحفيين، أن حدودنا الشرقية تشهد واحدة من أبشع الجرائم ضد الإنسانية، والجريمة “الأبشع” بحق الصحافة والصحفيين في العصر الحديث، وشدد على ضرورة أن نعمل معًا من أجل الانتصار للمهنة والحقيقة، وكذلك “محاسبة ومحاكمة قتلة الحقيقة”.
وقال نقيب الصحفيين في كلمة له حول “الصحافة في زمن الحرب” خلال افتتاح مؤتمر القاهرة للإبداع بالجامعة الأمريكية، إن ما يقرب من 20% ممن ينقلون الحقيقة على الأرض في فلسطين فقدوا حياتهم، ومازال زملاؤهم يعملون، لافتا إلى أن أكثر من 180 صحفيًا وعاملًا بقطاع الإعلام، من بين 1000 صحفي يعملون على الأرض في غزة استُشهدو، مؤكدا أن “هذه الأرقام، لو حدثت في أي مكان آخر، لكانت القضية قد أثارت ضجة عالمية”.
وأضاف البلشي أن مجرد رصد تضحيات الصحفيين من أجل الحقيقة والكلمة الحرة باعتبارها دليلًا على شجاعتهم والوقوف عند هذا الحد دون تطوير أدوات حماية سيبقى مجرد اجترار العاجز للذكريات، مشددا على أن هذه دعوة للتفكير في كيفية حماية هذه المهنة، وتأمين مستقبلها في وجه التحديات.
وتابع بأن ما يجري في الحروب على الأرض في فلسطين، وفي لبنان، وفي أماكن أخرى من العالم، والتناقضات الصارخة في المواقف يفرض علينا أن نناقش معًا كيف نتجاوز ما جرى لاستعادة مهنتنا، وأهمية الأخلاقيات في ممارسة الصحافة في أوقات الأزمات، كذلك تحديد التحديات التي تواجه مراسلي الحروب والصراعات.
ووجه خالد البلشي، نقيب الصحفيين – خلال كلمته – رسالة لكل مَن يقيدون عمل الصحافة بأنهم يخسرون سلاحًا للدفاع عن المستقبل، منوها إلى أنهم “ربما لا يجدونه وقت الحاجة إليه إذا لم يفهموا الدرس”، ويستجيبوا لدعوات تحرير الصحافة وفك قيودها، وإطلاق سراح المحبوسين.
وفيما يلي النص الكامل لكلمة نقيب الصحفيين:
الحضور الكرام
زميلاتي وزملائي أبناء مهنة الصحافة
السادة منظمي المؤتمر
أشكركم جميعًا على هذه الدعوة الكريمة، التي تتكرر للعام الثاني في ظرف هو الأصعب في تاريخنا.
أقف اليوم بينكم للحديث عن الصحافة والصحفيين في زمن الحرب، بينما تشهد حدودنا الشرقية واحدة من أبشع الجرائم ضد الإنسانية، والجريمة الأبشع بحق الصحافة والصحفيين في العصر الحديث، فيما يقتصر دورنا لمساندتهم في حدود كلمات عاجزة، أو تحركات لا ترقى لحجم ما يواجهونه من جرم، حيث تُغل أيدينا جميعًا عن مساندة تليق بحجم تضحياتهم لأسباب متباينة بدءًا من ازدواجية المعايير وصولًا للقهر، والاستبداد، والصمت المفروض قصرًا على قطاعات واسعة من ممارسي المهنة.
الحضور الكرام،،
إن ما يحدث في فلسطين، ولبنان هو جريمة ضد الإنسانية تتطلب إدانتنا القوية. ولكن، هل الإدانة كافية؟ أم أن البداية تكون بقراءة المشهد، ومدى انتصارنا جميعًا لقيم مهنتنا لنعمل معًا على تجاوز مسبباته؟ لدينا واجب مُلِح للتحدث بحزم ووضوح.
ما يحدث اليوم في فلسطين يُعد أحد أسوأ الحقب في تاريخ الإنسانية، والجريمة الأبشع في التاريخ بحق الصحافة، فالأرقام تقول إن ما يقرب من 20% ممن ينقلون الحقيقة على الأرض فقدوا حياتهم، ومازال زملاؤهم يعملون، حيث استُشهد أكثر من 180 صحفيًا وعاملًا بقطاع الإعلام، من بين 1000 صحفي يعملون على الأرض في غزة. هذه الأرقام، لو حدثت في أي مكان آخر، لكانت القضية قد أثارت ضجة عالمية.
الأرقام تقول أيضًا إنه خلال العام الأول من العدوان الصهيوني الفاشي على فلسطين، تم ارتكاب أكثر من 1639 جريمة وانتهاكًا بحق الصحافة في فلسطين، وهذا الرقم بخلاف الـ 180 شهيدًا، بينهم 21 صحفية يشمل إصابة 357 صحفيًا بسبب قصف الاحتلال، و125 صحفيًا تم اعتقالهم، بينهم 21 زميلة، وصحفيون قيد الإخفاء القسري.
الأرقام تشير أيضًا إلى تدمير 73 مؤسسة إعلامية في غزة، وإغلاق 15 مؤسسة في الضفة الغربية، بخلاف تسجيل 902 انتهاك تراوحت بين إطلاق النار، والاحتجاز، ومنع التغطية من قبل الاحتلال ومستوطنيه. وبرغم المخاطر الجسيمة التي تواجههم، أثبت الصحفيون الفلسطينيون أنهم شاهدون على الحرية، يغطون الأحداث بأمانة واحترافية عالية، وهم يواجهون عدوًا فاشيًا يسعى لإسكات الأصوات الحرة.
المشهد أيضًا تكرر في لبنان، ولعل استهداف مقر إقامة الصحفيين، الذين يغطون العدوان الإسرائيلي بالجنوب اللبناني خلال نومهم يُظهر بوضوح أن ما يُستهدف هو أكثر من مجرد أرواح الصحفيين؛ إنها القيم والمبادئ التي نؤمن بها.
حقيقة أخرى لا بد أن نواجهها، وهي أنه بينما تحركت العديد من الحكومات والمؤسسات الإعلامية في الغرب للدفاع عن الصحفيين في دولهم، كانت الاستجابة لما يحدث في فلسطين ولبنان محدودة، وتتسم بالصمت المشين. فالأرقام تقول أيضًا إن مرتكبي الجرائم بحق الصحفيين لم يخضعوا للمساءلة، مما يعكس انعدام العدالة في ظل استمرار الانتهاكات، وبما يكشف أيضًا دافعًا رئيسيًا لاستمرار هذه الانتهاكات.
وفي هذا الإطار، لا يمكننا أن نتجاهل التواطؤ الدولي، الذي ساهم في هذا الواقع المرير. إن الدعم الغربي والأمريكي للقتلة، وتقديم الغطاء السياسي والعسكري للاحتلال، يُظهر بوضوح أن هناك مَن يختار السكوت عن الحق، ويُسهم في تواصل الانتهاكات. إن جزءًا من دورنا هنا أن نقف لنقول: كفى من هذا التواطؤ، الذي يهدد حياة الصحفيين، والضحايا الأبرياء، ونتدارس معًا كيفية الحيلولة دون تكراره.
ولكن البداية الصحيحة لا يمكن أن تتجاوز توصيف دورنا أيضًا، وأسباب عجزنا عن تقديم عون يليق بهم في ظل صمت عربي دامٍ يلف المنطقة، وما يمثله من خذلان للإنسانية ولرسالة الصحافة، ولقيم العدالة والإنسانية.
الحضور الكرام،،
عندما نستذكر جريمة استهداف الزميل وائل الدحدوح وعائلته، وعشرات من عائلات الصحفيين، فإننا لا نتذكر فقط أبشع أنواع الاستهداف، بل نتذكر أيضًا كيف تتعرض الإنسانية برمتها للأذى بسبب الابتعاد عن المبادئ العادلة؟. لقد رأينا بكاء الزملاء وعائلاتهم على الهواء، وفقدانهم للثقة في كل ما تمثله مبادئ عالم يتغافل عما يتعرضون له.. وشاهدنا على الهواء أيضًا كيف تم استهداف الأطفال والنساء في هذه الحرب غير المتكافئة بما يفرض العديد من الأسئلة عن دور الصحافة وواجبنا كصحفيين؟
أقف بينكم بينما تتدافع في رأسي العديد من المقارنات والأسئلة، حول موقف زملاء مهنة يصرون على نقل الحقيقة رغم فداحة الجريمة، وعظم وهول المخاطر، وبين مواقف متخاذلة ومتواطئة، وبعضها مشارك في هذه الجريمة.
أسئلة حول مستقبل هذه المهنة العظيمة، وكيف يمكن أن نحمي الحقيقة وننقلها، ومقارنات مع زملاء يدفعون يوميًا ثمن تصديهم لنقل الحقيقة.. وبين بعض مَن كنا نعتبرهم زملاء، ولكنهم يشاركون في عملية القتل الممنهج بحق الزملاء في فلسطين بنقل وقائع مزورة ومزيفة لما يجري على الأرض، وبانحياز سافر للقاتل، وخذلان غير مسبوق لزملاء المهنة.
تتدافع الأسئلة عن كيف يمكن الحفاظ على مهنيتنا، وقيمنا الصحفية والإنسانية، وقدرتنا على الاستمرار في هذا العالم البشع؟
نجتمع اليوم لنتحدث عن الصحافة وقت الحرب، بينما تتدافع إلى الأذهان أسئلة عمن يدفعون ثمنًا باهظًا من أجل الحقيقة والكلمة الحرة. كيف فصلوا بكل بسالة بين قدرتهم على ممارسة دورهم، وبين المخاطر التي تواجههم؟.. إنها بطولة ربما نحصد ثمنها عندما نتحدث عن قوة الصحفيين وانتصارهم لمهنتهم، ونرسل رسائل لجميع الأطراف عن قدرة الصحفيين في الدفاع عن الحقيقة، والعدالة والإنسانية والأوطان، عندما يتحررون من قيود أخرى تكبل حركتهم، ولكن أتمنى ألا ننسى أن هذا الانتصار تحقق بعددٍ هائل من الدماء؟
تثير الكلمات مقارنة أخرى صعبة عن معنى الحرية.. والفارق بين معاناة قطاعات واسعة من الصحفيين بمنطقتنا للتحرر من القيود الخانقة، ومواجهة القواعد والقوانين المكبلة، وبين قدرتهم حينما يتحررون منها على مواجهة عدو فاشي مزود بأعتى الأسلحة.
إنها مقارنة تستحق وقفة جادة من جميع الأطراف، ورسالة لكل مَن يقيدون عمل الصحافة بأنهم يخسرون سلاحًا للدفاع عن المستقبل. وربما لا يجدونه وقت الحاجة إليه إذا لم يفهموا الدرس، ويستجيبوا لدعوات تحرير الصحافة وفك قيودها، وإطلاق سراح المحبوسين.
إنها مواجهة صعبة تفرض علينا جميعًا العديد من الأسئلة الأخرى: كيف لنا أن نحمي مهنتنا، ونحمي زملاءنا في المستقبل، وكيف نعيد رسم المشهد بعد سنوات لننسى جرائم مَن شاركوا في هذه الجريمة المروعة بنشر الأكاذيب؟ ولنتحدث عن مهنة واحدة، ومستقبل يجب أن يلفنا جميعًا، ونتشارك في وضع قواعد مهنية وإنسانية تحمينا جميعًا، وكيف نتجاوز معًا أن بعضًا ممن نصّبوا أنفسهم أساتذة للمهنية والموضوعية، ومدافعين عن الديمقراطية والعدالة والإنسانية كانوا أول مَن شاركوا بالقتل، وبالأخص من قدرتنا على الدفاع عن هذه المبادئ في مواجهة مَن يتربصون بها في منطقتنا، وهم كثر.
الحقيقة أننا لا بد أن نتجاوز لنرسم حدود المستقبل، والحقيقة أننا لا مفر يومًا من أن نعمل معًا من أجل الانتصار للمهنة والحقيقة، ربما يعيننا مَن انتصروا لمهنتهم، ولكن لا بد من محاسبة ومحاكمة قتلة الحقيقة، وهدفنا مهما حدث ألا يدفع صحفي ثمنًا مشابهًا لما جرى حتى لو كان على الجانب الآخر.
الزملاء الأعزاء والحضور الكرام،،
إن مجرد رصد تضحيات الصحفيين من أجل الحقيقة والكلمة الحرة باعتبارها دليلًا على شجاعتهم والوقوف عند هذا الحد دون تطوير أدوات حماية سيبقى مجرد اجترار العاجز للذكريات، أو مباهاته بقوة أشقائه، أو شعر بنت أخته، هذه دعوة للتفكير في كيفية حماية هذه المهنة، وتأمين مستقبلها في وجه التحديات.
في ظل هذه الظروف، يبدو أن هناك حاجة ملحة للتضامن بين الصحفيين، ووضع قواعد مهنية وإنسانية تحميهم وتدعمهم في سعيهم لنقل الحقيقة، ومن أجل دفع العالم لتحمل مسئوليته في الدفاع عن إنسانية الصحفيين في جميع أنحاء العالم، خاصة في فلسطين. لنكن صوتًا لم يُسمع بعد، ولنجعل من قضايا الصحفيين محورًا لحركاتنا.
وهي دعوة أيضًا لتدارس تطور التغطية المهنية، وحجم تأثير التطورات الحديثة في نقل الحقيقة، ففي زمن تتداخل فيه الحقائق مع الأكاذيب، نجد أنفسنا في زمن رقمي يتطلب منا إبداعًا وجرأة أكبر.
ومع دخول السوشيال ميديا كعصب رئيسي في تغطية الحرب، أجدني متفقًا مع دعوة هذا المؤتمر من أننا أصبحنا نواجه تحديات تتعلق بالمصداقية والتمييز بين الأخبار الصحيحة والمضللة.
إن ما يجري في الحروب على الأرض في فلسطين، وفي لبنان، وفي أماكن أخرى من العالم، والتناقضات الصارخة في المواقف يفرض علينا أن نناقش معًا كيف نتجاوز ما جرى لاستعادة مهنتنا، وأهمية الأخلاقيات في ممارسة الصحافة في أوقات الأزمات، كذلك تحديد التحديات التي تواجه مراسلي الحروب والصراعات.
بالإضافة إلى مناقشة الممارسات الحالية من حيث التوازن بين السرعة والدقة في نقل الأخبار والمعلومات، ومناقشة سلامة الصحفيين في البيئات المعادية مع استكشاف أهمية التكنولوجيا الرقمية في تعزيز المنتج الصحفي، وإدخال أدوات مبتكرة لاستخدامها من قبل العاملين في وسائل الإعلام.
لقد غيّرت المعلومات المضللة، وانعدام الثقة والتضليل والرقابة والدعاية، وخطاب الكراهية، والتزييف العميق، والنصوص والوسائط الصوتية، التي تم إنشاؤها بواسطة الذكاء الاصطناعي طبيعة التقارير الإخبارية. كما غيّرت كذلك الصور، ومقاطع الفيديو، والحياة والمشاركات الملتقطة على الهواتف فهم الحرب والصراع. بينما يُحرم الصحفيون على الأرض من الوصول إلى المواقع والمعلومات، ويواجهون القتل والقصف والسجن في ظل إفلات واضح من العقاب. وقد أدت هذه القيود والحواجز الشديدة إلى إسكات العديد من مصادر المعلومات، وترك قصص الحرب يرويها المواطنون بدلًا من مراسلي الحرب المخضرمين، وكلها أسئلة مطروح علينا مناقشتها.
في النهاية،،
أجدني مدين بالاعتذار لكم، فربما لا تكون كلمتي مناسبة ككلمة افتتاحية لمؤتمر عن الصحافة، فقد طغى للعام الثاني الواقع المأساوي، الذي نعيشه على كلمتي بدلًا من الحديث عن فنيات الصحافة وقواعدها ومستقبلها، وكيف نطورها.. لكن للأسف هذا هو الواقع الذي نواجهه، وعلينا جميعًا أن نستذكر ظروفه وملابساته علّها تكون عونًا ووسيلة توخز ضمائرنا لنصنع معًا صحافة قادرة على مواجهة التحديات، صحافة تحتمي بالحقيقة، وتليق بإنسانيتنا.
وفي هذه المناسبة، فإنني أتوجه لكم بالدعوة لحضور المؤتمر السادس للصحافة المصرية، الذي تنظمه نقابة الصحفيين أيام ١٤ و١٥ و١٦ ديسمبر، ربما تكون لدينا فرصة لمناقشة أزمة مهنتنا ومستقبلها والتحديات، التي تواجهنا على مستوى الحريات، وهي كثيرة، والتشريعات التي تحكمنا، وهي تحتاج لوقفة جادة لتطويرها، والتقدم التكنولوجي وتحدياته، وهو يحتاج لمناقشة مستفيضة، والأزمة الاقتصادية التي تواجه الصحافة ويدفع ثمنها الصحفيون.