حنـان فـكري تكتب: جائحة فى صدره.. جائحة فى ضميري
دور برد عادي، وبدأ السعال يخترق صدر صديقي الغالي الحمول، لكن سرعان ما تحول السعال إلى ألم شديد فى الصدر، وحرارة مرتفعة، وضيق في التنفس، زاره الطبيب فى المنزل، وبالرغم من المضادات الحيوية القوية، لم يختف السعال ولم تختف الحرارة، بعد اكتمال أسبوع، وضغط من الأصدقاء والأحباء، ذهب إلى مستشفى الحُميات، وهناك أجروا له فحص الأشعة العادية “إكس راي” على الرئتين وجاءت النتيجة التهاب رئوي حاد، أما نتيجة التحليل التي تسبق المسحة الخاصة بفحص كورونا، فجاءت جميعها مرتفعة فى دلالة على وجوب إجراء المسحة، وبالرغم من ذلك صرفه الأطباء من مستشفى حميات إمبابة، وقرروا إعادة الفحص بعد يومين، ومضى اليومان، والمجهول يلتهم رئتي الرجل.
ذهب الصديق بعد اليومين، ليخبره الطبيب أنه لا يحتاج لإجراء مسحة، بالرغم من أن الأشعة تفيد بأنه يعاني التهاب رئوي حاد، وصرفه للمرة الثانية، ومضى صديقي ملتحفاً بخيبة الأمل، يعلم تماماً ما به ولا مغيث، يتحرك منفرداً خشية أن يكون حاملاً لكورونا، فينقله لمن يرافقه، وبعد تسعة أيام من السعي منفرداً، خارت قواه، وانحسر الهواء فى صدره، قرر إجراء فحص مقطعي، كما نصحه أحد الأطباء، الذين اطلعوا على الفحوض السابقة، بين الفحصين، استطاع الوصول لمستشفي اسمها “أبو المنجي” بالقليوبية أجرت له فحصاً لم تظهر نتيجته حتى كتابة هذه السطور.
وشعرت كم هى ثقيلة الوحدة التي يعانيها أولئك الذين يتحملون عبء المرض، وغياب السند فى آن واحد، قررت الذهاب معه إلى مركز الأشعة، وحيداً جاء يحمل فحوصه، يجر ساقيه، غير قادر على الترجل، ولا حتى على رفع رأسه، ولا على التنفس، أزرق اللون، زائغ العينين، لا يسمع نصف ما أتلوه عليه من نصائح وارشادات، حتى لا يلتقط عدوى جديدة، آملة أن يكون ما لديه تشابُه مع أعراض “كورونا”، ودخلنا إلى غرفة الفحص، ووجدتني في مواجهة مع الحقيقة التي يتصدى لها كل من تعرضوا لذات التجربة، استند الرجل إلى سرير الفحص، لا يستطيع أن يعتليه بمفرده، وأنا واقفة أتابع بلا مساعدة، عاجزة أن أمد يدي، عاجزة أن أكون سنداً لفرد واحد، فقد أساعده ثم أكون مصدراً لإيذاء عشرة، وربما مائة فرد، إنها المعادلة القاتلة، أن يجد مريض “كورونا” نفسه وحيداً منفرداً، ليس بجواره من يؤنس وحدته أو يدعمه نفسياً لمواصلة المقاومة، ولا حتى أقرب الناس إليه، انحنيت في محاولة لفك رباط حذائه، منعني بحياء، وكأنه يخشى إيذائى.
ما كل هذه المشاعر المُلطخة بالخوف، الاحتياج المعجون بالخوف، الألم المودع فى خزائن الخوف، يخشى أن يفر معلناً العصيان، العجز المُكبل بأغلال الخوف، إنها أرض الخوف التي تمكنت منا حتى في عمق لحظات الصدق في حياتنا، لحظات الإنسانية وفقط الإنسانية.
انتهي الفحص، وقرأت النتيجة في وجوه العاملين فى المركز، الكل تسَمر فى مكانه، شباب مكتب الاستقبال، صاروا يمسكون بزجاجات الكحول فى هيستريا، ثم فوجئت بعمال المركز أخرجوا الجميع ليطهروا المكان، أدركت أننا امام الجائحة، لا لقد أدركت أن الجائحة فى إحشائه، في رئتيه، واستسلمت لها خلاياه، وما من مغيث.
يبدو أن العمال تلقوا إرشادات بالتعامل، أخرجونا بمنتهي الذوق على اعتبار أن رائحة الكلور سوف تؤذي صدره المُلتهب، فى الاتجاه العكسي هرولت نحو فني الأشعة، برجاء النفس الموقنة أنه لا رجاء، طلبت منه الإطمئنان، رفض تماماً، تحدثت لمدير المركز هاتفياً، وأرسلت صور الأشعات لأكثر من طبيب، الكل أجمع على خطورة الحالة، وأن “كورونا” اخترق رئتيه، وسيطر وتمكن منهما، ولابد من نقله للمستشفي.
طبيب الصدر المتخصص، اتصل بي فور إرسال صور الأشعة قائلاً: الحالة خطيرة ولابد من مستشفى، وأنا عارف إن مافيش أماكن لكن لازم مستشفي حُميات، وحتى لو نتيجة المسحة الأولى طلعت سلبية مافيش غير “كورونا” اللي بيعمل الشكل ده فى الرئتين”، أنهيت المكالمة، حاولت الإتصال بأكثر من مسؤول ، دون جدوى فمركزية اتخاذ قرار الدخول للمستشفي عبر مستشفيات الحميات محدودة الأسرة، محدودة الطاقة، أو عبر 105 محدود القدرة، لا يمكن أن تقوم بتغطية كل مكان فى مصر. ولايمكن أن نمنع علاج مرضى الالتهاب الرئوي فى المستشفيات بسبب تشابهه مع كوفيد-19.
تركته صديقي، ورحلت غير قادرة على دعمه حتى بلمسة كتف حانية تمسح عن كاهله الوحدة التي يشعرها مرضى كوفيد-19، الوحدة والعزلة، والشعور المرعب بالذنب تجاه كل من يقترب منهم، بالرغم من انهم الطرف المُبتلى، تركته وسرت، تحملني الصدمة، فوق الأسفلت، تتساقط دموعي، تمنعها الكمامة من الانتشار فوق وجهي، مددت يدي فتذكرت الإرشادات، علي ألا المس الكمامة، وجدتني العنها، نعم لعنت كمامتي وخلعتها القيت بها على قارعة الطريق، تمردت عليها، وعلى الخوف الذي حيينا فيه سنوات- رغماً عنا – سياسياً واليوم نحياه صحياً، والكل يؤدي إلى الكل، فبينهما سراديب ممتدة من المركزية، والتعتيم، وسطوة النفوذ، والمال والتفاوت الاجتماعي، وضيق ذات اليد، الذي قد يمنح قبلة الحياة لإنسان، أو يضعه فى قبضة الموت.
رممت كسوري بعد عاصفة العجز التي انتابتني، وقررت أن أكتب إليكم، بعد أن تيقنت من أن جائحة فى صدر عزيز لديَ، صاحبتها جائحة فى ضميري، تدفعني للحكي الأسود، عن جسور الود التي انقطعت في شراييننا، ورائحة الورد التي فارقت أنوفنا، عن مشاعر قالب الجليد الذي تصيبنا فيه فوبيا العدوى، فنقف في جمود لا تمتد أيادينا بالمساندة، إلا فى أضيق الحدود، بعيداً عن الأحباء والأصدقاء تحتجزنا مسافات الأمان، تتلألأ الدموع في عيوننا، تعلن العجز مثلما تعلن الحزن، لكن الدموع لا تشفي من مرض، ولا تحمي من عدوى، نخشى الإقتراب من أحباء وأصدقاء، من أجل أحباء وأقرباء وأصدقاء آخرين.
هذا ما فعلته بنا جائحة “كورونا”. لا إنه ما فعلته بنا جائحة التضليل التي أوهمتنا ان كل شىء تحت السيطرة، وإن غداً يمكننا التعايش مع كورونا، وفتح كل المجالات، دون الإلتفات للوعي الغائب بفعل فاعل، الوعي الذي لا يصدق الإعلام، ولا الصحافة بعد أن شيطنتهما الأنظمة المتعاقبة، الوعي الذي يكفيه أن يرد على نصائح العلم بـ”خليها على الله”، بما يكفي لاستيطان الوباء في أرضنا.