زياد العليمي يكتب: العدالة الانتقالية.. مخرج بلادنا وبديلنا للاستقرار (الحلقة الأولى من سلسلة العدالة الانتقالية)
في منتصف يوليو 2011، كتب نيلسون مانديلا رسالة إلى ثوار مصر وتونس، قرأتها، مثل الجميع، دون تأمل فحواها، وتمعن كلماتها التي تنطق بحكمة صقلتها تجارب الفشل والصمود المتكررة، وصولًا لنصر مستحق.
وفي محاولتي، مثل الجميع، للبحث عن مخرج بعد كل التعقيدات التي طالت الوضع المصري، أعدت منذ عامين تقريبًا قراءة رسالته، لعلي أجد فيها قشة نتعلق بها. فقادتني الرسالة إلى المخرج الذي أراه ممكنًا، في حدود وعيي وإدراكي الحالي٬ والذي سأحاول طرحه خلال هذه السلسلة من المقالات.
مرت خمس سنوات على إعلان المصريين عن حلمهم بوطن جديد يستحقونه، حين خرجت الملايين لتعلنها صراحة: الشعب يريد إسقاط النظام. إلا أن السنوات الخمس طرحت الكثير الأسئلة التي تنتظر إجابات، وألقت بنا أمام مئات الأبواب التي يجب أن نبحث عن “مفاتيحها”، ليمر وطننا بسلام من عهد الاستبداد والفساد والطائفية والإقصاء، إلى عهد الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والمساواة؛ عهد تستحقه أوطاننا وشعبنا.
هي وقفة للمحاسبة وإعادة الهيكلة
كان ـ ومازال ـ سؤال البديل هو أهم الأسئلة التي تلح على ملايين الحالمين بوطن جديد. ورغم هذا الحلم المتجسد في آلاف منتشرين عبر ربوع وطننا، إلا أننا ورثنا عن أنظمة الاستبداد، البحث عن الحلم/ الشخص، أو “الشخص” الذي يجسد الحلم، بنفس السمات التي وضعها لنا هذا النظام: كاريزما شخصية، قدرة على المناورة، التمكن من مهارات الخطابة، وغيرها. إنها المهارات الشخصية التي يمكن أن تكون موصلا جيد للأفكار، ويمكن أن تكون أيضًا أنجح سبل الخداع.
لعقود طويلة أحرقت الأنظمة المتعاقبة كافة البدائل السياسية الممكنة، حتى يستتب لها الأمر باعتبارها بديلا وحيدا ممكنا، وصار من اللازم أن تمر الدولة بفترة انتقالية طويلة، يتسنى خلالها محاسبة من ارتكبوا جرائم في حق الوطن، وإعادة هيكلة مؤسسات الدولة. وفي نفس الوقت، تطرح القوى السياسية المختلفة إجاباتها حول أسئلة الواقع، بداية من كيف نغلق صفحة الماضي، وحتى كيف نبني دولة المستقبل، وما بينهما. وفي أثناء هذا الصراع، تكتسب الرؤى المختلفة مؤيدين ومعارضين، فتتبلور الكتل السياسية، ويقوى المجال السياسي برمته، وتستطيع الجماهير في نهاية المطاف اختيار من يمتلك رؤية قادرة على كسب أكبر عدد من المؤيدين.
ولا شك أن المعيار الرئيسي للبديل في الدول الحديثة ـ التي نحلم ببناء أوطاننا على منوالها ـ هو الرؤية التي تساهم في بناء وتطوير البلاد، ومن يمتلك الرؤية، يكون هو البديل!. ومن بين أبناء معسكر التغيير، هناك مئات قدموا بدائل مختلفة للعالم، يمكن أن تستفيد بها بلادنا، وكان نيلسون مانديلا واحدا من أنبل أبناء هذا المعسكر وأكثرهم عمقا وإنسانية، لهذا أعود لقراءة رسالته…
مانديلا: كيف نتعامل مع ميراث الظلم؟
ربما لم يكن نيلسون مانديلا هو الزعيم الأكبر تأثيرًا من بين 156 قيادة أعتقل معها، أو الأعظم قدرًا بين القيادات الست الذين واجهوا الحكم بالسجن مدى الحياة! وبالطبع لم يكن يومًا الأكبر تأثيرًا في أعمال تنظيم حزب المؤتمر الوطني الأفريقي الذي قاده.
لكن الأمر المؤكد أن مانديلا بعد 27 عامًا قضاها في السجون، كان الوحيد الذي امتلك رؤية لحل مشكلات وطنه، وكانت أكثر تعقيدا مما نعانيه الآن. عبر مانديلا بوطنه من حكم دولة مستبدة تمارس التمييز العنصري، إلى دولة ديمقراطية حديثة تحرز تقدمها بخطوات ثابتة، بجميع مواطنيها من دون تمييز. ديمقراطية أفريقية أصبحت مثالًا يحتذى لكيفية نهوض الدول من كبواتها بسواعد جميع أبنائها كي تلتحق بركب الدول الحديثة.
بدأ مانديلا رسالته باعتذار هادئ “لإخوته في مصر وتونس” عن التدخل في شئونهم الخاصة، وطلب المغفرة إن كان دس أنفه فيما لا ينبغي اقتحامه. موضحًا أن ما دفعه لكتابة هذه الرسالة، إحساسه بأن واجب النصح مقدم على غيره، وأن الوفاء بما أولاه إياه الجميع من مساندة أيام الفصل العنصري، يحتم عليه رد الجميل بإبداء رأي حصنته التجارب، وعجنته الأيام، وأنضجته السجون”.
تحلق رسالته بعد ذلك في ذكريات يوم مشمس بعيد من أيام كيب تاون، خرج فيه من سجن انتزع من عمره سنوات طويلة.
“خرجت إلى الدنيا بعد أن ووريت عنها سبعًا وعشرون سنة، لأني حلمت أن أرى بلادي خالية من الظلم والقهر والاستبداد. ورغم أن اللحظة أمام سجن فيكتور فستر كانت كثيفة على المستوى الشخصي، إذ سأرى وجوه أطفالي وأمهم بعد كل هذا الزمن، إلا أن السؤال الذي ملأ جوانحي حينها هو: كيف سنتعامل مع إرث الظلم لنقيم مكانه عدلًا؟ أكاد أحس أن هذا السؤال هو ما يقلقكم اليوم. لقد خرجتم لتوكم من سجنكم الكبير، وهو سؤال، قد تحدد الإجابة عليه طبيعة الاتجاه الذي ستنتهي إليه ثورتكم”.
ويمضي مانديلا في رسالته مؤكدًا على ضرورة عدم الانصياع للنزعة الانتقامية ضد كل من ارتبط بالنظام السابق، لأن أتباع النظام السابق في النهاية مواطنون ينتمون لهذا البلد، وأكبر هدية للبلاد هي مسامحتهم واحتواءهم. “أعلم أنكم منزعجون لرؤية ذات الوجوه التي كانت تنافق النظام في السابق تتحدث اليوم ممجدة الثورة. الأسلم ألا تواجهوهم بالتبكيت إذا مجدوا الثورة، بل شجعوهم على ذلك حتى تحيدوهم، وثقوا أن المجتمع في النهاية لن ينتخب إلا من ساهم في ميلاد حريته.”
وختم مانديلا رسالته بأن هذه الطريقة ستبعث برسالة طمأنة للمجتمع المتلف حول الديكتاتوريات الأخرى، ألا خوف على مستقبلهم في ظل الثورة والديمقراطية، ما قد يجعل الكثير من المنتفعين يميلون إلى التغيير، كما قد يحجم خوف وهلع الديكتاتوريات القائمة من طبيعة وحجم ما ينتظرها.
في البداية أثار كلام مانديلا حفيظتي…!.
في المقال التالي:
القراءة الثانية لرسالة مانديلا، ونظرة على تجربة جنوب أفريقيا في إغلاق صفحة الماضي، ثم سببان لضرورة البدء في إجراءات العدالة الانتقالية فورا، الأول هو إعادة بناء مؤسسات الدولة التي أنهكتها عصور الاستبداد، والثاني هو استعادة الثقة في منظومة العدالة، الشرطة والقضاء عبر إحراءات إعادة الهيكلة.