د. عبدالهادي محمد عبدالهادي يكتب: هل تتراجع أهمية قناة السويس؟!
تواصل شركات الشحن العالمية تحويل مسار سفنها بعيدًا عن قناة السويس، بسبب استهداف جماعة “أنصار الله” (الحوثيين) في اليمن للسفن المارة في مضيق باب المندب المدخل الجنوبي لقناة السويس على البحر الأحمر. الأمر الذي يهدد الملاحة في قناة السويس، التي تمثل أحد أهم مصادر الدخل القومي لمصر. فكيفَ غيّرت اليمن قواعد اللعبة؟ وكيف يؤثر ذلك على مستقبل قناة السويس؟
يحدث أحيانًا في لعبة الشطرنج أن يكون لبيدق صغير، يتحرك في المربعات الخلفية، أن يقلب رقعة الشطرنج، وأن يكون له دور حاسم في تحديد نتيجة المباريات.
نعم، يمكن لبيدق أن يقول للملك:” كش ملك”. هذا هو الوضع الآن من منظور الجغرافيا السياسية، حيث أثرت هجمات الحوثيين على حركة الشحن وعلى سلاسل التوريد، ويمكن لهذه التأثيرات أن تمتد لتؤثر على الملاحة في الممرات المائية كقناة السويس وعلى اقتصادات الدول وعلى رأسها مصر.
كانت جماعة أنصار الله اليمنية قد أعلنت بشكل واضح أنه سيتم استهداف أي سفينة تابعة لإسرائيل أو متجهة إلى إسرائيل.
ومنذ منتصف نوفمبر الماضي تشن جماعة أنصار الله هجمات صاروخية وبمسيرات لاستهداف السفن التي تمر عبر مضيق باب المندب. وفي التاسع عشر من نوفمبر الماضي، قام الحوثيون باعتراض سفينة شحن تجارية تابعة لشركة إسرائيلية في البحر الأحمر.
ومع أن إسرائيل وأنصارها من الدول الغربية انزعجوا من هذا الاستهداف، إلا أن سفن باقي دول العالم، مثل السفن الروسية والصينية والإيرانية، تواصل المرور بحرية عبر المضيق.
الهدف المعلن لعمليات المقاومة اليمنية هو الاقتصاد الإسرائيلي الذي يعاني بالفعل، وقد يدخل في أزمة أعمق إذا انقطعت سلسلة التوريد عبر البحر الأحمر. لكن الولايات المتحدة الأمريكية تشعر بالإنزعاج الشديد من هذا التحدي الذي يواجه “نظامها القائم على القواعد”، وتشعر بالغضب إزاء تعطيل حركة السفن التي تنقل السلع والطاقة إلى إسرائيل، وما يزيد من قلق الولايات المتحدة وأنصارها، هو أن تتحول الخطوة اليمنية الصغيرة إلى تحول نوعي وأن تفرض واقعًا جديدًا ربما لا يمكن تغييره.
الرئيس الروسي فلاديمير بوتن يبعث حاليًا، وبشكل رسمي، برسالة لا لبس فيها، مفادها: إنسوا قناة السويس. وأن الطريق الذي يتوجب على السفن أن تسلكه هو طريق القطب الشمالي، والذي يُطلق عليه، في إطار الشراكة الاستراتيجية بين روسيا والصين، طريق الحرير في القطب الشمالي. ويقترح الروس على الأوربيين الذين أخذتهم الصدمة من هجمات الحوثيين ثلاثة خيارات، هي الابحار حول رأس الرجاء الصالح، أو استخدام طريق روسيا البحري الشمالي الأسرع والأرخض، أو استخدام السكك الحديدية الروسية.
وأكدت شركة “روساتوم” الروسية، التي تشرف على طريق بحر الشمال، أن السفن حاليا يمكنها الإبحار خلال فصلي الصيف والخريف، وقريبًا سوف تصبح الملاحة ممكنة على مدار العام قريبًا بمساعدة أسطول من كاسحات الجليد النووية. هذه هي النتائج المباشرة للتحرك اليمني. فهل نشهد انضمام اليمن إلى دول مجموعة البريكس بلس قريبًا؟ وهل تشارك المقاومة اليمنية في قمة البريكس بلس في “كازان” برئاسة روسيا في أواخر هذا العام؟
هذا هو السياق العام الذي تعاد فيه رسم خريطة الجغرافيا السياسية الجديدة في غرب آسيا.
لقد تم إنشاء “قوة المهام المشتركة-153” التي تقودها الولايات المتحدة وتضم 38 دولة لتأمين الملاحة في البحر الأحمر، لكن الهدف الحقيقي غير المعلن هو تحذير إيران وتخويف الحوثيين. ويبدو أن هذا التحالف البحري فشل قبل أن يبدأ، لأن إيران، مثل الحوثيين، لا تشعر بالخوف، لأن “سايكس-بيكو” قد ماتت، كما قال أليستر كروك المحلل المتخصص في شؤون غرب آسيا.
هذا التحول النوعي الكبير الذي فرضه الحوثيون، يعني أن القوى الفاعلة في غرب آسيا، وليس الولايات المتحدة، هي التي ستشكل النظام الإقليمي الجديد من الآن فصاعدًا. كانت الولايات المتحدة تعتمد في الماضي على قواتها البحرية وحاملات الطائرات في فرض سيطرتها على بحار العالم ومضايقه، وفي القلب منها، البحر الأحمر ومضيق باب المندب. أما الآن، فقد أصبح الجميع في غرب آسيا يدركون أن صواريخ ومسيرات الحوثيين قادرة على ضرب حقول النفط السعودية والإماراتية وإخراجها من الخدمة، كما حدث من قبل في عام 2019.
ومع أن الأمريكييين يمتلكون غواصات متقدمة للغاية، إلا أنهم لا يستطيعون ضمان استمرار الملاحة مفتوحة وآمنة في باب المندب أمام المشغلين الأوربيين. لذلك، أعلنت الولايات المتحدة عن تشكيل تحالف بحري جديد، تحت اسم حارس الازدهار، لحماية الملاحة في البحر الأحمر. وأعلنت تسع دول عن انضمامها إلى التحالف الجديد، هي النرويج وكندا وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا وإسبانيا وهولندا وسيشل، لكن هذا التحالف، لا يضم سوى دولة عربية واحدة هي البحرين-حيث يوجد مقر الأسطول الأمريكي الخامس.
وليس من المستغرب أن الرياض وأبوظبي لم تعلنا انضمامهما إلى القوة البحرية الجديدة، ويمكن تفسير ذلك في ضوء التقارب السعودي الإيراني في الفترة الأخيرة وفي ضوء المخاوف السعودية الإماراتية من صواريخ ومسيرات الحوثيين.
ومع أن مصر قد تكون أكبر الخاسرين من تهديد الملاحة في المضيق الذي يمثل البوابة الجنوبية لقناة السويس، يبدو من الغريب أنها أيضًا لم تعلن انضمامها إلى التحالف، رغم انضمامها إلى قوة المهام المشتركة-153، وقيادتها لعملياتها في العام الماضي.
فيما يتعلق بالطاقة، لا تحتاج موسكو وطهران- حتى الآن- إلى التفكير في استخدام الخيار النووي، أو قطع إمدادات النفط، التي تمثل حوالي 25 في المائة أو أكثر من إمدادات النفط العالمية. لكن إذا حدث هذا، يقول أحد المحللين، فمن المتوقع أن يؤدي ذلك إلى انهيار النظام المالي الدولي بشكل لا رجعة فيه.
كانت هناك تحذيرات لهؤلاء الذين يدعمون إسرائيل في حرب الإبادة الجماعية للفلسطينيين في غزة. ذكر ذلك بوضوح محمد شياع السوداني رئيس الوزراء العراقي. وقال المسئول الحوثي “محمد البخيتي” على منصة x- تويتر سابقًا إنه “حتى لو نجحت أمريكا في حشد العالم كله فإن عملياتنا العسكرية لن تتوقف إلا بتوقف جرائم الإبادة الجماعية في غزة والسماح بدخول الغذاء والدواء والوقود لسكانها المحاصرين مهما كلفنا ذلك من تضحيات”.
ودعت إيران إلى فرض حظر شامل للنفط والغاز على الدول التي تدعم إسرائيل.
ويظل احتمال فرض حصار بحري كامل على إسرائيل احتمالًا ممكنًا. وقال “حسين سلامي” قائد الحرس الثوري الإيراني أن إسرائيل قد “تواجه قريبًا إغلاق البحر الابيض المتوسط ومضيق جبل طارق والممرات المائية الأخرى”.
وإذا وضعنا في الاعتبار أننا حتى الآن نتحدث عن باب المندب والبحر الأحمر ولم نتطرق بعد إلى حصار أو إغلاق محتمل لمضيق هرمز، فإن توسع نطاق الحرب والحصار الشامل لمضيقي هرمز وباب المندب معًا، قد يؤدي إلى ارتفاع هائل في سعر النفط، إلى ما لا يقل عن 500 دولار للبرميل، الأمر الذي يمكن أن يؤدي إلى انهيار سوق المشتقات المالية، وانهيار النظام المصرفي الدولي بكامله.
ماو تسي تونج، الزعيم الصيني الراحل، كان واضحًا وصريحًا عندما قال إن الولايات المتحدة الأمريكية نمر من ورق. هذا النمر الورقي حاليًا في مأزق. أما الرئيس الروسي فلاديمير بوتن فهو أكثر حذرًا وبرودًا وحسابًا، ولا يمكن توقع ردات فعله غير المتماثلة. عندما أعلن الصحفي الاستقصائي سيمور هيرش قبل فترة كيف فجّر فريق بايدن خط أنابيب “نوردستريم”، الذي يحمل الغاز إلى أوربا، لم يكن هناك أي رد فعل روسي على هذا العمل الإرهابي الموجّه ضد شركة غاز بروم وضد روسيا. وهذا يقودنا إلى فرضية يمكن من خلالها تفسير ما قامت به حركة أنصار الله في باب المندب.
الآن، اليمن، وبحصار بسيط ومحدود لباب المندب، يقلب حركة الشحن العالمي رأساً على عقب، فأيهما أكثر عرضة للخطر الآن، شبكات إمدادت الطاقة العالمية؟ أم دول البحر المتوسط التي تستمد قوتها من التفوق البحري؟
تعتمد روسيا بالأساس على شبكة من خطوط الأنابيب مثل نورد ستريم وسيبيريا 1 و 2. في حين اعتمدت الولايات المتحدة لزمن طويل على قوتها البحرية المهيمنة باعتبارها وريثة بريطانيا في حكم البحار. كان هذا في الماضي، لكن ليس بعد الآن. ومن المثير للدهشة، أن تحقيق ذلك لم يتطلب اللجوء إلى الخيار النووي، أو حصار مضيق هرمز الذي تتلاعب به الولايات المتحدة.
لكن من المثير للاهتمام، أن هذه الخطوة اليمنية ربما يكون قد تم التنسيق لها على أعلى المستويات بين ثلاث دول أعضاء في مجموعة البريكس- روسيا والصين وإيران، بالإضافة إلى دولتين أخريين من مجموعة البريكس بلس، دول النفط في المنطقة: المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة. “إذا فعلت ذلك، فنحن ندعمك”. وهذا التنسيق المفترض، بالتأكيد، لا ينتقص من موقف اليمنيين، الذين يعتبرون دفاعهم على فلسطين واجبًا مقدسًا.
أصبحت جماعة أنصار الله في اليمن الآن لاعبًا رئيسيًا في دراما معقدة على مستوى العالم. صحيح أن الهجمات على السفن في باب المندب يهدد الملاحة في البحر الأحمر، لكن التأثير الأكبر والأهم على الملاحة في قناة السويس يأتي من الممرات المائية الجديدة التي طورتها روسيا في القطب الشمالي.
ممرالنقل الدولي بين الشمال والجنوب (INSTC)، ويربط بين الممرات المائية في القطب الشمالي وخطوط السكك الحديدية في روسيا عبر إيران إلى الهند. والممر الشمالي الغربي، الذي يربط بين المحيط الهادي وأمريكا الشمالية. والممر الشمالي الشرقي، وهو طريق بحري يبلغ طوله 3500 ميل بين آسيا وأوربا.
هذه الممرات الجديدة تعد بتحول نوعي ملحوظ في ممرات النقل البحري. كانت قناة السويس هي الممر البحري الرئيسي في العصر الأوربي، وكانت قناة بنما هي الممر الرئيسي والرمز للسيادة الأمريكية خلال القرن الماضي. ومن المتوقع أن تشكل الممرات التجارية الجديدة عبر آسيا وأوربا شكل العلاقات التجارية في العصر الجديد.
ونظرًا للاستثمارات الروسية الهائلة في استخراج نفط القطب الشمالي هناك فرصة متزايدة لأن يكون البرميل الأخير من النفط روسيًا وليس سعوديًا، وأن يتم شحنه إلى السوق الآسيوية عبر ممر القطب الشمالي الشرقي، وليس عبر مضيق هرمز أو عبر قناة السويس. وليس من المستبعد أن يؤثر الاستخدام التجاري لهذه الممرات الجديدة سلبيًا على قناة السويس، مع كل ما يمكن أن يترتب على ذلك من نتائج…والله أعلم.