كارم يحيى يكتب: بناتنا وأبناؤنا طلاب فلسطين حقهم علينا الإعفاء من المصاريف
لم يكن الأمر يحتاج إلى انتظار الاستماع إلى نداءات من طلاب جامعيين فلسطينين على مواقع التواصل الاجتماعي يطلبون الإعفاء والاستثناء من مصاريف الدراسة في مصر . وهذا لأن المطلب متواضع جدا إزاء معاناتهم وأسرهم وعائليهم، وذلك بعدما تقطع بالعديد منهم سبل تلقى الأموال والمصروفات من ذويهم في فلسطين المحتلة، وبما في ذلك قطاع غزة.
وببساطة يمكن اعتبار الإعفاء من المصروفات الدراسية ومساعدة هؤلاء الطلاب على استكمال التعليم العالي و نفقات الإقامة في مصر بمثابة أحد أشكال الدعم المتاح والممكن وفورا دون تعقيدات وحسابات وعراقيل سياسية محلية داخلية أو إقليمية أو دولية. وبالطبع فإن أي دعم للطلاب هو بمثابة دعم لأسرهم داخل فلسطين المحتلة، إذ يرفع عن هذه الأسر أعباء لايطيقونها في ظروفهم الصعبة وغير الإنسانية.
ولنفترض أن بينهم من يملك المال، لكن بالقطع أصبحت تعرقل عن تحويلها إلى مصر ظروف حرب الإبادة والتهجير القسري في القطاع كله ومناطق عدة بالضفة الغربية، ومع إغلاق البنوك والمصارف وتدميرها مع ماكينات صرف النقود. كما أن هناك الكثيرين الذين تأثرت أرزاقهم أو انقطعت تماما، ممن فقدوا أعمالهم أو حيل بينهم وبين الانتقال إليها، أو توقف تلقى راتبه من السلطة الفلسطينية. وفوق هذا وذاك، قلوبنا مع من استشهد عائلهم أو أصيب.
وإذا كان لنا أن نشكر من بادر للآن برفع عبء مصاريف الدراسة الجامعية عن نفر محدود من طلاب فلسطين في مصر ( كما هو حال إعلان مؤسسة “صناع الخير” في 18 أكتوبر الماضي تكفلها بمصاريف الطلاب الفلسطينيين في الجامعات التكنولوجية بمصر)، فإننا نأمل اتخاذ مثل هذا الإجراء الواجب وبشكل شامل من جانب السلطات المعنية، وبخاصة وزارة التعليم العالي، وبعدما دخلت حرب الإبادة ضد الشعب الفلسطيني و”التهجير القسري” ضد الشعب الفلسطيني يومها الأربعين.
فهؤلاء الطلبة الفلسطينيون هم أبناؤنا الأولى بالرعاية والاهتمام، والاخذ ظروفهم القهرية القاسية في الاعتبار. وثمة مسئولية تاريخية خاصة من الدولة المصرية إزاء فلسطين وشعبها، وبخاصة قطاع غزة وأهله ولاجئيه، وعلى نحو لايمكن إدارة الظهر لها. وهذا ولو كانت القاهرة الرسمية مكبلة باتفاقات وحسابات، يعلم الجميع أنها غير شعبية، ولم يجر السماح للمصريين في عهد الرئيس “السادات” ولليوم إبداء رأيهم فيها من خلال استفتاء رأي حر.
في تصريح للدكتور “أيمن عاشور” وزير التعليم العالي نهاية مايو الماضي 2023 خلال لقائه بنظيره الفلسطيني السيد”محمد أبو مويس” قدر عدد الطلاب الفلسطينيين بالجامعات المصرية بنحو 6 آلاف طالب، ومن غير الواضح هل المقصود فقط الجامعات الحكومية التي ارتفعت بدورها مصاريفها على نحو صارخ ومكلف،وإن كنت أرجح أن الرقم يخص هذه الجامعات وحدها. وعلى أي حال، فقد تعهد الدكتور “عاشور” وقتها مشكورا بتذليل ما يواجههم من صعوبات.
ولاشك أن المصروفات الجامعية أصبحت بالأصل عبء ثقيلا عليهم، مثلما هو حال أشقائهم من غالبية المصريين، في ظل ماسجلته من ارتفاع جنوني لايتسق مع اتاحة الفرصة أمام الجميع للتعليم العالي، و سواء في سنوات الدارسة الجامعية من أجل شهادة البكالريوس والليسانس، أو بالنسبة لدارسي الماجستير والدكتوراة، والتي أصبحت بدورها خارج متناول قدرات أغلبية الطلاب وأسرهم.
وعندما نراجع “شروط قبول الطلاب الفلسطينيين في الجامعات الحكومية المصرية” سنفاجأ ونحزن ونأسف لما تلقيه من أعباء مالية عليهم وعلى ذويهم وعائليهم من هذا الشعب الصامد. وعلى سبيل المثال، بلغت رسوم السنة الدراسية من أجل البكالريوس بكليات الطب وطب الأسنان والهندسة 5000 دولار أمريكي و بالنسبة للدراسات العليا 6000 دولار، وتبلغ 4000 دولار لكليات التمريض والعلوم و5000 لدراساتها العليا، و 3000 للحقوق و التربية والتجارة والإعلام و4500 لدرساتها العليا.. وهكذا. وكنا نأمل أن يتساوى أبناؤنا وبناتنا الفلسطينيون مع أبنائنا المصريين في رسوم الدراسة، وإلا يعاملوا كأجانب. وحتى لو افترضنا أن هناك تخفيضات لهم ، وبنسبة الخمسين في المائة، فيظل من غير اللائق ولا المنطقي تكبدهم وأسرهم هذه المبالغ الباهظة من أجل طلب العلم والدراسة في مصر.
وفي كل الأحوال، علينا أن نتذكر أن الحكومة المصرية خلال توليها إدارة قطاع غزة بعد حرب 1948 والنكبة وحتى ضياعها من الدولة المصرية واحتلال إسرائيل لها مع سيناء في يونيو 1967 كانت تعفي طلاب القطاع من المصروفات . وعلى سبيل المثال كانت أعداد أبناء غزة في الجامعات المصرية المعفيين من رسوم التعليم في العام الدراسي 65/ 1966 قد بلغت 9642 طالبة وطالبا، وفق ماورد في كتاب “قطاع غزة” الصادر من وزراة الإرشاد القومي (وزارة الإعلام لاحقا) ومن هيئة الاستعلامات في هذا العام السابق على هزيمة 67 مباشرة ، وفي ص 22 و33. وهذه المعلومة نقلا عن كتاب المؤرخ والكاتب الأستاذ “عبد القادر ياسين” الصادر من بيروت منذ نحو العام تحت عنوان “الحركة الوطنية الفلسطينية في القرن العشرين”، وفي ص 302. وبالطبع فإن أعداد الطالبات والطلاب الفلسطينيين المطلوب إعفاؤهم من المصروفات الجامعية هم اليوم أقل من هذا.
كما لايفوت المصري، الذي يشعر بمعاناة الشعب الفلسطيني وبأنه يدفع عنا جميعا بالدم والجهد والمقاومة والمال وبالبيوت وبكل مقومات الحياة والمعيشية أعباء ومخاطر الإرهاب الصهيوني وعدوانيته، أن يأمل أيضا في تعاون الجهات المختصة ، وبخاصة وزارة التعليم العالي في القاهرة ، مع الطلاب الفلسطينيين غير القادرين على تحمل نفقات إيجار أماكن الإقامة. وربما تمكنت هذه الجهات من أن تفسح لهم حصة استثنائية طارئة في المدن الجامعية، أو تقدم لهم دعما ماليا لهذا الغرض. وهذه لفتة أخرى سيكون لها أثر طيب في نفوس أبنائنا الفلسطينيين هنا، وعائلاتهم هناك، وفي هذه الظروف الصعبة.
ونظرا للتوسع في التعليم الجامعي الخاص وبمصروفات أكثر كلفة وبأعباء أثقل على الآباء فيكتوون بنارها، فهنا لابد للمجتمع نفسه ومنظماته ولجانه وهيئاته المدنية الأهلية من دور. وحسنا نفعل لو تعاونت أكثر من نقابة وجمعية ومع لجان التضامن مع الشعب الفلسطيني تحت لافتة ( المجتمع الأهلى) في المبادرة لإنشاء صندوق يتكفل بتغطية مصروفات من يتعثر كل من بناتنا وأبنائنا الفلسطينيين في دفع رسوم الدراسة ومصروفات الإقامة بعيدا عن أسرهم.
وأظن أن هذا من بين أضعف الإيمان تجاه التضحيات الجسام التي يتكبدها الشعب الفلسطيني، وبمثابة بادرة تضامن مع معاناته، ولتقدير نضاله من أجل الحرية والدفاع، وعنا جميعا ضد مخاطر النزعة والممارسات العدوانية الإجرامية للصهيونية الممتدة عبر تاريخها مع المنطقة العربية.
وختاما.. عندما نرفع أصواتنا بهذه المطالب الواجبة علينا في مصر، أتذكر على نحو شخصي صديقي وزميلي في الدراسة بكلية الإعلام جامعة القاهرة خلال النصف الثاني من عقد السبعينيات الإذاعي الفلسطيني المخضرم الأستاذ “محمد المشوخي” ابن قطاع غزة وبناته وابنائه من زوجته المصرية ( زميلتنا أيضا بالكلية). أتذكره وكل أسرته، وأتمنى لهم السلام، وأقول :
ـ رفع أعباء رسوم الدراسة والإقامة عن بناتنا وابنائنا الفلسطينيين دين علينا وفي أعناقنا، وليس جميلا او مجاملة.