مجلة التحالف| التعليم في أزمنة الاستبداد.. عن التدجين السياسي في الإطار المدرسي
بقلم/ عبدالحفيظ طايل
يرى بيير بيردو أن المدرسة، أي مدرسة في أي دولة، تمارس عنفا ثقافيا رمزيا يهدف إلى إعادة إنتاج الأوضاع الاقتصادية الاجتماعية السياسية القائمة ويخدم الطبقات المهيمنة وذلك عبر أنظمة تعليمية ناجحة تتكامل مع أنظمة الأسر التي تسعى للتوافق مع الثقافة السائدة لينجح أبناء هذه الأسر في المجتمع وليحققوا أنفسهم مستقبلا وفق مقتضيات النجاح التي تفرضها الثقافة السائدة.
وإذا كان ذلك الأمر صحيحا في المجتمعات الليبرالية فما هو الحال مع نظم الاستبداد؟
أرى أن المستبد يميل بطبيعته إلى الاستثمار في الحجر لعدة أسباب تصب في صالح تصوراته عن العالم وعن نفسه منها مثلا أن المباني والمنشآت الحجرية تخلد اسمه أما البشر المتعلمون فيرفضون استبداده، لكنه في ذات اللحظة يحتاج لوجودهم في المدارس لعدة أسباب فمن ناحية ستقوم المدرسة بتدجينهم سياسيًا وتقوم بدورها في الحفاظ على الأوضاع القائمة والعمل على إعادة إنتاجها، ومن ناحية اخرى ستقدم تعليما منزوع التعليم للطبقات الفقيرة يحافظ على تفوق الطبقات الغنية المرتبطة بالسلطة.
بدأ التعليم في مصر متوافقا مع رغبات محمد علي باشا الكبير في بناء دولة حديثة ومتوافقا مع تصوراته عن دوره في مصر وفي العالم وفي التاريخ، وذلك من أجل بناء دولة توسعية تنافس الأوروبيين والأتراك. وكان هذا الأمر صالحا في عهد محمد علي، أي تبعية التعليم لتصورات رأس الحكم عن نفسه وعن العالم وعن دوره في التاريخ وعن الشعب الذي يحكمه. لكن ومنذ صدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (1948) والعهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية (1966) والإقرار بحق كل شخص في التعليم أصبح من المفترض أن تختلف الرؤية للتعليم بحيث يكون التعليم حق للفرد بما هو فرد واحتياج تنموي للدولة بمفهومها الواسع ولكي تلبي الحكومة الاحتياج التنموي للدولة (وهو الأمر الذي يمنحها مشروعيتها السياسية) لابد أن تعترف وتنفذ وتحمي حق الفرد في التعليم دون تمييز من أي نوع.
من ناحية أخرى، تقول حكمة قديمة إن شعبًا جاهلًا أسهل في قيادته من شعب متعلم، لعل هذه الحكمة هي ما دفعت الحكومات المتعاقبة لإهمال التعليم في مصر فبعد ثورة يوليو 52 حدثت نهضة كبيرة في التعليم بشكل كمي مكنت أبناء الطبقات الشعبية من الالتحاق بالجامعات وأثرت تأثيرًا كبيرًا في النهوض بمشروعات التنمية لكنها كانت نهضة على طريقة تصورات محمد علي عن نفسه أي تبعية النظام التعليمي لتصورات رأس السلطة عن ذاته وعن دوره في التاريخ، ولكي ندلل على ذلك سوف نضرب مثلا بالأثر على حركة المعلمين.
فلكي تواكب الحكومة الأعداد المتزايدة من الطلاب تم فتح مسارات متعددة أمام الاشتغال بمهنة التدريس مثل دور المعلمين والمعلمات وغيرها من المسارات لكن بلا أي حريات نقابية حيث تم وضع قانون نقابة المهن التعليمية رقم 79 لسنة 1969 ليشل أي حراك نقابي للمعلمين فنص على أن أهداف النقابة هي حشد وتعبئة جهود المعلمين لصالح المشروعات التي تقيمها الدولة في ضوء سياسة الاتحاد الاشتراكي العربي ووضع شروطا لأزمة للترشح لأي منصب نقابي منها العضوية العاملة بالاتحاد الاشتراكي العربي والتمتع بجنسية الجمهورية العربية المتحدة وهي الأمور التي مازالت موجودة بالقانون حتى اللحظة. ويكفي أن نعرف أن الباب المعنون بحقوق المعلم يحتوي على مادتين فقط وأن الباب المعنون بواجبات المعلم فيحتوي على ثمانية مواد أما اللائحة التاديبية في 16 مادة، كما يكفي أن نعرف أن من يقوم بتعديل اللائحة الداخلية للنقابة وزير التربية والتعليم.
لم يشعر المصريون أن منجزات الحقبة الناصرية هي حقوقهم خاصة في مجال التعليم بل تم التكريس لتصور أن الإصلاحات الناصرية هي منحة رأس النظام وتنظيمه السياسي، فنظام الستينات التعليمي خرّج نخبا تهتم بكل شيء في السياسة إلا حقوق المصريين فكان من السهل الانقضاض على هذه الحقوق خلال حقبة السبعينات خاصة وأن الإرهاصات في قطاع التعليم بدأت عقب هزيمة يونية 1967 حينما تم تهجير سكان مدن القنال وتكدست الفصول الدراسية وتم توجيه الميزانيات للمجهود الحربي فسمح للمدرسين بإعطاء المجموعات المدرسية وبدأت الدروس الخصوصية على استحياء من أجل زيادة دخول المدرسين.
وفي السبعينات وعقب حدوث الطفرة النفطية الهائلة بعد حرب أكتوبر 1973 وإعارة الأعداد الهائلة من المعلمين المصريين لدول الخليج، وكذلك بعد السماح لتيار الإسلام السياسي بالعودة للمجال العام انفجرت ظواهر التعليم الديني والخاص والاجنبي والدروس الخصوصية وبدأت رحلة سلعنة التعليم في مصر. ظل التعليم تابعا لتصور شخص راس النظام السياسي عن نفسه وعن العالم وعن دوره فيه فرئيس الدولة الجديد ظل محتفظا بكل صلاحيات سلفه في تسيير امور البلاد لكن مع توجهات اقتصادية اجتماعية سياسية مختلفة متخليا عن الدور الاجتماعي للدولة ومحاولا تصنيع طبقات جديدة وحياة سياسية جديدة وتم إهمال التعليم من بين الأشياء التي تم إهمالها.
وبالطبع ظلت نقابة المهن التعليمية على عهدها موالية لرأس النظام السياسي محكومة بنفس القانون وشكلت ذراعا لوزراة التربية والتعليم في كتم صوت المعلمين .
وانتشرت ظواهر عمل المدارس لفترتين وثلاث فترات وامتد الامر وصولا إلى الثمانينات التي شهدت بدايتها إصدار قانون التعليم رقم 139 لسنة 1981 والذي كرس التمييز ضد الطلاب غير المسلمين في مادته السادسة وأكد على انفراد السلطة التنفيذية بوضع السياسات المرتبطة بالتعليم وبتنفيذها وبالرقابة على التنفيذ.
وشهد التعليم مزيدا من التدهور ومن الأسلمة حيث بدات المنافسة بين الحزب الوطني الحاكم وبين التيارات الدينية المتشددة حول أيهما اكثر تدينا ومحافظة، خاصة مع تزايد دفع التيارات الدينية وبالذات جماعة الإخوان المسلمين بابنائهم إلى كليات التربية ومع عودة المعارين من دول الخليج إلى وظائف عليا في وزراة التربية والتعليم فبدا فرض مناخ ديني على المدارس وفي المناهج خاصة اللغة العربية واستمر العجز في عدد المدارس والمعلمين واستمر التدهور في الاحوال المالية للمعلمين والانتشار في انظمة التعليم الموازي وإلحاق أبناء المصريين بالمدارس المخصصة للأجانب ووصل الامر إلى إلغاء الصف السادس الابتدائي لمواجهة العجز في أعداد المدارس وتقليل حجم الكتاب المدرسي بحجة مواجهة الحشو في المناهج لتقليل تكلفة الطباعة.
واستمر بالطبع حال نقابة المهن التعليمية كما هو، التبعية للحزب الوطني الديمقراطي ولرأس الدولة ولسيطرة الجهاز الامني التامة.
وبالرغم من العجز في أعداد المعلمين فلكي تواجه حكومة الحزب الوطني تغلغل جماعة الإخوان المسلمين في المدارس وفي مؤتمر حاشد لمناقشة قضايا التعليم أعلن مبارك أن التعليم قضية أمن قومي مصري وعلى أثر ذلك تم تقرير أن كل خريج جديد لابد أن يحصل على موافقة أمنية بأنه نظيف سياسيا لكي يلتحق بوظائف التدريس وتم تنشيط القطاع المركزي للأمن للقيام بدوره السياسي في كتابة التقارير الأمنية ضد كل مدرس معارض سياسيا من كل التيارات السياسية، ثم ولكي ينفرد الحزب الوطني وحكومته بفرض تصورات راس الدولة على التعليم وليكون هو المنافس الاوحد لتيارات الإسلام السياسي مرواحا مكانه بين إدعاء التنوير وبين دعاوى المحافظة تم ملء المناهج بالمناخات الإسلاموية تحت رعاية وزير التعليم حسين كامل بهاء الدين حتى أنه فسر زلزال 1992 بانه ابتلاء من الله لمصر لأن الله يحبها وليس غضبا من الله على مصر كما يردد الإرهابيون !!
شهدت التسعينات كذلك طفرة في بناء المدارس عقب زلزال 92 بالاستفادة بأموال المنح التي تدفقت على مصر لكن ظل التوسع الكمي يشكل دعاية سياسية ولم يشكل نهضة تعليمية حقيقية حيث ظهر مايعرف بتضخم الدرجات العلمية اي حصول الطلاب على مايزيد عن 100% في مجموع درجات الثانوية العامة مثلا دون أن يكون هناك مخزون علمي حقيقي يعبر عنه هذا المجموع حيث كانت مصر تتزيل نتائج اختبارات التيمز (اتجاهات دراسة العلوم والرياضيات) على المستوى الدولي.
ولم يتغير الوضع طول حقبة مبارك، ظل التعليم من سيئ للأسوأ رغم حالات الانضباط الشكلي في عهد الوزير حسين كامل بهاء الدين، وشهدت حقبة مبارك تدشين مجموعة قوانين تستحق قراءة منفصلة ومطولة حيث مهدت الطريق أمام تسليع التعليم بشكل كامل فمن إلغاء تكليف خريجي كليات التربية عام 1998 إلى صدور قانون هيئة ضمان جودة التعليم والاعتماد سنة 2006 وهو القانون الذي تعامل مع كل مؤسسات التعليم على أنها مؤسسات ربحية إلى القانون رقم 155 لسنة 2007 المعدل لقانون التعليم بالإضافة والذي حرر علاقات العمل تمام داخل قطاع التعليم، كل هذا مع الحفاظ على جوهر قانون التعليم رقم 139 لسنة 1981 كما هو وعلى قانون نقابة المهن التعليمية كما هو وهما القانونان اللذان يمكنان السلطة التنفيذية من السيطرة التامة على التخطيط والتنفيذ والرقابة على قطاع التعليم .
ولقد حاولت جماعة الإخوان المسلمين الاستفادة من هذه البنية التشريعية في الفقرة الإعلانية التي تولت فيها حكم مصر لكن الوقت لم يسعفها. (جدير بالذكر ان حركة نشطة للمعلمين بدأت مع العام 2007 مع ظهور نقابة المعلمين المستقلة وعقب ثورة يناير ظهرت حركات مستقلة أخرى للمعلمين كان أهمها اتحاد المعلمين المصريين غير ان السنوات الأخيرة شهدت ضعفا شديدا لجميع هذه التنظيمات وهو الأمر الذي يستحق دراسة منفصلة)
والآن :
نرى أن هناك وجهتي نظر تدفعان للاهتمام بالتعليم وجعله اولوية، فإما أن تكون الدولة مهتمة بحقوق الإنسان ككل فتعترف وتنفذ وتحمي كل الحقوق ومنها الحق في التعليم، وفي الحقيقة لا توجد مؤشرات على ان هذا الأمر منطبق على الحالة المصرية.
او أن تكون الدولة راغبة في التنمية والتقدم والمنافسة في عالم قائم على التنافسية الشديدة بين دوله ، لكن يبدو أن هذا الأمر ليس منطبقا أيضا على الحالة المصرية بدليل فجوة الإنفاق بين ما يأمر به الدستور وما تنفقه الحكومة على التعليم والبحث العلمي ، وبدليل العجز الصارخ في اعداد المدارس والمعلمين.
والخلاصة انه إن كان قد صلح قديما في عصر محمد على تسخير التعليم لصالح رؤية رأس الدولة عن نفسه وعن دوره في التاريخ فإن هذا الأمر مدمر الآن لكل فرص التنمية والتقدم ولابد ان يكون هناك مجلس من الخبراء وذوي الاختصاص في التربية وفي التنمية بمفهومها الشامل وفي السياسات والبرامج وفي الحقوق ليضعوا قواعد اساسية لبرامج يمكن ان تشكل ملامح لمستقبل تعليمي مختلف للمصريين.
🛑 “تنويه: ينشر موقع درب الإخباري ملفات ومقالات العدد الخامس من مجلة التحالف”