يحيى قلاش يكتب: جلال عيسى وتيار الاستقلال! 

هذه الصورة الباسمة للراحل العزيز الأستاذ جلال عيسى، وكيل نقابة الصحفيين ورئيس لجنة القيد لعدة دورات. وهذه آخر بطاقة عضوية كنت على موعد لزيارته وتسليمها له، ولكنها الأقدار. 

هذه الصورة من أرشيفي، وعندما تأملتها وجدتها تلخص أشياء كثيرة، فأعدت تذكير نفسي وزملائي، خاصة من غير معاصريه، بها، لا سيما في فترات انتخابات النقابة، التي أعطاها هذا الرجل أجمل سنوات عمره، والتي تختلط فيها الآن الحقائق، ويحاول البعض طمس البديهيات النقابية والتقاليد الراسخة بل ويعتبرون الكذب مشروعاً لصياغة برنامجهم الانتخابي!. 

تلك الابتسامة، التي كانت لا تفارق وجه جلال عيسى، شكّلت مفتاح شخصيته وأكسبته هدوءًا وقدرة على الاستماع للآخرين، وكأنها من أهم أدوات وقدرات النقابي الأولى، التي كانت تجعل الخلاف معه في بعض المواقف والآراء جزءًا من طبيعة التفاعل بين أصحاب مهنة الرأي. 

استدعاء هذه الصورة وذكر الرجل في هذا التوقيت كفيل عندي بمحاولة تصحيح بعض المفاهيم، التي يطلقها البعض الآن دون فهم أو معرفة. فكثير من الزملاء المرشحين انزلقوا إلى الحديث عن تبرؤهم من “التيارات”، أو استعيذوا بالله كلما ذُكرت كلمة “الاستقلال”، وأضافوا إليها معاني سياسية لا نقابية. ولأن الغرض طغى على الحقيقة، فقد تجلّى الهوى والجهل في حديثهم عن “الشلة”، التي يُزعم أنها تستطيع، في غفلة من الجمعية العمومية، اختطاف النقابة! 

حالة النقابي جلال عيسى هي الأرحب والأوضح في تفسير معنى الاستقلال النقابي؛ لأن المقصود هنا هو استقلال الأداء والقرار النقابي. ففي يونيو 1995، وبعد أيام من صدور القانون (93)، الذي أُطلق عليه “قانون حماية الفساد”، شارك عيسى في الاحتفال بعيد الإعلاميين، الذي كان يحضره رئيس الجمهورية، ويُدعى إليه نقيب الصحفيين. ذهب ممثلًا للنقابة بصفته الوكيل الأقدم في المجلس، نظرًا لسفر النقيب إبراهيم نافع إلى الخارج، وألقى كلمة الصحفيين، التي حرص مجلس النقابة على أن تكون مكتوبة ومتفقًا عليها. امتلك الرجل شجاعة الالتزام بها، مطالبًا مبارك بعدم التوقيع على القانون وإعادته للبرلمان، فما كان من مبارك إلا أن رد بعناد وغطرسة: “إحنا مبنبعش ترمس يا جلال، والقانون صدر لينفذ.” 

كانت شجاعة جلال عيسى التزامًا نقابيًا دفع ثمنه من غضب مبارك عليه، فصدر قرار بنقله من رئاسة تحرير مجلة “آخر ساعة” بدار أخبار اليوم، التي قضى فيها كل عمره المهني، إلى رئاسة مؤسسة دار الشعب، ليؤسس جريدة “الرأي”، ويظل بها حتى رحيله، راضيًا بما فعل، وفرحًا بسقوط القانون بعد عام من المقاومة، وانتصار إرادة الصحفيين. 

بهذا المعنى، كنا نرى قيمة كلمة الاستقلال لدى هؤلاء النقابيين، الذين يعلون شأن الدفاع عن كيانهم النقابي مهما كلفهم ذلك، والذين يرفضون الاعتداء على مهنتهم بقوانين جائرة، ولا يذهبون إلى البرلمان في “زفة” لإقرار قانون ينال من مهنتهم وينتقص من حقوقهم وهللوا انه حقق أحلام الصحفيين واهم من إنجاز القانون ٩٦ لسنة ٩٦، والذين اصطفوا مع جمعيتهم العمومية، ولم يخونوها في مسار ذليل طمعًا في المناصب والمكاسب الشخصية، والذين لم يستغلوا مواقعهم النقابية أو يتربحوا من مواقعهم الوظيفية، ولم تطاردهم الجهات الرقابية بسبب ممارسات فساد، بل كانوا عنوانًا لرفض الممارسات الفاسدة داخل مؤسساتهم. 

رحم الله جلال عيسى، ودامت ابتسامته الطيبة وسيرته العطرة. 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *