وداعًا «الشيوعي الأخير».. الموت يُغيب الشاعر والكاتب والمتمرد سعدي يوسف عن 87 عامًا بعد صراع مع المرض
كتب: عبد الرحمن بدر وصحف
الأنَ
استرحتُ، كما أردتُ:
وصيّتي كُتِبَتْ
وكُلْفةُ مَحْرَقي، دُفِعَتْ .
إذاً… فلأقترِحْ نخباً !
لأرفعْ عالياً كأسي الرَوِيّةَ …
إنني أحيا!.
كما أراد الشاعر لروحه وجسده أن يستريح بعد رحلة مليئة بالسفر والتعب والنضال، غيب الموت الشاعر العراقي الكبير سعدي يوسف عن عمر يناهز الـ 87 عاما، في لندن، بعد صراع طويل مع المرض، لكن شعره سيبقى وكلماته ستعيش معنا.
سعدي يوسف من مواليد عام 1934، في بلدة أبي الخصيب بالبصرة في جنوب العراق، أكمل دراسته الثانوية في البصرة، وحصل على إجازة في آداب اللغة العربية وعمل في التدريس والصحافة الثقافية، وتنقّل بين بلدان شتّى، عربية وغربية.
نال جائزة سلطان العويس، والجائزة الايطالية العالمية، وجائزة (كافافي) من الجمعية الهلّينية، وفي 2005 نال جائزة فيرونيا الإيطالية لأفضل مؤلفٍ أجنبيّ. وكان يقيم منذ عام 1999 في بريطانيا.
ويعد سعدي يوسف أحد كبار الشعراء في العالم العربي خلال العقود الخمس الماضية، وأحد أبرز الأصوات الشعرية في عالم الشعر من حيث التجربة الشعرية وغزارة الإنتاج، حيث بلغ عدد دواوينه الشعرية التي نشرها 43 ديواناً، كان أولهم القرصان عام 1952 وآخرهم في البراري حيث البرق عام 2010 مروراً بـ”الأخضر بن يوسف ومشاغله” و”الشيوعيّ الأخير يدخل الجنّة”.
كذلك فقد نشر 10 كتب ضمت تراجم لأشعار كبار الشعراء العالميين، أمثال والت ويتمان ولوركا وكافافي ويانيس ريتسوس.
وترجم نحو 12 رواية لكبار الروائيين الأجانب مثل النيجيري وولي سوينكا والإنكليزي جورج أورويل والياباني كينزابورو أوي.
أيضًا كتب يوسف رواية تحت عنوان “مثلث الدائرة” ومسرحية “عندنا في الأعالي” ومجموعة قصصية قصيرة بعنوان “نافذة في المنزل المغربي” إضافة الى عدد من اليوميات والنصوص السياسية والأدبية مثل “يوميات الأذى” و”يوميات ما بعد الأذى”.
سأكونُ مَنْسِيّاً
كطيرٍ ميِّتٍ في منبِتِ القصبِ،
سأكونُ منسيّاً
كقبرِ أبي بنخلِ « أبي الخصيبِ«،
أكونُ منسيّاً
كأُمّي، وهي ثاويةٌ، بأقصى «سَبْخةِ العرَبِ…«
أقولُ:
الحكمةُ الأبديّةُ ابتدعتْ لنا النسيانَ
حتى نعرفَ الـحُـريّةَ.
النسيانُ
يرحمُنا من الذكرى
ويتركُنا إلى ما نشتهي؛
وذكرت (بي بي سي) في تقرير عن الشاعر أن سعدي يوسف ينتمي إلى موجة الشعراء العراقيين التي برزت في أواسط القرن الماضي، وجاءت مباشرة بعد جيل رواد ما عرف بالشعر الحر أو التفعيلة، الذي أطلق على رواد تحديث القصيدة العربية من أمثال نازك الملائكة وبدر شاكر السياب وبلند الحيدري وعبد الوهاب البياتي.
وقد أطلق البعض على هذا الجيل اسم “الجيل الضائع”، فقد عايش بعضهم جيل الرواد لكن منجزهم الحقيقي جاء في الخمسينيات، وضم هذا الجيل إلى جانب سعدي يوسف، الشعراء محمود البريكان ومظفر النواب وآخرين.
وبرحيله فقدت الساحة الشعرية العربية أحد أبرز الأصوات التي ملأت الأجواء الشعرية تجديداً وصخباً وتمرداً.
الشاعر السوري حسين بن حمزة يقول: “لو نظرنا إلى ما كُتب من شعر عربي منذ نهاية السبعينيات إلى اليوم، لوجدنا أن الكثير من التجارب تدين، بشكل مباشر أو غير مباشر، لقصيدة سعدي يوسف. والأرجح أنّ الصفة المستقبلية التي حملها في طيات مشروعه الشعري أثمرت لاحقاً في تجربته هو، وفي تجارب شعراء آخرين”.
ويضيف: “ولعلنا لا نبالغ كثيراً لو عزونا جزءاً كبيراً من إنتاج محمود درويش الأخير إلى استثمارات شديدة الذكاء والابتكار في تجربة سعدي يوسف! كما أنّنا نجد آثاراً مماثلة ومتنوعة لشعر سعدي في نتاج عدد من أهم شعراء السبعينيات العرب، ويمكن اقتفاء هذه الآثار بسهولة في أعمال أمجد ناصر، زكريا محمد، غسان زقطان، هاشم شفيق، رياض الصالح الحسين وغيرهم”.
عانى يوسف مثل كثير من الكتاب والشعراء العراقيين للسجن بسبب مواقفه السياسية واضطر إلى الهجرة من بلده ليعيش في الغربة.
في أعقاب الإنقلاب الذي قاده حزب البعث في الثامن في فبراير 1963 ألقي القبض على سعدي يوسف، لكن أطلق سراحه أواخر العام.
وذهب إلى طهران ودمشق ثم إلى الجزائر حيث أقام لسنوات قبل أن يعود الى وطنه بعد انقلاب البعث الثاني في يوليو 1968، ولم تطل إقامته هذه المرة، إذ كان الوضع يتدهور وكانت هناك حملة قمع واسعة ضد الشيوعيين وضد كل من يشتبه في معارضتهم للنظام وإن كانوا بعثيين.
وفي غربته الثانية، تنقّل سعدي بين مدن كثيرة مثل بلغراد، نيقوسيا، باريس، بيروت، دمشق، وعدن… ليستقر أخيراً في لندن، ويحصل على الجنسية البريطانية.
وتناقض نصوص سعدي يوسف الشعرية المشبعة بالرمزية والسلسة مثل الأحداث اليومية التي نمر بها وحتى الرتيبة والهادئة، مواقفه السياسية الحادة، التي دخل بسببها في معارك عنيفة وسجالات فكرية وأولها مع رفاق دربه القدماء.
دفع الشاعر ثمناً باهظاً بسبب أفكاره وانتمائه اليساري، وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي، صار يساريا على طريقته الخاصة، وبات يصف نفسه «الشيوعي الأخير» بحسب عنوان آخر دواوينه، وبشكل خاص بعد اختلافه مع حزبه في الموقف من غزو العراق والتحولات السياسية التي أعقبته.
ويبقى شعر سعدي يوسف:
ضـباب
أنتَ تفتحُ عينَيكَ
تُبصِرُ هذا الضّبابَ المؤزَّرَ
يمحو البُحيرةَ …
تلكَ التي كنتَ تَعهَدُها ههنا،
والبيوتَ – الـمَراكبَ
والأشرعةْ …
٭ ٭ ٭
أنتَ تفتحُ عينَيكَ .
أغمِضْهُما
كي ترى كلَّ ما لاتراه العيونْ …
كي تُزِيحَ الضبابَ،
وكي تتْبَعَ الأشرعةْ .
٭ ٭ ٭
غيرَ أنكَ ترفضُ أن تُغمِضَ العينَ …
أنتَ تقولُ :
البصيرةُ ، تأتي ، كما هيَ ، بَعدَ البصرْ …
حسناً !
ما عليكَ سوى أن تكونَ العصا معكَ !
التلُّ يَتْلُعُ أعلى وأعلى من القريةِ،
التلُّ لَوّحَ …
فَلْتَرْتَقِ التلَّ
ولْترتَقِ التلَّ .