محمد العريان يكتب: نوستالجيا الزمن الجميل.. حروب ومجاعات وملوخية أمي
يقولون: زمان كان في خير، والناس كانت جميلة، والأغاني رائعة، والنفوس لا تحمل بغضاً ولا حقداً، زمان كانت الحياة هادئة، والرزق وفير، والألوان زاهية، والأخلاق حميدة، والأمور مستقرة.
فلاش باك:
في كتابه “رجال حول ريا وسكينة” يكشف الكاتب الكبير الراحل صلاح عيسى عن الفقر والبطالة في المجتمع المصري أثناء الحرب العالمية الثانية التي دفعت سيدتين إلى القتل ودفن الضحايا للحصول على كل ما تحمله الضحية من الذهب وحتى الملابس، حتى إن ابنة ريا كشفت عن الجرائم وأماكن الجثث بعد الحصول على نصف فرخة محمرة من وكيل النيابة الذي كان يحقق في القضية.
القصة لا تكشف عن عنف مجرمين قساة القلوب تجردوا من معان الإنسانية فقط، لكن كشفت عن جار لم يهتم بجاره، عن عائلة تركت أفرادها بدون رعاية، عن مواطنين كانوا لا يرون في الإنسان إلا أموالاً فقط.
قبل ذلك بقرون حدثت مجاعة رهيبة في مصر سميت بالشدة المسنتصرية نسبة إلى الخليفة المنتصر بالله، وقال المقريزي المؤرخ المشهور إن منسوب النيل نقص وجف لمدة سبع سنوات ما جعل الناس تأكل الكلاب والقطط، وحتى بعضها بعضاً، والتفاصيل المفزعة ذكرها أيضاً الجبرتي، ولكن الماضي ما زال جميلاً حتى في وجود الحجاج بن يوسف الثقفي الذي لا يقل دموية عن أي ديكتاتور مثل هتلر، رغم أنه كان يعيش في زمن السلف الجميل.
يرددون: الحياة مجنونة وفوضوية وقاسية، الابن يقتل أمه ويسرق إخوته، الغش منتشر في كل ركن، الجار يكره جاره، والنصب والفهلوة سمة غالبة على الجميع، حتى أصبحت الطيبة “عبط”، والأخلاق شذوذ.
الآن: يحكى أن طبيباً يدعى مجدي يعقوب يجري آلاف عمليات “قلب مفتوح” بالمجان للأطفال في محافظة نائية بصعيد مصر، ورغم أنه طبيب مشهور في الخارج والداخل إلا أنه لم يهرول خلف الأموال أو الشهرة والأضواء، وقرر أن ينشئ مركزاً لعلاج المرضى مجاناً في بلده، طبيب انتصر للإنسانية وفقط.
الحياة هي الحياة والبشر هم البشر، لا اختلاف يذكر، قابيل قتل هابيل حينما كانت البشرية 6 أفراد، والآن يقتل الأخ أخاه للأسباب نفسها.
أغلقت الجريدة التي أعمل فيها بقرار من مجلس الإدارة التي يبدو أنها تعرضت لضغوط من النظام بسبب ما كنا نكتبه، اعترضنا على القرار وحاولنا إعادة الصدور بأي ثمن تحدياً وإصراراً على تقديم رسالة للمجتمع ما زلنا نعتبرها الأهم على الإطلاق، رفضت الإدارة محاولات إعادة الصدور، اعتصمنا 3 أشهر، تم تشريدنا وكانت أياما –وقتها- أصعب ما يمكن، عشرات الأسر شردت ولا تجد قوت يومها ومهددة بالطرد في الشارع من مكان يأويها… بعد سنوات نتذكر تلك الأيام ونضحك ونقول: والله كانت أياماً جميلة.
الزمن الجميل.. مقولة خادعة، نحن نقدس الماضي لأنه مر، ونعتبر ما فات هو أجمل ما يكون، نخلص كل الماضي من رتوشه من كونه حياة، الذكريات المؤلمة التي لم تسفر عن فقدان عزيز، تتحول إلى ذكرى جميلة، سبحان الله.
الزمن الجميل مقولة نسبية لكل جيل، فما هو الآن بالنسبة لك ضغوط وسرعة وقلة بركة -غير جميل- هو زمن جميل لأولادك فيه عكس كل ذلك حينما يكبرون.
في الماضي البعيد كان البشر يموتون بالحروب والطاعون ومن الجهل أيضاً، وفي الماضي القريب قتل عشرات الملايين في الحروب، والآن يموت الملايين نتيجة الحروب والأمراض والجهل أيضاً.
زمان كان الملك الجديد أو الحاكم يترك الفوضى تأكل مدينته ليذكر الناس بأهمية الحكام، والآن الحكام يقولون إما نحن أو الفوضى، قديماً كانت هناك تنظيمات مسلحة ومتمردون وأخبار دم، والآن أيضاً لم تختلف التفاصيل كثيراً.
زمان كان الناس يثورون على الظلم والجهل والفقر والآن أيضاً يثور البشر على عدم العدالة والجوع والاستغلال.
زمان كان طعام أمي وجدتي له نكهة لأنها المرة الأولى لي وليس بالضرورة خيراً وبركة في الطعام، كانت رائحة ملوخية الجيران تداهمني وأنا عائد من المدرسة لأن حاسة الشم تختبر الروائح، أما الآن فقد اعتدت عليها أو حتى تغيرت، ولكن لها رائحة مميزة لمن هو أصغر.
كاتبي المفضل كان كذلك لأنني كنت أتعرف على تركيبات اللغة وهندسة المعاني وأكتشف ما بين السطور.
زمان كان جميلاً في عيوننا التي تتفتح كبراعم لتكتشف معنى الحياة التي ستظل كما هي… حياة.