كمال مغيث يكتب: البابا والبابوية في مصر.. رحلة المجد والعذاب
لا تغرنك حفلات عيد الميلاد المجيد وعيد القيامة، التى يرأس صلواتها وقداساتها البابا تواضروس الثانى “118” وتنقلها قنوات التليفزيون العديدة ويحضرها كبار المسؤلين، وتحفها مظاهر الأبهة والفخامة، ولاتتصور أن نحو ألفين سنة من تاريخ البابا والبابوية فى مصر قد سارت رخاء وبأمن وسلام كما نشاهدها هذه الأيام.
فعبر هذا التاريخ الطويل ستجد من هؤلاء البابوات من تم سحله وذبحه والتمثيل بجثمانه ومنهم من أغرق فى البحر، ومنهم من ألقى للأسود الجائعة لتلتهمه، ومن نفى خارج البلاد ليموت فقيرا غريبا، ومنهم من أبعد عن الاسكندرية والكرسى البابوى ليعيش فقيرا معدما بين الناس أو فى كنائس فقيرة فى الريف، ومنهم من خشى من تلقاء نفسه من البقاء فى البطريركية فاختفى بين الناس او فى الاديرة أو فى الصحراء سنين طويلة، ومنهم من عانى ويلات السجن والتعذيب، ومن راح يجوب البلاد ليدبر الغرامات الباهظة التى فرضها عليهم الحكام، ولم يكن غريبا أن يختار الشعب بطريركا، فتختار الدولة الرومانية صاحبة السيادة على مصر بطريركا آخر، فيحتار الشعب القبطى بين بطريرك الاستعمار.. وبطريرك الشعب، ولم يكن من النادر أن يخلو الكرسى البابوى لسنوات طوال وصلت زمن الأيوبيين لعشرين سنة. كما سأحاول توضيحه فى هذا المقال.
وقد بدأ المقر البابوى بكنيسة فقيرة بناها البابا الثانى إنيانوس “حنانيا” على شاطئ البحر بمنطقة الرمل بالأسكندرية، لتكون مركزا للتبشير بالدين الجديد، الذى يعد مرقص الرسول أحد كتبة الإنجيل وأحد تلامذة المسيح السبعين، والذى سرعان ماتركها لحنانيا ليواصل كرازته فى المدن الخمس الغربية، وعاد ليقبض عليه الرومان ويعذبوه عذابا شديدا ويربطوه فى عربة تجرها الخيول فى شوارع الإسكندرية أياما متوالية حتى تناثر لحمه على الطرقات ومات شهيدا سنة 68م،
وظلت الإسكندرية هى المقر البابوى الرسمى لنحو ثلاث قرون،شهدت فيها 19 بابا، ولم يكن يمنع وجود البابوات فيها إلا ظروف الاضطهاد وخوف الوشاة حتى مرسوم ميلان 313م الذى اعترف بالمسيحية ديانة رسمية ورغم ذلك فقد تعرض البابا أثناسيوس الرسولى (328-373) للنفى مرات عديدة إلى فرنسا وإيطاليا والصحراء والصعيد بسبب فتن آريوس والآريوسيين، للإمبراطورية الرومانية، الانقسام اللاهوتى الكبير فى مجمع خلقيدونية 451م، وهو مادفع الامبراطور لنفي البابا 25 ديسقورس الأول(444-454) إلى “ابخاذيا” شمال بحر قزوين، ومات هناك، فثنى بنفى خلفه البابا 26 ثيماثاوس الثانى (455-477) إلى ابخاذيا أيضا لسبع سنوات، عاد بعدها لمقره البابوى بالأسكندرية
وتولى البابا 33 ثيؤذوسيوس الأول (536-567) وبلغت مدة رسامته 31 سنة قضى 28 سنة منها منفيا فى الصعيد بسبب غضب بابا الإسكندرية عليه
ولم يتمكن الباباوات من 34 إلى 38 الاستقرار فى المقر البابوى بسبب الفتن المتوالية ومؤمرات أباطرة القسطنطينية، أو تعيينهم لبابا متآمر على الرغم من وجود البابا الشرعى، فآثروا البقاء فى أديرتهم كدير الزجاج بأبو صير أو دير وادى النطرون، حتى عهد البابا 38 بنيامين الأول (623-662) الذى ظل هاربا وهائما فى البرية لمدة 13سنة حتى دخلت جيوش المسلمين بقيادة عمرو بن العاص فطلبه وأكرم وفادته وأعاده إلى كرسيه بالأسكندرية وسعى لتنظيم علاقة الدولة بالأقباط
ومع ذلك فقد تعرض البابوات 40 يوحنا الثالث، و43 الكسندروس الثانى، و46 خائيل الأول، و47 مينا الأول،و55 شنودة الأول،56 ميخائيل الأول للسجن حتى يتمكنوا من دفع مايفرضه عليهم الولاة العرب من أموال ومغارم، وقدم بعضهم للحيوانت المفترسة، ولذلك فقلما عاش البابوات من البابا 54، حتى البابا 66 فى المقر البابوى وآثروا الحياة فى الأديرة أو الكنائس الفقيرة وسط الفقراء وفى الأقاليم تجنبا لتلك المظالم التى جعلت بعض البابوات يعيشوا على الصدقات والإحسان، كما تعرض المقر البابوى وكثير من الكنائس والأديرة للنهب بحثا عن أوان من الذهب والفضة وكنوز مخبأة، وهو الأمر الذى عانى منه أغلب البابوات ولم يكن من النادر أن يظل كرسي البابوية شاغرا لسنوات وصلت فى بعضها لعشرين سنة، بسبب خوف وإحجام الصالحين وتهديد السلطة
ولكن لم يخل الأمر من بعض الخلفاء والولاة المستنيرين الذين يكرموا البابا ويقدمونه ويصحبونه فى مناسباتهم
وفى عهد البابا 66 خرستوذولوس (1047-1077) كانت الإسكندرية كعاصمة للدنيا قد أفلت، ومر على الحكم العربى لمصر نحو اربعة قرون شهدت فيهم مصر العواصم الاسلامية الأربع الفسطاط والقطائع والعسكر والقاهرة، فآثر البابا الانتقال بالكرسى البابوى إلى الكنيسة المعلقة بمصر عتيقة
وفى عهد البابا 80 يؤانس الثامن (1300-1320) سعى بعض وزراء السلطان الناصر محمد بن قلاوون لإغلاق جميع كنائس القاهرة، فاضطر البابا اللى الانتقال بالكرسي البابوى إلى كنيسة العذراء بحارة زويلة بالقرب من باب الشعرية، وهى الوحيدة التى فتحت بشفاعة الملك جاك الثانى ملك ارجون
وفى عهد العثمانيين، انتقل البابا 102 متاؤوس الرابع (1660-1675)بالمقر البابوى إلى كنيسة العذراء المغيثة بحارة الروم بالقرب من باب زويلة
وفى عهد البابا 108 مرقص الثامن (1796-1809) انتقل بالمقر البابوى إلى الكنيسة المرقسية بالأزبكية بعد حرق كنيسة حارة الروم فى أتون أحداث الحملة الفرنسية، ويعد عهد محمد على وأسرته عهد انتقال من عهود الذمة البغيضة إلى عهد المواطنة بعد أن ألغى سعيد باشا عهد الذمة سنة 1856،
وفى يوليو سنة ١٩٥٤ قام مجموعة من شباب جماعة الأمة القبطية باقتحام المقر البابوى بالأزبكية وهم مسلحون واختطاف البطريرك يوساب الثانى البابا 115, وإجباره على التنازل عن البطريركية ولكن تم القبض على المقتحمين وإعادة البابا الى كرسيه، حتى تنازل هو طواعية بعد عام من اختطافه
وفى عهد البابا116 كيرلس السادس (1959-1971) وضع أساس المقر البابوى الحالى بالعباسية الذى افتتحه مع الرئيس جمال عبد الناصر يونيو 1968، وفى نفس الشهر بورك المقر الجديد بعودة رفات القديس مرقص الرسول البابا الأول بعد ان سرقت من الاسكندرية فى زمن الطولونيين
— وكل سنة ومصر وناسها بخير ومحبة .. ويسعد أوقاتكم