كارم يحيى يكتب عن “وثيقة النقب”: جامعة دول النقب!
سخرية القدر أن يتأسس هذا المنتدى أو”جامعة دول النقب” من 6 حكومات بينها الولايات المتحدة و”إسرائيل” وهو أقل بدولة من مؤسسي الجامعة العربية
تساؤلات حول حدود تحالف منتدى العقبة وقابليته لضم أطراف أخرى وهل نتجه إلى “ناتو شرق أوسطي”؟
“أي كلام” تضمنه البيان عن الفلسطينين و”السلام الشامل” أقرب إلى اللغو.. وتحركات بايدن تشير إلى أنه يسير بحماس في “الطريق الإبراهيمي” خلفا لـ ترامب
جامعة الدول العربية ولا كأنها سمعت بـ “جامعة دول النقب”. والصمت مازال سيد الموقف.. ويبدو سيظل.
هذا الأسبوع أصبح عندنا في المنطقة إطار مؤسسي إقليمي إلى جوار جامعة الدول العربية اسمه “منتدى النقب” انعقد اجتماع “لجنته التوجيهية” التأسيسي الافتتاحي في المنامة عاصمة البحرين. وعلى خلاف جامعة “عجوز مشلولة” تجاوز عمرها الخمسة والسبعين عاما دون أن يلتفت كثيرا أهلها فيحتفلوا بعيدها الماسي، فإن “المنتدى” الذي جرى الإعلان عنه عبر بيان للمتحدث الرسمي لوزارة خارجية الولايات المتحدة وسفاراتها في دوله الأطراف عن إطاره المؤسسي الدائم أنجز تنظيم وهيكلة نفسه بهمة ونشاط سريعا، ومن خلال ست “مجموعات عمل”. وهي بدورها إلى جانب “اللجنة التوجيهية” من كبار مسئولي وزارات الخارجية تعمل تحت إشراف اجتماع وزاري سنوي. وجاء من بينها مجموعة للأمن الإقليمي، وأخرى تشمل شئون “التربية”.
ولعل سخرية القدر أو استهزاء التاريخ بالتاريخ، أن يتأسس هذا المنتدى أو لنقل “جامعة دول النقب” من حكومات ست هي: الولايات المتحدة والبحرين ومصر و”إسرائيل” والمغرب والإمارات العربية المتحدة، وفق ترتيب البيان الأمريكي. وهو عدد أقل بواحدة فقط من الحكومات المؤسسة للجامعة العربية في مارس 1945، وكانت: مصر وسورية والعراق ولبنان والسعودية وشرق الأردن واليمن، وإن كان بروتوكول الإسكندرية المؤسس في أكتوبر 1944 قد وقعت عليه في الإبان خمس دول، ولحقت بها بعد أشهر السعودية واليمن.
ولعل المقارنة بين نصي وسياقي بروتوكول الجامعة العربية وبيان جامعة النقب مسألة مغرية. ولكن قبلها لنسجل عددا من الملاحظات على البيان الذي تورطت في التعتيم عليه على ما يبدو أو تجاهلته معظم صحف القاهرة ومواقعها الإخبارية غير المحجوبة. وهو حال يخالف حضور المواطن في بروتوكول تأسيس الجامعة العربية الذي نص في ديباجته على أنه “يأتي استجابة للرأي العام العربي في جميع الأقطار العربية”.
وبداية فليس خافيا أن مأسسة “منتدى النقب” على هذا النحو رباعي الأدوات (اجتماع سنوي وزاري.. ولجنة توجيهية.. ومجموعات عمل.. ورئاسة عند وزير الخارجية الإسرائيلي حتى الاجتماع الوزاري المقبل) هو استكمال لما اسمي بـ”قمة النقب” في 27 مارس 2022. وربما يعكس استخدام كلمة “قمة” في غير محلها، إذ أن الاجتماع كان على مستوى وزراء الخارجية، طموحا ورغبة في التضخيم والتفخيم ولفت الانتباه حينها. أو في “الفرقعة” لإعطاء دفعة وتسويق دعائيين. وهذا قبل الانتقال للعمل الهادئ من أجل بناء الإطار التنظيمي.
ولست ممن يجادلون فيما هو عليه تعبئة العداء ضد إيران وحلفائها بالمنطقة من أهمية في سياق هذا الإطار الإقليمي الجديد. لكن أظن وعلى ضوء قراءة الوثائق وما توافر من معلومات من الخطأ اعتباره أحادي الهدف على هذا النحو. ومع هذا يلفت الانتباه هذه المرة غياب التنصيص على كلمة “إيران” عن الوثيقة الأخيرة للمنتدى. وهذا بخلاف سابقتها في مارس الماضي. وقتها نشر “الأهرام” وغيره من الصحف المصرية أو تم التوجيه بالنشر نقلا عن وكالات الأنباء العالمية تحت عنوان: “لقاء النقب السداسي يطالب بنبذ الإرهاب ومواجهة تهديدات إيران”.
واللافت أيضا أن التغطية الإخبارية “للأهرام” حينها ـ وقبل أن ينتقل إلى التعتيم التام هذه المرة وكمثال على حال صحافتنا المصرية ـ أظهرت إشارات رمزية، وأخفت أخرى. أظهرت على لسان وزير الخارجية “سامح شكري” رمزية وأهمية ذكرى أول معاهدة صلح بين الحكومات العربية وتل أبيب (معاهدة مارس 1979). وأظهرت قبل نحو ثلاثة أشهر من اليوم نموا مهما للغاية وربما غير مسبوق في علاقات القاهرة وتل أبيب الرسمية على مدى العامين الماضيين، وكما نقلت على لسان السفيرة الإسرائيلية بمصر “أميرة أورون”.
والأهم أن تغطية “الأهرام” أظهرت التوسيع والانتشار الجغرافي السياسي لهذا الصلح الرسمي العربي الأول بدون الوفاء بالحقوق الفلسطينية وصولا إلى محطة “الاتفاقات الإبراهيمية” مع المنامة وأبو ظبي والرباط. وأظهرت عطفا على ما سبق وصراحة أن تحالفا عربيا يضم جوانب عسكرية أمنية مخابراتية تقوده “إسرائيل” قد خرج هذا العام إلى العلن، وهو يجر خلفه مرجعيته الأيديولوجية المشتركة مخترقا حصون الدين والثقافة والتربية والتعليم.
لكن مما أخفته “الأهرام” وغيرها من صحف القاهرة حينها إشارات رمزية تتعلق بخطوات أبعد في تقبل الصهيونية وتمثلها واعتناقها عند عدد من الحكومات العربية. وهذا من قبيل أن الاجتماع الوزاري انعقد في منزل مؤسس الكيان الإسرائيلي “ديفيد بن جوريون” بالنقب الفلسطيني العربي المحتل. ولعل من الأسباب المخفية في تسميته “بالقمة” كون الاجتماع انعقد في منزل زعيم صهيوني ومؤسس وأول رئيس “لدولة إسرائيل”.
وحقيقة وفق السياقات الجارية والحقائق التي تتشكل اليوم على الأرض لا التصريحات أو التسريبات، يصعب على المراقب الثقة تماما في صمود أقوال رسمية أو شبه رسمية صدرت من قبل بالقاهرة عن رفض مشروع “ناتو شرق أوسطي” أو العمل على إجهاضه. وللأسف ليس لدينا جهة مسئولة تتصرف بمسئولية أو إعلام شفاف مهني يحترم الجمهور يرد ـ ولو بالنفي ـ على أنباء تتوالى في الاتجاه المعاكس مؤخرا. وهذا من قبيل نبأ نشرته صحيفة “وول ستريت جورنال” الأمريكية الأحد الماضي وعادت ونقلته عنها “الجيروزاليم بوست” الإسرائيلية في سياق تغطيتها لمولد الإطار المؤسسي التنظيمي لمنتدى أو “جامعة دول النقب” عن لقاء تم مؤخرا بين عسكريين من الدول العربية والخليجية المشاركة مع نظرائهم الإسرائيليين والأمريكيين.
وليس عندنا أيضا من يرد ـ ولو بالنفي ـ على ما قاله مؤخرا وزير الدفاع الإسرائيلي “بيني جانتس” أمام لجنة الدفاع والأمن القومي بالكنيست مستبقا “اجتماع المنامة التوجيهي”: “الآن نبني شراكة واسعة مع دول أخرى إضافية في الإقليم عبر ربط أنظمة الدفاع الجوي ضمن سبل أخرى لتعزيز الاستقرار والأمن في الشرق الأوسط”، أو على ما قال كذلك بأن زيارة الرئيس “بايدين” للمنطقة منتصف يوليو الجاري ستلقي بظلال إيجابية على قدرتنا على العمل الجماعي ضد العدوان الإيراني بالمنطقة، وأن الزيارة ـ وفق ما نقلته “سي إن إن” الأمريكية عن “جانتس” ـ ستدفع إلى الأمام بناء نظام تحالف عسكري جوي وللدفاع الجوي تقوده الولايات المتحدة في الشرق الأوسط يسمي “ميد”.
وهذا بعدما اتضح بالملموس خطوة تلو أخرى أن الرئيس الأميركي يسير وإدارته بحماس في “الطريق الإبراهيمي” الذي بدأه وشقه سلفه وغريمه “ترامب”.
وأيضا ليس هناك من يرد ولا يصد ـ ولو بالنفي ـ بشأن ما نشرته “الجيروزاليم بوست” عقب يوم واحد من اجتماع العقبة الأخير من أن تل أبيب تعرض على أبو ظبي تدريب جيشها اعتبارا من العام المقبل2023.
وحتى فيما يتعلق بالتعبئة الإقليمية ضد إيران تظل هناك تساؤلات حول حدود تحالف منتدى العقبة وقابليته لضم أطراف أخرى. وهل أصبح يهدف للاكتفاء مرحليا بالردع المعنوي لطهران والضغط عليها للتأثير على مسار المفاوضات الدولية المزمعة بشأن برنامجها النووي؟، وحيث يبدو وكأن خيار الذهاب إلى مواجهة حربية مع إيران أبعد على ضوء تداعيات الحرب الروسية ضد أوكرانيا على اقتصاديات النفط. لكن ما يتذكره بالأصل محللو ومراقبو الشئون العربية المعاصرون لعقود امتدت حتى الأول من هذه الألفية أن الموقف الرسمي في القاهرة ومعها مختلف العواصم العربية كان هو ربط الحيلولة دون امتلاك طهران لسلاح نووي بنزع سلاح تل أبيب النووي، وعلى قاعدة السعي لمنطقة خالية من هذا السلاح ومخاطرة. وللأسف فقد اتضح أن متغيرات العقود القليلة الماضية في المنطقة والخليج ومنها اختفاء خطر عراق / البعث / صدام أن هذا الارتباط قد أصبح في خبر كان، وحتى عند القاهرة. وقد أصبحت الأولوية المطلقة عند معظم حكومات الخليج هو “الخطر الإيراني”.
صحيح في بيان منتدى العقبة 27 يونيو 2022 نوع من التعتيم والمراوغة هذه المرة بشأن “التحالف ضد الخطر الإيراني وحلفائه “الوارد تصريحا لا تلميحا في بيان العقبة 27 مارس الماضي. ومع هذا فقد جاء البيان الأخير واضحا على طريقة “كل لبيب بالإشارة يفهم” حين صاغ عبارات من قبيل “العمل معا للتغلب على التحديات المشتركة” و”تنسيق الجهود الجماعية وتعزيز رؤية مشتركة للمنطقة” و”تحسين علاقات إسرائيل مع الدول العربية الأطراف”.
وبالطبع فإن “أي كلام” تضمنه البيان عن الفلسطينيين و”السلام الشامل” هو أقرب إلى اللغو. وهذا لأن بيان مارس لمنتدى أو جامعة دول العقبة تضمن إشارة إلى دعوة للسلطة الفلسطينية كي تلتحق. وقد بات واضحا أنها غير راغبة أو غير قادرة على تلبيتها. ولعل في موقف ملك الأردن الذي نأى بنفسه لليوم عن هذا الإطار الإقليمي الجديد ما يفيد بأن الرجل ربما هو الأذكى والأبعد نظرا، أو الأكثر حساسية واستشرافا لضغوط شعبية محتملة في الداخل. وهذا لا يعني أنه لا يقل اكتراثا من نظراء له شاركوا في إعلان فتأسيس ومأسسة هذا الإطار الإقليمي بالمنطق القائل بأن ضمان استقرار قصور الحكم (السلطة والثروة) ضد انتفاضات وثورات شعبية أخرى يمر عبر بوابة واشنطن، ومفتاحها في تل أبيب.
الواقع الناصع الذي تأكد هذا الأسبوع من المنامة هي أن إطارا مؤسسيا جامعا لتحالف إقليمي عربي بقيادة إسرائيلية أمريكية قد ولد بيننا وفي زماننا هذا. وهو يقينا قابل للتطور بسرعات متفاوتة وفق الاحتمالات الإقليمية والدولية. وفي كل الأحوال، فإن هذا الإطار الذي وصف هدفه الرئيسي وزيرا خارجية الولايات المتحدة وإسرائيل في مارس الماضي بـ “هندسة للمنطقة” ستكون له آثاره وتبعاته وأعباؤه سواء على القضية الفلسطينية، أو حريات وحقوق المواطنين في العديد من الدول العربية الموصومة بطول الاستبداد والفساد. وبين هذا وذاك على قدرة هؤلاء المواطنين على الحركة من أجل تحرير فلسطين وحقوق شعبها.
وبالعودة اليوم إلى ميلاد جامعة الدول العربية قبل نحو 78 سنة فكأننا نسمع قهقهات سخرية التاريخ. ووقتها بين الجلسات التحضيرية في أكتوبر 1944 وإعلان وتوقيع ميثاق الجامعة بالقاهرة مارس من العام التالي نص بروتوكول الإسكندرية المؤسس على “الحفاظ على استقلال الدول العربية وصيانة سيادتها وتحرير البلاد العربية غير المستقلة”.
كما خصص البروتوكول بين بنوده ما كان أوفرها في الاهتمام والتفاصيل وعدد السطور والكلمات تحت عنوان: فلسطين. ومن بين ما جاء بها: “مطالبة الدولة البريطانية بالالتزام بتعهداتها وقف الهجرة الصهيونية والمحافظة على الأراضي العربية والوصول إلى استقلال فلسطين بوصفها من حقوق العرب الثابتة”. وحينها كانت قوات ومعسكرات الاحتلال البريطاني على بعد أمتار من الوفود العربية المجتمعة، ولم تغادر بعد إلى قناة السويس.
كما لم يغب عن بروتوكول الإسكندرية أن يشدد على تأييد اللجنة التحضيرية لجامعة الدول العربية ـ وليس جامعة دول النقب ـ لقضية عرب فلسطين، وذلك بالعمل على تحقيق أمانيهم المشروعة وصون حقوقهم العادلة. كما حذر من “خلط مسألة الويلات التي عانى منها اليهود في أوروبا على يد بعض الدول الدكتاتورية وبين الصهيونية”. وسامح الله من اجتمعوا في بيت “بن جوريون”. وكذا سامح “ناصر بوريطة” وزير خارجية المغرب على تصريحاته في النقب مارس الماضي حين خلط بين جموع اليهود المغاربة و”الدولة الصهيونية”.
رحم الله أجيالا من أجدادنا وآبائنا كانوا يعيبون على جامعة الدول العربية كونها “كلام والسلام”. وهذا مع أن مؤسسيها اختاروا أول أمين عام لها من المشهود له تاريخه في الجهاد والعمل المسلح ضد الاستعمار ” عبد الرحمن عزام باشا”.
ألف رحمه عليه وعليهم. على الأقل لم يختاروا كأهل “جامعة دول النقب” الوزير الصهيوني الإسرائيلي “يائير لابيد ” ليقودهم خلال التأسيس والمأسسة. وكي يصبح بنص كلمات بيان الخارجية والسفارات الأمريكية قائد ” الهيئة الحاكمة الرئيسية للمنتدى”.
وطبعا جامعة الدول العربية ولا كأنها سمعت بـ “جامعة دول النقب”. والصمت مازال سيد الموقف.. ويبدو سيظل.