كارم يحيى يكتب: عندما تجاهد كي يسكن الجسد تراب الوطن.. نص مهدى إلى التونسي اليهودي جيلبار نقاش.. وشحاته هارون أبراهام السرفاتي
نص مهدى إلى التونسي اليهودي “جيلبار نقاش”.. وأيضا “شحاته هارون” و “أبراهام السرفاتي” رحمهم الله
“جيلبار نقاش” شيوعي يهودي يوارى جثمانه ثرى وطنه تونس محاطا بتبجيل عام من الإسلاميين إلى اليساريين في بلاده، ومن قصر الرئاسة إلى أحزاب هامشة خارج الحكم والبرلمان. وعندما علمت مساء السبت 26 ديسمبر بنبأ رحيله بعد حياة حافلة وعن نحو 82 سنة تداعت ذكريات واستخلاصات لا تعود وحسب إلى زياراتي لتونس بعد الثورة وإقامتي بها مراسلا “للأهرام” لنحو عامين، بل لم يكن من مفر الاشتباك لحظة رحيل “بابي” ـ كما يناديه رفاقه ومحبوه ـ مع عصر التطبيع العربي الزاحف من خليج الإمارات والبحرين إلى محيط المملكة المغربية وبعمق السودان جنوبا. وهكذا مع توالي إعلانات إدارة ترامب الأمريكية قبل مغادرتها البيت الأبيض بأشهر وأسابيع قليلة. كما استدعت عندي لحظة الرحيل لإنسان واحد يحمل اسم “جيلبار نقاش” إلى الذاكرة شيوعي يهودي عرفته مصر اسمه “شحاتi هارون” توفي عام 2001، و ثالث من المغرب لعله الأكثر شهرة في عالمنا العربي هو “أبراهام السرفاتي”، والذي رحل بدوره عام 2010.
للأسف لم يحالفني الحظ بلقاء “جيلبار” ( تنطق جلبير). ولعله لم يكن متاحا بالنسبة لي ومركزيا في أحداث تونس وإعلامها خلال السنوات الأخيرة بالقدر الكافي، كي ألح على مقابلته ومحاورته. ولعلني بالأصل أسأت التقدير وأخطأت، وأنا نادم اليوم لذلك. لكني كنت واعيا بأهميته في تاريخ اليسار التونسي، وتحديدا تأسيس “تجمع الدراسات والعمل الاشتراكي التونسي” الشهير باسم حركة “برسبكتيف/ آفاق” انطلاقا من عام 1963. وما أدراك ما “برسبكتيف” بشأن تجديد هذا اليسار ونقد منهج الحزب الشيوعي التقليدي الذي يعود إلى عام 1920 .ولقد بدا لي بعد نقاشات مع أصدقاء بتونس وقراءات، منها كتاب المؤرخ “عبد الجليل بوقرة” الصادر عام 2014 بعنوان ” من التاريخ السري لليسار التونسي :حركة آفاق وفتح الآفاق 1962 ـ 1974″، أن “برسبكتيف” كالحلقة الثالثة في الحركة الشيوعية المصرية انطلاقا من 1967 بمثابة سعى لتصحيح ما انتهى إليه الشيوعيون السابقون في تونس من استسلام واستكانة لقرار الرئيس ” بورقيبة” تجميد حزبهم في عام 1963 ، وبعدما تحالفوا مرارا تحت “زعامته الوطنية”. وتماما كما سعى شيوعيو الحلقة الثالثة في مصر لنقد وتجاوز سابقيهم، بعد أن قام الرئيس عبد الناصر بإجبارهم وهم في معتقلاته وتحت سياط تعذيبه على حل تنظيماتهم، فضلا عن التصور الذي ساد بأن نظام التحرر الوطني في مصر يبنى ” الاشتراكية”. وفي كلا البلدين مع طغيان ” الحزب الواحد والزعيم ” الوطني” الأوحد.
الحاضر مع الغياب
كنت واعيا من خلال نقاشات الأصدقاء وصفحات كتب التاريخ بتونس بأهمية “جيلبار نقاش”. وحتى من خلال الكتابات التي تنتسب إلى أدب السجون، بدا الرجل حاضرا بين صفحاتها بقوة، وبما في ذلك النص الرائع الذي كتبه “فتحى بن الحاج يحيى” ، ونشره أولا في عام 2005 تحت عنوان أخاذ: “الحبس كذاب والحي يروح”. ولقد بحثت عيناي عن “بابي” بطول ساعات ندوة بمناسبة 50 سنة على حركة طلاب 1968 وثيقة الصلة مع “برسبكتيف” انعقدت بكلية العلوم الانسانية والاجتماعية يوم 15 مارس 2018 داخل الجامعة التونسية (9 أفريل)، فلم أجده للأسف.وهذا مع ما استمعت اليه في الندوة من شهادات مهمة. ولقد دونت وقائع الندوة وأهم ما ورد بهذه الشهادات في دفتر من بين ما تركته مضطرا مع أوراق عند أصدقاء بتونس، توقيا لمتاعب تحسبت لها عند العودة إلى مطار القاهرة في هذا الزمن المصري الصعب. وهي متاعب ممكنه جدا كما هو غير ممكن بالاطلاق تصور أن تنعقد في الجامعة المصرية هذه السنوات ندوة مماثلة عن حركتها الطلابية الاحتجاجية في العام نفسه (1968). وهنا تحديدا شتان ما بين ما أصبحت عليه تونس بعد ثورة 17 ديسمبر/ 14 يناير (جانفي) 2011 وبين ما باتت عليه مصر بعد صيف 2013.
لكن قبل مناسبة خمسينية طلاب الجامعة بتونس بأسابيع، اصطحبني الصديق “بشير الحامدي” إلى لقاء احتضنته جدران صالة شقة في عمارة عتيقة بوسط تونس العاصمة عن كتاب “كريستال”، الذي روى فيه ” جيلبار النقاش” مسيرة كفاحه في جنس أدبي قيل أنه لا هو بالرواية ولا هو بالسيرة الذاتية تماما. وكانت الطبعة المعربة من ” كريستال” الصادر بالفرنسية أولا عام 1982 لم تصدر بعد. وللأسف أيضا خرجت للمكتبات بتونس بعد أن غادرتها في أغسطس (أوت) 2018. وهو الكتاب الذي يستمد عنوانه من ماركة السجائر زهيدة الثمن التي كان يخط عليها “بابي” سطوره سرا في الزنزانة. وقد قال لاحقا عن تجربة الكتابة على هذا النحو في غضون فترة سجن امتدت إلى ما يزيد عن 10 سنوات خلال عهد “بورقيبة” لتستهلك مع ” الإقامة الجبرية والمراقبة الأمنية ” من عمره نهاية عقد الستينيات وأغلب السبعينيات:”كانت الكتابة وسيلة ومحاولة للفهم وأساسا مشروعا افتراضيا للحوار. كنت أكتب وأنا أفكر في بعض الأشخاص. أكتب وأنا اتخيل الشخص المعني، وهو يبتسم أو يكشر أو تتفاعل. أنها طريقة لكي أكون مع الناس حتى ولو لم أكن معهم”.
بين جدران الشقة أبصرت “جيلبار” خلف منضده إنسانا خفيض الصوت واضح مألوف قسمات الوجه، وكأننا احتسينا القهوة سويا مرارا.وهذا على الرغم من أن اللقاء كان يجرى باللغة الفرنسية التي يصعب بالنسبة لي متابعتها. ولقد بذل “بشير” مجهودا مشكورا في أن يسر في أذني بين حين وآخر بترجمه لما يقال هناك من فوق المنضدة. لكن انتهى الأمر بأن امتزجت الألفة عندي بالغربة. ويوما ما بحثت بشغف عن شهادة “جيلبار النقاش” أمام هيئة الحقيقة والكرامة” في نوفمبر 2017 بوصفه واحدا من ضحايا الاعتقال والتعذيب وكافة صنوف الاضطهاد في عهدي “بورقيبة” و”بن علي”، لكنني للأسف لم اعثر عليها، إلا وهو يدلي بها بالفرنسية ،ودون ترجمة. ومع هذا فقد كان الرجل طلق اللسان بالعامية التونسية التي أصبحت افهمها جيدا.
مع يهود بتونس.. وجها لوجه
ولقد تصادف أن أقمت بحي ” لافيات ” بوسط العاصمة. وكان الكنيس اليهودي الأهم والأكبر بالعاصمة يقع على بعد أمتار، وفي الطريق إليه محل صغير متواضع لبيع اللحوم الحلال “الكوشير”.وكلما مررت به وجدته خاليا من الزبائن أو يقف عنده واحد أو إثنين بالكاد من المشترين كبار السن. ولقد جئت من بلد حافظ على كنس اليهود على الرغم من أربعة حروب خاضها مع “إسرائيل”وعدوان طائراتها ومدفعيتها المدمرة القاتلة على مدنه ومدارس تلاميذه و مصانع عماله. ولقد قادني ظهر يوم مشمس الفضول والصديق الزميل ” عثمان لحياني” مراسل صحيفة “الخبر” الجزائرية لمحاولة دخول كنيس لافايت. لكن الشرطة الحارسة منعتنا على الرغم من إظهارنا لبطاقات الصحفيين الأجانب الصادرة من رئاسة الحكومة التونسية. لكنني بعدها تنبهت إلى أن العمارة العتيقة التي اسكنها يقطن العديد من شققها يهود تونسيون من أبناء الطبقة الوسطى. ببساطة نبهتني للأمر واقعتان.
الأولى عندما طرق الباب عندي في صباح يوم سبت جاري بالشقة المجاورة مباشرة، وطلب مني في أدب جم أن انتبه إلى ارتفاع صوت الراديو ( المذياع) ليلا على نحو يزعج أطفاله الصغار الذين يذهبون الى المدارس في ساعة مبكرة. اعتذرت له على الفور. وبين لوم النفس وتعليل ما ارتكبته في حق الجيرة، اكتشفت أنني لم أنتبه وأنا أقاوم الوحدة بموجات الإذاعة الوطنية التونسية أنه كان يتعين نقل جهاز الراديو من الصالة إلى غرفة النوم، وعلى مقربة من أذن اصبحت أشك في قيامها بوظيفتها كما ينبغي مع تقدم العمر. وهو ما فعلت فور أن أغلقت باب الشقة بعد حديث جاري الخاطف. ولقد ذكرني خلاله الجار العزيز بأنه طرق جرس شقتي بعد منتصف ليل أمس بدون جدوى. وتذكرت أنني بين اليقظة والنوم والشعور بالبرد تكاسلت عن النهوض من السرير، مستغربا أن يأتي زائر بدون موعد في منتصف ليل الشتاء، متوجسا مما كان قد أبلغني به زميل صحفي بأن السفارة المصرية تسأل بإلحاح عن مكان سكني وتتقصى معلومات عني. وتصادف يوم أن شرفني جاري بملاحظته التي اخجلتني مع حلول ذكرى مجزرة مدرسة أطفال قرية “بحر البقر” المصرية 8 أبريل/ أفريل 1970. وبعد أن رجعت الى الحاسوب لأدير من ” اليوتيوب” أغنية شادية ” الدرس انتهى لموا الكراريس”، خرجت الى الشرفة فأبصرت جاري في شرفه شقته المجاورة مع زوجته التي تنشر الغسيل وعلى رأسه القلنسوة اليهودية “الكبه” أو “الكيباه”، فكررت أعتذاري اليهما، وقد انتابني شعور مضاعف بالندم والخجل على ما فعلته مع موجات الراديو بأطفال جاري اليهودي.
والثانية عندما طرق باب الشقة شاب لا أعرفه أبلغني أنه يسكن في العمارة نفسها ويريد مراجعة ذاكرة كاميرا تركها صاحب شقتي فوق الشرفة كاشفة لشارع جانبي كي تساعده في التعرف على لصوص سرقوا سيارته على مقربة في هذا الشارع. وسمحت له بالدخول مع انني كنت أراه للمرة الأولى، ورحبت به وقدته إلى الغرفة التي بها التلفزيون، وطلبت منه التعامل مع تقنيات لا صلة لي بها تمكنه من استعادة ذاكرة الكاميرا. وقبل أن أذهب لاعداد القهوة له ومن باب التعارف سألته عن اسمه، فأجاب :” محمد”. ثم عاد وقبل أن يغادر وهو يشكر على التعاون والضيافة ، ليبلغني بأن اسمه “ديفيد”. لم اعلق، وودعته بالحفاوة اللائقة بجار عزير في ورطة لجأ لجاره.
قابلت “إسرائيليا”
في جربة
وثمة واقعة ثالثة جرت هناك في “جربة”، وأنا عائد إلى تونس العاصمة من تغطية تداعيات الهجوم الإرهابي على”بن قردان” مارس 2016. توقفت في المدينة وأمضيت يوما وربما يومين. وما يعلق بالذهن أنني ذهبت على الأقدام من الفندق قرب سوق المدينة العربية العتيقة إلى “حارة اليهود الكبيرة”. سارت جولتي بين مظاهر حياة اليهود التوانسة مع أصوات صلوات جماعية تتناهى من أبنية للسكنى وصيحات ومشاغبات أطفال بالقلنسوات ” الكيبوت “( جمع كبه أو كيباه) يخرجون من مدرسة، حتى ساقني القدر إلى مدخل “صوان ” يستند إلى مبنى عتيق. المكان فارغ إلا من شخص في العقد الخامس ممتلئ الجسم منتفخ البطن بنهاية “الصوان”. وما أن لمحني وبادرته بالسلام حتى قال لي بين السؤال واليقين :” انت مصري؟”،فأجبته بنعم . وعندما أبلغني بلهجة مصرية أنه “إسرائيلي” ويحمل جواز سفرها داهمتني قشعريرة. وقطعت الحوار متراجعا مرتبكا، وقد خلت وجه وجسد الرجل تحت ” الكبه” يشبه السفاح ” شارون”. وعدت أدراجي الى الفندق تحت وقع صدمة، وها أنا أقابل على بعد آلاف الأميال من مصر ” كامب ديفيد السادات” للمرة الأولى ” إسرائيليا”، ومع أن عمري يقترب من الستين. ولقد غادرت جربة ” كنيس الغريبة” و تونس كلها لاحقا دون التيقن من إمكانيه دخول “الإسرائيليين ” إليها بجواز سفر ” إسرائيلي” ، ودون التحايل باستخدام جوازات سفر كندية أو أمريكية أو فرنسية أو غيرها. وهذا مع الوعي تماما بالصوت العالي لإتحاد الشغل و اليسار و القوميين العروبيين في المناداة المتكررة والى اليوم عبثا بتجريم التطبيع، وكذا بالتاريخ الحي الدامي للإعتداءات الإرهابية “الإسرائيلية” على تونس من حمام الشط جنوبي العاصمة 1 أكتوبر 1985 إلى اغتيال الشهيد “محمد الزواري” بصفاقس 15 ديسمبر 2016.
كتابات ماركسية
وانفصام ” القوميين العرب”
لعل التمييز الواجب الأكثر صمودا وبقاء عند يساريين كالتونسي “جيلبار نقاش” بين اليهود والصهيونية ومعها ” إسرائيل” يظل في ظني مستمدا من كتابات بعمق ” المسألة اليهودية ” لكارل ماركس و” اليهودي اللايهودي” لإسحق دويتشر و” المسألة اليهودية :القبيلة والشريعة والمكان” لإيلان هاليفي، وتلك الكتابات الاشتراكية الأخرى التي تنادي باندماج اليهود في مجتمعاتهم و أوطانهم وفي الصراع الطبقي والنأي بهم عن التوظيف من أجل مصالح الرأسمالية والاستعمار. وبالطبع هذا هو الأهم والأبقى من ” كلاشيهات”ما كان من دعاية سطحية” سوفيتية” أو ” للقومجين العرب”،وصولا إلى سذاجة وكارثية الخطاب السائد في الأغلب عند “إسلاميين” عن اليهود في سياق النظر من ثقب “الصراع الديني / الديني ” المضلل الخداع.
ولست في وارد تقييم الخلاف الذي نشأ داخل “برسبكتيف” السبعينيات وفي السجون بين “جيلبار نقاش” و الجيل التالي حول القضية الفلسطينية و “حل الدولة الوطنية الواحدة مزدوجة القومية”. وقد تناوله “فتحى بن الحاج يحيى” في كتابه المشار إليه سابقا تحت عنوانين فرعيين: “وجها لوجه مع قدماء برسبكتيف” و”بابي وإشكالية الرفيق اليهودي في زمن العروبة” .وهذا بعد أن لاحظ صاحب “الحبس كذاب والحي يروح” تأثيرات هبت من المشرق العربي بعد هزيمة 1967 وصعود المقاومة الفلسطينية هناك، وكذا تغير التركيبة السوسيولوجية للجامعة التونسية مع توافد أعداد كبيرة من كل مناطق البلاد ومن الأوساط الشعبية نتيجة تعميم التعليم ومجانيته ونتيجة انخراط أكبر في المد القومي العربي الجديد، و فيما كان مؤسسو “برسبكتيف” أصحاب نزعة أممية، يمتلكون اللغة الفرنسية ومتشبعين بالفكر الباريسي (ص 153 ـ 162). وعلما بأن “جيلبار نقاش” المولود بالعاصمة تونس 1939 درس الفلاحة (الزراعة) في باريس، وعاد ليعمل بوزارة الفلاحة بوطنه تونس في عام 1962 وإلى ما قبل اعتقاله وسجنه 1967.
وبالإمكان أيضا افتراض قدر من الاختلاف بين ما انتهى إليه اليهود في تونس ومصر. وعلى ما يبدو فإن تونس في ظل “بورقيبة” لم تتورط في الأخطاء والحماقات الكارثية لقادة المشرق “القوميين” كعبد الناصر مصر.أولئك الذين غلبت عليهم المفارقة والانفصام بين ادعاء التمييز بين اليهود والصهيونية والانزلاق في الوقت نفسه عمليا في سياسات وممارسات مكنت لإسرائيل الصهيونية تهجير المزيد من اليهود إليها. وفي تونس اليوم بضع آلاف معدودة من يهودها بعد موجة هجرة لافتة مع حرب 1967، وفي مصر لم يتبق إلا يهود بعدد أصابع اليد أو اليدين بعد موجات هجرة وتهجير كاسحة بلغت ذروتها مع حرب 1956، وسبقتها مع حرب 48.
الرجعية والخلط
بين رجال “بورقيبة”
لكن لا يخدعنك ما يقال عن ” علمانية بورقيبة” و ما طرحه بـ “واقعية” في خطاب أريحا 3 مارس 1965. فقد لاحظت بنفسي خلال اقامتي بتونس ومتابعتي لفاعليات تضامن مع القضية الفلسطينية مدى تغلغل الثقافة الرجعية و الخلط بين اليهود والصهيونية في خطاب وتعبيرات رجال أمن و جهاز دولة سابقين من”دساترة” و”تجمعيين”، وقد جاءوا محملين بثقافة وذكريات ما قبل الثورة. وبمذكرات “الباجي قايد السبسي” في طبعتها العربية، وتحمل عنوان “بورقيبة المهم والأهم”،صفحات خصصها من موقع وزير داخلية عن الغضب الشعبي الذي انفجر في الشوارع على عدوان يونيو /جوان 1967 وهزيمة مصر وسورية والأردن واحتلال قطاع غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية والجولان، وقد وصف الأحداث هذه بـ ” الأيام المأساوية”. و روى كيف تعرض الكنيس اليهودي بلافايت لهجوم جماهير غاضبة وارتفعت الهتافات ضد اليهود وتدعو لطردهم من البلاد؟.وكيف كانت الصدمة مع اكتشاف اشتراك أعضاء في حزب الرئيس والدولة من “الدساترة” في ” أعمال الشغب”هذه، وبما في ذلك قيادات خرجت من مقر للحزب بنهج “روما” في وسط العاصمة (ص 124 ـ 131). إلا أنه علينا أن نذكر ونتذكر أن ” برسبكتيف” كان لها مشاركتها المميزة في المظاهرات الشعبية الحانقة على عدوان يونيو 67، ومن مواقع غير رجعية تستهدف يهود بلادها. وهي المظاهرات التي قادها “محمد بن جنات” واستهدفت النظام البورقيني أيضا في تأييده الصريح للحرب الأمريكية الإمبريالية على فيتنام. ولقد حكم على الراحل “إبن جنات” بالسجن عشرين عاما جراء ذلك.
لماذا يختلف
“الشيخ الطرودي”؟
اعتبارا من خريف 2012 بدأت اتابع بشغف مقالات “البرسبكتيفي” المؤسس ومن الرعيل الأول أيضا المرحوم ” الهاشمي الطرودي” رفيق ” جيلبار النقاش”. أثارت اهتمامي تلك التي كانت توالي صحيفة ” المغرب” اليومية نشرها باحتفاء و بعناوين رئيسية على صفحتها الأولى أو”غلافها”. وكان مقررا أن التقي “الشيخ” ـ وهكذا يلقب ـ “محمد الهاشمي الطرودي” في إحدي زياراتي لتونس قبل أن يرحل عام 2015. ولقد تحدثت بشأن هذا اللقاء مع زميلي “حسان العيادي” الكاتب الصحفي بـ “المغرب” أظن في خريف 2014. ولقد بدا لي من سيرة ” الشيخ ” أنه كان أكثر تأقلما واندماجا، بل محظوظا نوعا ما، عن ” بابي” كي يظل في وطنه دون أن يتم دفعه دفعا إلى المنفى القسري في فرنسا، ولا يعود إلا بفضل ” الثورة”، التي يحلو لبعض مثقفي تونس بمن فيهم ” تقدميون” تسميتها استهزاء بـ ” ثورة البرويطة” ( أي عربة اليد والمقصود عربة محمد البوعزيزي).
وعلى خلاف “بابي”، تمكن ” الشيخ ” من الحضور و النشر في وطنه بين فترة وأخرى في زمن استبداد ” بورقيبة” و” بن على ” بعد خروجه من الاعتقال والسجن والتعذيب. ومرة أخرى اشعر بأسف لأن اللقاء معه لم يتم. وربما عوضت هذه الخسارة بالحرص على حضور كامل حفل تأبينه بحلول أربعينيته يوم 11 ديسمبر 2015 بفضاء مسرح ” التياترو ” بتونس العاصمة. حينها استعدت بيني وبين نفسي السؤال الذي ظننت أنه الأهم والأكثر أولوية لو كنت قد التقيته في حياته،وهو : كيف يفسر هذا التمجيد الصرف لبورقيبة والبورقيبية الذي تدور حوله مقالاته مؤخرا بـ ” المغرب”، وهو من عانى وعرف جيدا حقيقة بناء دولة على دعائم الاستبداد والقهر؟.. وهل يكفي استدعاء هذا ” الماضي المتخيل على خلاف الحقائق” الذي ثار عليه الشعب والاحتجاج به لصد الصعود السياسي المجتمعي لإسلامي النهضة بعد الثورة؟. ولقد عدت لطرح السؤال نفسه حول إعادة الاختراع الخيالي هذه ” للدولة الوطنية البورقيبية بل وامتدادها مع بن علي” في مواجهة المؤرخ اليساري المحترم المهم “الهادي التيمومي” خلال ندوة بالمكتبة الوطنية التونسية في 24 فبراير ( فيفري) 2018، وبمناسبة كتابه ” إلى الساسة العرب: ارفعوا أيديكم عن تاريخنا”. وأزعم أنني قرأت تقريبا كل ما كتب هذا المؤرخ الاجتماعي البارز بما في ذلك كتب موثقة بالمراجع تعتمد مناهج علم التاريخ تنتقد وتوثق سلبيات حكم “بورقيبة”. لكنني لم اتلق من ” التيمومي” ردا شافيا، أو على الأقل لم احصل على رد مقنع يفسر هذا الإنقلاب بعد الثورة على خطة قبلها في كتب تعتمد علم التاريخ، وحتى خلال جلستين مطولتين في منزله بحي ” الدندان” غربي تونس العاصمة.
العبارة المشاغبة:
” تونس أكبر من بورقيبة”
واقع الحال أنني أدركت من خلال معايشة مجريات ونبض الحياة اليومية بتونس، وحتى خارج أوراق الكتب والصحف وبرامج الإذاعة والتلفزيون، كيف يتغذى الانقضاض على التغيير والثورة من بعث تصور مثالي مزيف عن ” الدولة الوطنية”، وكما تجسدت بعد الاستقلال 1956 بطول عهدي “بورقيبة” و”بن على”. ولقد كنت أمازح نفسي وأصدقاء تونسيين مقربين واسعي الأفق بعبارة مشاغبة انتهيت إليها، وهي : “تونس أكبر من بورقيبة ..وحتى شارع الحبيب بورقيبة نفسه أكبر منه”. وتماما كما توصلت مبكرا في شبابي إلى أن ” لا عبد الناصر ولاغيره صنع مصر من عدم”. صحيح أنني لا أنكر منجزات لتجربتي عهديهما، وأيضا ما عاينته واختبرته من اهتمام بالمواطن التونسي إطعاما وتعليما وصحة، وعلى مستوى الخدمات الاجتماعية والبنية التحتية بالحضر والريف وحقوق المرأة، وبما يفوق مصر عبد الناصر. لكن اقامتي بتونس وفرصة المقارنة جعلتني أكتشف في كل الأحوال بؤس الاعتقاد والترويج لأن “زعيم بلدنا صنع لها ما لم يفعله الآخرون وأنه فلتة عصره وأوانه بين قادة دول ما بعد الاستقلال الوطني”. ولعل في ذلك أحد أوجه “الشيفونية المقيتة” و”الوطنية المغشوشة” التي عادت لتنبض بقوة في حياتنا و للمفارقة بعد ثورات مطلع العقد الثاني من القرن 21.
وفيما بعد أصبح بالإمكان إدراك كيف يختلف ” بابي ” هنا وبعد الثورة التونسية عن “الشيخ الطرودي”؟، وبخاصة عندما علمت أن “جيلبار النقاش” ـ الأقل حضورا في الإعلام وبين النخبة على الرغم من نخبويته وفرنسية لسانه ـ كان الأقرب إلى الشباب الذي يتطلع إلى المستقبل، وأنه الأكثر إخلاصا وانحيازا للتغيير والثورة متحررا من جاذبية إعادة إحياء البورقبية وبعث ” الدولة الوطنية” في صورة مثالية مزيفة. وكما يترجم ذلك موقفه إلى جانب شباب حملة “مانيش مسامح”، التي واجهت اصرار الرئيس الباجي قايد السبسي وحزبه ” نداء تونس” على تمرير قانون للمصالحة مع الفاسدين من رجال نظام “بن على” في دوائر كبار موظفي الدولة ورجال الأعمال. صحيح أن ” الشيخ ” لم يمتد به العمر ليشهد انطلاق هذه الحملة الاحتجاجية و زخمها اللافت في الشارع بالعاصمة ومختلف المدن، إلا أن كتابات ” الطرودي” الصحفية في السنوات السابقة جرى توظيفها بلا لبس من أجل صعود ” السبسي” و” النداء” ولصالح نزعة إقصائية استئصالية لم تستثن الحلفاء العلمانيين والتقدميين “للنهضة “. وهذا لا يعني بالطبع أن “بابي” لم يكن مدركا لمخاطر “النهضة” على الثورة والتغيير كـ ” يمين ديني محافظ” جاء من خارج ” السيستام ” . فقد كان أيضا ناقدا ومعارضا لها وللمسار الذي سار إليه الانتقال للديمقراطية في بلاده .
” السرفاتي” و”هارون” أيضا
في سبتمبر 1999 تمكن الشيوعي المغربي اليهودي ” أبراهام السرفاتي” بدوره من العودة إلى وطنه بعد رحلة اضطهاد طويلة من بين محطاتها: الاعتقال والتعذيب والحكم بالمؤبد والسجن 1972 وجراح “سنوات الرصاص”، ثم الإبعاد إلى المنفى بالبرازيل ففرنسا انطلاقا من 1991. وجاءت العودة للوطن في سياق “انفتاح مخادع” للملك الجديد الشاب “محمد السادس” لم يثمر ملكية دستورية وديمقراطية حقيقية راسخة. وكان ” السرفاتي” قد عاني في عهد الملك الحسن الثاني ماهو أكثر قسوة وإيلاما من السجن والتعذيب والنفي. فقد سجن ” المخزن الملكي” إبنه وشقيقته وعذبهما أسوأ عذاب، ما أسفر عن موتهما خلال فترة اختفاء سابقة في السرية أضطر إليها. ولقد ولد الرجل الملقب بـ “مانديلا المغرب” بطنجة عام 1926 لأسرة من اليهود “السفارد” متجذرة لقرون في وطنها..أي أنه يكبر “بابي” بنحو 13 سنة. وفي القاهرة وقبل ست سنوات من المهندس الخبير في الفوسفات والطاقة “السرفاتي” و 19 سنة من المهندس الزراعي “جيلبار نقاش” ولد الشيوعي المصري اليهودي المحامي “شحاته هارون”. وهكذا تعود الشخصيات الثلاث بالميلاد إلى حقبة ما قبل الحرب العالمية الثانية. والأهم أن وعيها بالذات والهوية والعالم تشكل وسط مزيج متنافر من صعود اليسار والتحرر الوطني، وأيضا هزيمة النازية وانكشاف أهوال المحرقة اليهودية في أوروبا وبخاصة وسط أوروبا، ثم لاحقا مع الخمسينيات انكشاف أهوال الستالينية في الاتحاد السوفيتي وأوروبا الشرقية.
ولقد جمع البحث عن تجديد الاشتراكية وتصحيح مسار اليسار بين تجربتي “بابي” و”السرفاتي” في وطنيهما تونس والمغرب. وخرج الأخير بدوره من الحزب الشيوعي التقليدي “التقدم والاشتراكية” ليؤسس مع رفاق له حركة ” إلى الأمام”، وبعد 1967 أيضا . وتمردت كما ” برسبكتيف” التونسية على “الخط السوفيتي “، وجربت توجهات ماركسية أكثر راديكالية كـ “الماوية”. أما المصري “شحاته هارون” فيبدو أنه قطع مع العمل اليساري الاحتجاجي الطامح إلى تغيير جذري في عهد عبد الناصر ” الاشتراكي العربي حليف الإتحاد السوفيتي”. وهكذا كغالبية رموز جيل الحلقة الثانية في المجموعات الشيوعية المصرية ( شباب الأربعينيات) اعتزل العمل التنظيمي اليساري الراديكالي السري، ومن قبل هزيمة 1967. و للمفكر والكاتب اليساري الراحل “محمد سيد أحمد” استخلاصا لافتا ومثيرا للجدل نشره في دراسة بمجلة ” القاهرة” الثقافية مطلع التسعينيات، ومفاده أن معظم الشيوعيين المصريين أصبحوا “مستوعبين” في خدمة المشروع الوطني القومي العربي لعبد الناصر بعد أن استوعبتهم حركة يهودية ديمقراطية نهضت في مواجهة خطر النازية خلال الأربعينيات،ومن ابرز رموزها “هنري كورييل”.
ولقد عاد” شحاته هارون” وانضم لحزب التجمع الوطني التقدمي الوحدوي (اليساري) المصرح له قانونا مع النصف الثاني من السبعينيات،و الذي عارض سياسات “السادات”. ولم ينج من ضربات الاعتقال في عهدي “عبد الناصر” و” السادات” أكثر من مرة، وحتى عام 1979 حين صرح بآراء معارضة لكامب ديفيد ومعاهدة الصلح مع ” إسرائيل”، و التي اعتبرها “مهينة ومجحفة بالشعب المصري”.ولعل الأكثر مفارقة وإيلاما في سيرة “هارون” هو اعتقاله زمن “عبد الناصر” لكونه يهوديا وبنظرة شك ظالمة جائرة بأن ” كل يهودي على أرض مصر محل شكل بأنه جاسوس لتل أبيب”. وتزيد بؤس المفارقة مع “شيزوفرنيا” القوميين العرب عندما يروى الرجل أنه طلب التطوع في الحرب ضد ” إسرائيل” 1967 فلم يستجيبوا ، بل واعتقلوه لأنه يهودي ليس إلا.
” الأمل لوعدت أنت لحيفا
وصمدت أنا في القاهرة”
يجمع بين اليساريين الثلاثة التونسي “النقاش” والمغربي”السرفاتي” و المصري “هارون” مشتركات عديدة، لا تستثني كذلك قائمة زاخرة بالأسماء من اليهود في عالمنا العربي. فقد ولدوا وبدأوا كفاحهم السياسي الاجتماعي في عهد الاستعمار، فامتزج عندهم بالنضال الوطني. وتقاسموا معا لاحقا صنوف الاضطهاد في عهد دولة الاستقلال (ما يسمى بالدولة الوطنية)، لكنهم تشبثوا بوطنيتهم وأوطانهم وبالطموح للتغيير من أجل شعوبهم.واختاروا وأصروا على أن يدفنوا بثرى الوطن. واللافت أيضا أن لثلاثتهم ـ إلي جانب رفضهم البات لإغراءات الهجرة الصهيونية ـ مواقف مشهودة في مناهضتها والكفاح ضدها.
وعلى سبيل المثال، فإن ” بابي” طالما عرف بتأييده للقضية الفلسطينية ورفضه القاطع للخلط بين اليهودية والصهيونية، وشارك مع يساريين تونسيين في العديد من الفعاليات المناهضة لـ”إسرائيل”. وعندما سئل ” السرفاتي” عن تجذر عدائه للصهيونية، قال :”كان عمري عشر سنوات حين قال لي والدي ذات يوم في كنيس بشأن رجل يصلى كثيرا: ( إنه صهيوني .. والصهيونية لا تمت بصلة لديننا ).وفي هذا الجو والتصور نشأت في كنف اليهودية المغربية المرتبطة منذ آلاف السنين بروح الأخوة مع الإسلام بشكل عام والإسلام في المغرب بشكل خاص”.وكتب ” هارون” :” إسرائيل ضد التاريخ وقانون الطبيعة.. هي خرافة”، كما أرسل للشاعر الفلسطيني “محمود درويش” عندما غادر مدينته حيفا :” تحية من القاهرة ..أنت وأنا الأمل .. لو عدت أنت الى حيفا وصمدت أنا في القاهرة”. وفي كتابه ” يهودي في القاهرة” كتب ” شحاتة هارون” الذي أسس مع رفاقه في مصر الأربعينات منظمة من الشباب اليهودي المناهض للصهيونية :” لكل إنسان أكثر من هوية . وأنا مصري حين يضطهد ( بضم الضاد) المصريون، وأسود حين يضطهد السود، ويهودي حين يضطهد اليهود، وفلسطيني حين يضطهد الفلسطينيون”.
وبالطبع فإنهم بشر لهم أخطاء وسلبيات وهنات، ويمكن انتقادهم في هذا الأمر أو ذاك وكغيرهم من المثقفين .لكن كيف ننسى لـ ثلاثتهم ولأمثالهم أنهم تشبثوا بالوطن وبأن يدفنو جميعا في ثراه، ورفضوا الذهاب إلى إسرائيل ولو للزيارة، وحرموا الصهيونية من إدعاء تمثيل كل اليهود والتحدث نيابة عنهم جميعا. ولعل السؤال المطروح حول المستقبل في هذا السياق: وهل هناك الآن بين الحركات السياسية في مجتمعاتنا العربية، يسارية أو غيرها، شخصيات يهودية الديانة من أجيال تالية سيمكننا أن نرثيهم على هذا النحو؟.
في تونس ـ حيث السياسة أكثر حيوية وتحررا من مصر والمغرب اليوم ـ لا أعرف حزبا يساريا أو ليبراليا أو حتى من الألوان الفاشية مدعية الوطنية ـ اختار التقدم بترشيح يهودي على قوائمه في الاستحقاقات الانتخابية بعد الثورة. وأرجو ألا أكون مخطئا. وهذا باستثناء ما فعله حزب حركة ” النهضة” مع انتخابات بلديات ربيع 2018، حيث تقدم بمرشح يهودي وحيد ( سيمون سلامة في مدينة المنستير أحد معاقل البورقيبية). وهو ما جلب للنهضويين التشكيك في النيات من خصومهم. واللافت أيضا أن اختيار رجل أعمال يهودي لوزارة السياحة في عهد حكومة ” يوسف الشاهد” نوفمبر 2018 لم يمر بسلام دون لمز وهمز وعدم ارتياح “ولكونه يهوديا أيضا”. والأنكي هو الصمت الذي يتعايش به تونسيون ليبراليون ويساريون وحتى ” بورقبيون اقصائيون استئصاليون” من رافعي لواء ” الدفاع عن الدولة المدنية” و”حماية النمط الاجتماعي” الفصل ( المادة ) 74 من دستور ما بعد الثورة الأكثر ديمقراطية و تحررا و مدنية والذي يشترط للترشح لرئاسة الجمهورية التونسية الديانة الإسلامية. وهو بالأصل شرط طائفي موروث من الفصل 37 من دستور الجمهورية الأولى 1 جوان (يونيو) 1959، ونصه “رئيس الجمهورية هو رئيس الدولة ودينه الإسلام”. وبالطبع يدرك المرء القادم من المشرق العربي الحساسية التاريخية المميزة عند مجتمعات المغرب الكبير والتي اعتبرت خلال النضال ضد الاستعمار الفرنسي والأسباني والإيطالي أن “الوطني” هي المسلم ، وأن الأجنبي “غير مسلم” بالضرورة. لكن ألا يعد الاستمرار في ذلك تقويضا “للمواطنة” و”الحداثة”؟
*
ولكن عندما أفكر اليوم فيما كنت سأقوله لـ “بابي” لو التقيته في تونس لا أجد إلا أن أروي له لماذا اخترت أن أهدي كتابي الأول الصادر خريف 2002 “رهان المليون السابع : اليهود والهجرة الصهيونية حتى 2020 ” إلى ” شحاته هارون” بعبارة: ” إلى روح مصري يهودي رفض اغتصاب إسرائيل لتمثيل اليهود، فأوصى أسرته بمنع دبلوماسي وموظفي السفارة الإسرائيلية من الحضور إلى دفنه وجنازته وعزائه”. وماحدث أيضا أن إبنتيه “ناديه ” و”ماجده” انتظرتا مع جثمانه المسجى في ثلاجة ( براد) خمسة أيام حتى يحضر حاخام من فرنسا ـ لا من ” إسرائيل ـ للصلاة عليه.
وكنت سأحكي لـ ” بابي”أيضا عن الأب “شحاته” الذي اخفى عن ابنتيه وهما صغيرتين أن لهما شقيقة ثالثه “منى” ظل يمزق كل صور لها. فقد أصيبت بسرطان الدم (لوكيميا) وهي صغيرة، وقبل أن تولد شقيقتاها، ولم يكن لها علاج حينها في عقد الخمسينيات، إلا في خارج مصر بفرنسا. لكن سلطات ” عبد الناصر” ربطت التصريح له بالسفر بألا يعود إلى وطنه مصر بعدها وإلي الأبد. وهكذا قرر البقاء حتى لو كانت العاقبة المحققة هي موت الابنة الكبرى.
.. سلاما على “جيلبار نقاش” ، ومعه “إبراهام السرفاتي” و “شحاته هارون” وأمثالهم . يستحقون بحق أن نطلب لهم من الله الرحمة والنور.