كارم يحيى يكتب: د. عبد المنعم سعيد.. أخشى عليك من مصير “ماري أنطوانيت”
عزيزي الدكتور عبد المنعم سعيد..
تحية طيبة وبعد
قبل يوم واحد من هبوط حاد جديد للجنيه المصري أمام الدولار الأمريكي يرعب فقراء مصر وطبقتها الوسطى، تفضلتم ونشرتم مقالا بعنوان ” تحرير رغيف الخبز” على صفحات” المصري اليوم” وموقعها الإلكتروني بعدد 4687 وبتاريخ 20 مارس 2022. وهي الجريدة والمؤسسة التي ترأس مجلس إدارتها منذ سنوات.
وليس عندي مشكلة مطلقا في أنك لا تعيش “عيشة” عموم المصريين، ولا تشعر بمعاناتهم وآلامهم من أجل إسكات البطون الجائعة. ولا أتحدث عن الحق في دولة تؤمن لمواطنيها التعليم والرعاية الصحية وكريم العيش بعد التقاعد، ولا نقول فرص العمل اللائق وبأجر عادل. وهذا على غرار العديد من دول العالم، بما في ذلك التي سبقناها إلى بناء الدولة الحديثة وفي التنمية والحداثة . أبدا أنا لا ألومك في هذا، ولو احتاج الأمر منك لبعض نظر وبصيرة، ولقليل من إعمال العقل.
بل ولا حتي يدهشني أن مقالك هذا اقتفى خطوات الإذاعي المرتفع الصوت المنفلت الانفعالات وكأنه يخاطب مجموعة من ” الطرش” أو ” المتخلفين عقليا”. لا يدهشني حقا أنك ذهبت الى مطالبة المصريين بأن يعودوا القهقرى لـ ” يخبزوا” رغيفهم في بيوتهم. فربما كانت هذه هي “تعليمات السامسونج” ، ومجبر أخاك لابطل، أولأن ” أكل الجاتو عند (لا بوار) لا العيش من صنع منازلهم” في إعلام هذه الأيام “يحب الخفية والخفة”.
ولهذا سأكتفى بالإشارة إلى ثلاثة تناقضات بائسة في مقالك. أولا.. تفضلتم بالكلام عن سنوات ثمان ـ تراها سمانا ونراها عجافا ـ قلتم بأنها ” تقدم الشهادة على أن المصريين يريدون أن يكونوا جزء من عصرهم يستلهمون روح التقدم”. لكنك وفي المقال نفسه تعيدنا إلى ساحق العهود وماقبل الميلاد لتنصح بالعودة بالخبز و”الخبيز” في البيوت والأرياف ، وبوصف الخبز ـ كما ترى ولا ترى العالم كله من حولك ـ مسئولية الأسرة المصرية ليس إلا.
وثانيا .. أدعيتم على المصريين ” الغلابة المقهورين المنهوبين” من حكم وطبقة لا يرحمان بأنه شعب يعيش على “الاستثناء” في دعم الخبز وتثبيت سعره. وسبحان الله في رجل جاب ويجوب العالم في سفريات ومهام من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب.فهل تسمح لرجل قليل الأسفار محدود الإطلاع إذا ما قورن بحضرتك أن يخبرك ما تعلم بأن دولة كتونس مازالت توفر لمواطنيها ومنذ عقد التسعينيات الخبز بالسعر المدعوم ذاته. وهو خبز ” الباجات” من الدقيق الأبيض الفاخر الشائع الاستهلاك، و الذي يعادل وزنا وحجما أربع مرات الرغيف ” البلدي السياحي ” الأكثر شيوعا في مصر. وللعلم ولعلك تعلم وأعلم فإن الدينار التونسي واليوم بعد انخفاض الجنيه المصري أمامه يشترى نحو 5,3 أرغفة ” باجات”، فيما يمكنه أن تتبضع به بعد تحويله الى العملة المصرية 3,6 أرغفة ” بلدي سياحي” فقط، من تلك المفروضة على عشرات الملايين بدون بطاقات تموين. وللعلم والتنويه ليس إلا فقد ألمحت في مقالك هذا ورحبت وبررت التعويم الجديد للجنيه المصري. أم أنها محض صدفة؟.. ربما.
.. أما ثالثا.. تفضل مقالك وتحدث بإسهاب عن رحلة الرغيف قبل الستينيات التي تبدأ من الحقول في الريف. لكنك ـ وللأسف وكما هو حالك ومعك لجنة السياسات والأجهزة إياها قبل ثورة يناير 2011 ـ لا تجرؤ وإلى اليوم لتتبرع بكلمة نقد أو لوم واحدة تجاه من تسببوا ومازالوا في حرمان المصريين من الأمن الغذائي والاكتفاء الذاتي من القمح والذرة . وهو ما يراه علماء محترمون في هذا الوطن جريمة الجرائم و تستحق المساءلة والمحاكمة. وللأسف ها أنت لا يمكنك الإشارة ـ ولو بكلمة خرساء ـ إلى من زرعوا طرقا وكبارى وعاصمة جديدة ومساجد وكنائس عملاقة ومعها الكثير من القصور والسجون والسيارات الفارهة بلا طائل ومن غير أولويات أو رشادة، وفي انحياز ضد أغلبية هذا الشعب المنكوب بأصاحب القرار المتسلط ومنافقيهم. وهذا بدلا من أن يزرعوا القمح والذرة والشعير من أجل رغيف العيش. للأسف حقا إننا شعب منكوب ليس في حكامه فقط، بل وأيضا في كل من يبرر كل هذا الظلم وهذه المظالم ، حتى ولو حملوا شهادات الدكتوراه من الخارج، وتحصلوا عليها بأموال مقتطعه من خبزه ولحمه .
ولا أكتمك سرا إنني عندما قرأت مقالك ” تحرير رغيف الخبز” ألحت علي سلسلة مقالاتك في ” الأهرام ” بين مايو ويونيو 2011 عن دروس فشل من اسموا نفسهم بإصلاحيي الحزب الحاكم ، وبعدما “غادروك” رئاسة إدارة المؤسسة القومية توقيا لغضب القراء والصحفيين . وهذا بوصف حضرتك ـ وسامحني ـ من “تركة الوريث جمال مبارك “. ولقد وجدتني مضطرا لتجشم عناء البحث عنها ومراجعتها. ولقد تبينت أنه حينها واتتك بعض صراحة، فكتبت ونشرت عن ” فشلك الشخصي”، وبالنص هكذا منتقدا التعايش مع نظام سياسي ظل عاجزا عن استيعاب التغييرات الجارية في مصر والعالم .
كما كتبت ونشرت عن ” العجز الكبير عن مراجعة التجارب السابقة والبناء عليها والنزعة الكبيرة للبدء من جديد.. مع الفشل في قراءة المتغيرات التي تقود إلى الثورة.. والبداية كل مرة من جديد ” . كما كتبت ونشرت قائلا بأنك شخصيا كانت المعلومات أمامك متوافرة، لكن التفسير كان خاطئا. وأيضا كتبت ونشرت معترفا بأن 25 يناير كانت ثورة الطبقة الوسطى بإمتياز. لكنك ـ ولو رجعنا إلى مقالاتك قبل الثورة ـ لم تر وحتى ومصر على أعتابها إلا مؤشرات كمية تافهة وسطحية عن إتساع هذه الطبقة في عهد الطاغية “مبارك”، وتمتعها بالمزيد من السيارات ذات الماركات العالمية. بل إنك استخدمت في واحد من سلسلة مقالات ” الفشل” هذه تعبير ” العمي السياسي “، لتصف حال أعضاء لجنة السياسيات وأنت منهم ـ عن رؤية قوى المعارضة الشابة التي كانت تتجمع في المجتمع قبل الثورة.
ولعلني أنعش ذاكرتك التي ربما تسهو وتنسى من كثرة ما تكتب وتنشر. فقد قلت في أول مقال من هذه السلسلة وتحت عنوان :” لماذا فشلنا؟” أن نسبة الفقر في مصر مع نهاية عهد “مبارك” تحسنت إلى 17 في المائة فقط. ومع هذا اعترفت حينها وعلى بعد أسابيع بعد الثورة بأنك كنت لاترى جيدا. واليوم هل سألت نفسك: وماذا بعدما ارتفعت نسبة الفقر بعد ثمان سنوات ـ تراها سمانا ونراها عجافا ـ وبالأرقام الرسمية للحكومة إلى نحو 30 في المائة؟.
حسنا .. سأقول ـ وسامحني في الصراحة ـ فلم يعد عندي تفسير إلا أنك رجل يفكر ويكتب بمصالحه الشخصية ولها ولمن حوله من “ذوات” ليس إلا. وهذا حقك، وربما وفاء دين لهم.
لكن يظل أمرك عجيب يا دكتور عبد المنعم. وهذا لأنني أظن أن مشكلتك الأساسية هي مع نفسك وليس مع أمثال العبد لله . فأنت ـ ومن هم مثلك ـ تزعم بأنك “ليبرالي” فيما أنت شديد السلطوية ومبايع محترف لايتوب للشمولية والإستبداد. وتزعم بأنك ” إصلاحي” وأنت مع الجمود .. وأنك ” إستراتيجي ” فيما لا ترى إلا ما تحت الأقدام . وها أنت قلت وأفضت في القول واعترفت ولو على استحياء وبمراوغة بـ ” الفشل ” في عهد مبارك وولده. ولكنك تعود اليوم إلى نفس الأخطاء والخطايا. بل وتستهين بحق الناس في لقمة عيش تسكت جوعهم، وفي ظل تدهور غير مسبوق في مستوى معيشة الفقراء وغالبية أبناء الطبقة الوسطى.
والحق أقول.. آسف أن أكتب لك اليوم على الملأ تحت عنوان :” أخشى عليك من مصير ماري أنطوانيت “. آسف فعلا وبشكل شخصي. وهذا لأنك تعرفني منذ منتصف الثمانينيات، فلم أكن يوما من دعاة العنف أو الانتقام . وأظنك تتذكر أنني حتى في لحظة عسيرة عليك مع خلع دكتاتور حضرتك الفاسد “مبارك” ووريثه قائدكم ” جمال” أنقذتك من غضب زملاء في “الأهرام” طالما نافقوا أو صمتوا. وطالبتك وفقط حينها ” أن ترحل بهدوء”. وكان هذا بالضبط مساء يوم الخميس 10 فبراير 2011 بقاعة “محمد حسنين هيكل ” في ا لطابق الثاني من مبنى ” الأهرام” القديم. وهذا مع إنني كنت قد نصحتك من موقع الزميل العزيز الذي كان والأصغر سنا منكم: ” أن أستقل من الحزب الوطني”، وفي رسالة / مقال من صحفي بـ”الأهرام” إلى رئيس مجلس إدارتها. وهي رسالة تحفظها أرشيفات موقع “البديل” الإلكتروني، وصفحات جريدة ” العربي” الناصري بتاريخ 2 و12 ديسمبر 2010. وهذا قبل قيام ثورة الشعب المصري، والتي يقنيا لم تكن تتوقعها أو تأملها أبدا.
.. لا أزعم عن نفسي لا سمح الله إنني من فصيلة “زرقاء اليمامة”. لكنني أخشى عليك من نفسك. وهذا من موقع الإنسان والزميل العزيز، و الذي كان من أيام صفحة “الحوار القومي” و”طليعة الثمانينيات” للراحل الأستاذ “لطفي الخولي” .. وأخشى عليك فعلا من مصير “ماري أنطوانيت” .. لا قدر الله.
والسلام ختام
القاهرة في 22 مارس 2022
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) فكرت في إرسال هذا المقال بوصفه ردا على مقالك عملا بالتقاليد المهنية في النشر بذات الصحيفة أو الوسيلة الإعلامية . لكنني تراجعت وعاد إلى ” شاهد العقل ” كما يقول الأشقاء التونسيون. فمن بإمكانه أن يأمل في تقاليد مهنة أو حقوق زمالة أو تعدد آراء مع هكذا ” ليبراليين إصلاحيين إستراتيجيين جدا”.