كارم يحيى يكتب: درس أستاذتنا “عواطف” للصحفيين.. مع إلحاحها في النشر ببريد القراء
نشرت أستاذتي وأستاذتنا في تاريخ الصحافة ومناهج بحثها مقالا في “بريد الأهرام” يوم الثلاثاء 4 أبريل 2022 تحت عنوان ” متحف لتراث الراحلين”. نشرت ونبهتنا إلى النشر على صفحتها في ” الفيس بوك “. وفي هذا النشر والتنبيه معان كبيرة لو تعلمون.
ودعوة الدكتورة عواطف للاهتمام بالمقتنيات الثقافية والفنية للراحلين بما في ذلك غير النجوم المشاهير مع الاسراع بجمعها من باعة “الروبابيكا” تستحق في حد ذاتها لفت الانتباه . لكنني هنا سأقتصر على شأن آخر. اقصد اختيار وفعل الكتابة إلى ” بريد القراء”.
هنا ما اظنه الدرس والقيمة الأكبر في إعادة الاعتبار والتقدير للقارئ. ولو كان الأمر باليد لاهتمت الصحف بمايرسل ويكتب إليها ووضعته في مكان بارز يليق بصاحب المقام الرفيع الأحق ” القارئ”. وبوصفه وجهة وهدف الجرائد ووسائل الإعلام والتواصل، ولنوهت عنه في صفحاتها الأولى وفي صدر موقعها وأهم مساحاتها .
ولكن وللأسف القارئ مهان مقموع في صحافة هذا الزمان، وبخاصة صحافتنا المصرية والعربية. يخطئون في حقه وينشرون المعلومات غير الصحيحة. ويأبى غرورهم أن يعتذروا ويصححوا . بل والأنكى أنهم يتعمدون الكذب مرة تلو أخرى وقد أماتوا الضمير. يحاولون أن يفرضوا عليه أولوياتهم ومصالحهم الخاصة في نفاق وتعظيم وإجلال هذا وذاك، وفي الانسحاق أمام كل سلطة. وهذا بدلا من نقدها وتقويمها وردها عن أخطائها. وبدلا من يكرموا صاحب ” الفخامة القارئ” فيعلمون في خدمته، ينحازن إلى ” أصحاب الفخامات” ملوكا وأمراء ورؤساء جمهوريات إلى رؤساء الأحياء من أهل الدولة والسلطة . ويكتبون فيعوضون بالتعالي على القارئ والناس انسحاقهم المهين كخدم في البلاط نظير كراسي يظنوها عالية فوق حطام الصحف والصحافة.
يحجز أهل الكتابة للسلطة ومن عطانة وعطالة أحذيتها وخلف خطوطها لأنفسهم أماكن يظنونها مميزة. يطلون بذواتهم على ساحات الفراغ التي هجرها ما تبقى من قراء وجمهور. يزعقون في الخواء، ينعقون في الخراب. يغمضون أعينهم ويضغطون على أسنانهم من شدة ما يتوهمون بأنهم متحدثون باسم الدولة وباسم البلد كلها، وقد اختصروها في الحاكم/ الفرعون مطلق الصلاحيات والسلطات. ودائما لا يعون أن اللحظة وإن طالت فإلى زوال. وفي هذا المشهد من عيون مغلقه وأسنان مضغوطة وصراخ في جماهير متوهمة بمثابة الخلاء يستدعون إلى الأذهان أفلام الدعاية للنازي والفاشي و كلماتهم الحماسية في الكذب والدمار.
يضحكني ولا يبكيني أيضا. هؤلاء الخبراء ” الاستراتيجيين” وغير الاستراتيجين الذين يكتبون هنا وهناك. وتستضيفهم الفضائيات الأجنبية قبل المحلية بإدعاء العلم والرأي، وكـ “ناطقين”رسميين غير معلنين للسلطة / الدولة/ الوطن. لكن سرعان ما يكتشف الجمهور أنهم محض فقاعات يطلقها من مقره ومخبئه في الظلام “حضرة الظابط العليم البصير “. يبدأون حديثهم بعبارات من قبيل : “مصر ترى”. وكأن النظام والسلطة وبالتحديد “حضرة الظابط” هو مصر التي ترى ما لانرى. وكأنهم يخبئون في جيوبهم المنتخفة توكيلا بالتصريح باسم البلد ومن فيها ومن فوقها، وتحت ثراها.
تنشر أستاذتنا الدكتورة “عواطف” بإصرار في بريد “الأهرام” منذ عقد الثمانينات بامضاء صغير في الأسفل وبلا صورة شخصية، فتخجلهم وتخجلنا معهم. وينشر بالصور والتوقيعات المنتفخة حد ملامسة ” الفرقعة” تلامذتها وتلامذة تلامذتها ومن لم ينالهم الحظ من التلمذة في محراب علمها وتعليمها للأخلاق المهنية والإنسانية. ينشرون وقد أصابتهم لوثة كتابة الرأي مع الصورة. هناك في الأعالي مع النظرات المتعالمات. ولا مانع من الحرص على إظهار اليد والأصابع فوق الوجه في أوضاع تتباهى بالحكمة والعظمة.
لكن الدكتورة “عواطف” تنشر، فيثير ما تكتب قضايا مهمة حقيقية وبصدق في صالح المواطن والوطن. وكأنها هنا تنبهنا إلى فساد لعبة النشر بأبناط الأسماء وبمساحات الصور المتوحشة. وقد فحش توحشها أمام القراء فأصبهم الإعياء. وهذا إن وجدوا.
وهنا أتذكر أن أول من تولى رئاسة مجلس إدارة الأهرام وتحريره بعد ثورة يناير 2011 ( الأستاذ الراحل لبيب السباعي رحمه الله والأستاذ عبد العظيم حماد) تجاوبا مع انتقادات على احتلال مقالات أصحاب هذين المنصبين القياديين واستهلاكها مساحات من الصفحة الأولى للجريدة وعلى حساب الخبر والصورة الصحفية فأعلنا في أول إطلاله وتفاعل لهما بحكم منصبيهما التزامهما بنشر مقالاتهما في الداخل. وقد التزما بهذه الفضيلة المنطقية البديهية إلا من إشارة في الصفحة الأولى . لكن أعاد من تلاهما ” ريما لعادتها القديمة”. و هذا قبل أن تجف دماء الشهداء في الميادين والشوارع. وقبل أن يخفت تماما نداء الثوار بالمطالبة بصحافة حرة، ومعهم نفر من الصحفيين بصحافة حرة مهنية. ألتزما خلال عهد لم يدم لأكثر من أشهر معدودة خلال عام 2011. وهذا يحسب على أي حال لهما .
ليست أمامي دراسة علمية بتطور ظهور صور الكتاب الصحفيين وغير الصحفيين في صحافتنا المصرية وتوحشها . لكنني أفترض فرضا يحتاج بالطبع إلى مزيد مراجعة ودراسة لأعداد الصحف. أفترض أن هذه الظاهرة جاءت مع سنوات الثمانينيات، وهي تحمل معها شبهات أنانية ونرجسية وإدعاء تميز فرداني.
من قبل ربما كان من الصعب أن تجد صورة شخصية لكاتب أو صحفي مع مقاله، و حتى ولو كان للأساتذة محمد حسنين هيكل و مصطفى وعلى أمين وجلال الدين الحمامصي وغيرهم من أعلام المهنة. فقط ربما أطلت هكذا صور إطلالات نادرة مع رسائل بتحقيقات ميدانية من أرض معركة أو حرب في الخارج أو ما أشبه. وربما كمكافأة استثنائية لمخاطرة الصحفي بحياته من أجل المهنة وحق القارئ في أن يعرف.
والحقيقة أن ظواهر الصور الشخصية مع مقالات الرأي والأعمدة مع التوجه لتوحش أحجام أبناط وخطوط كتابة أسماء أصحابها لفتت نظري أثناء كتابة دراسات كتاب ” حرية على الهامش : في نقد أحوال الصحافة المصرية” وتحديدا في دراسة / فصل بعنوان:”الطيعون المطيعون : في إنتقاء الصحفي وترويضه” وقبل نحو عشرين عاما. وكتبت على هذا النحو :” يزحف التدهور المهني في ظواهر أخري مستجدة علي صفحات الصحف ، كالمبالغة في تضخيم التوقيع بأسماء القيادات الصحفية ، وعلي نحو غير مسبوق في تاريخ الصحافة المصرية وغير مألوف في الصحافة العربية والعالمية . وكأن تضخيم هذه الأسماء كفيل بالتغطية علي تفاهة المضمون ورداءة الصنعة. وتماما مثلما يؤجج الالتحاق و الترويض في مجتمع الاستثناء وسطوة الأبوية ما نراه من النوازع الفردية الأنانية لدي بقية المحررين سعيا وراء فرص نشر و بنط أكبر للتوقيع ، و لو علي حساب المهنة والزملاء. ومن المنطقي أن تحل هذه الفردية الأنانية المظهرية محل ما كان مفترضا من استقلالية الصحفي وسعيه للتفرد والإبداع في اختيار موضوعاته ومعالجتها . بل قد يحاول بعض الصحفيين مداواة اغترابهم عبثا بمطاردة شهرة مزيفة ، لاهثين وراء تكرار نشر أسمائهم وصورهم والمبالغة في تضخيمها ، ومتوهمين أن مثل هذه المظاهر بامكانها تعويض ذواتهم الجريحة و المهدرة ، بعدما عز التحقق الفعلي ، و كابدوا دون علاج آلام التواطؤ مع علاقات عمل استبدادية دفعتهم للقبول بالاعتداء علي حقوق الذات والآخرين .
كما واصلت على هذا النحو :” و يعزز التدهور في الأداء المهني عامة افتقاد سياسات تحرير محل نقاش وتطوير ، و كذا غياب مجالس التحرير ، أو وجودها وجودا صوريا و بدون فعالية. وهذا هو الوجه الآخر للسلطات المطلقة التي تقبض عليها القيادات شبه الإقطاعية والأبوية (البطر كية) في صحفنا ، والنتيجة المنطقية لعقود متوالية من صناعة الصحفيين المطيعين الطيعين” .
كما أضفت في الهامش هذا التوكيد :” يحار القارئ الفطن عندما يقارن بين (الأبناط) التي كان يوقع بها كبار الصحفيين المصريين حتى عقد السبعينيات ـ بما في ذلك هيكل ومصطفي وعلي أمين وبهاء الدين وغيرهم ـ وبين (ألابناط) المنتفخة حتى التوحش والسوقية التي باتت تظهر بها أسماء قيادات الصحف المصرية في العقود التالية”.
ولقد راجعت عددا من المواقع الإلكترونية لصحف عالمية معتبرة صباح اليوم، فوجدت أن منها من يحافظ على تقاليد صارمة بألا ينشر صور كتاب الرأي. وهذا ماهو قائم الآن في عام 2022 مع ” لوموند ” الفرنسية على سبيل المثال. لكن العديد منها ينشر هذه الصور بطريقة تخلو من المبالغات وفرض السطوة المعنوية ” بالعضلات”، كما ” الجارديان” و” الإندبندنت” البريطانيتان و “الواشطن بوست” و” النيويورك تايمز” و ” الوال ستريت” وغيرها.
وربما من المفيد هنا أن استدعى مثالا من الصحافة المصرية ذاتها على الرغم مما يبدو من “طهوريته” و”تطرفه”. فقد أخبرني الأستاذ “لطفي الخولي” رحمه الله عن تجربته في تأسيس ورئاسة صفحة ” الرأي ” بالأهرام في النصف الأول من الستينيات. وأدهشني عندما علمت منه بأنع عمد إلى تقليد حجب أسماء كتاب المقالات خلال عملية الإجازة والإعداد للنشر . وهذا رغبة منه ومن القائمين على الصفحة من الزملاء الصحفيين في مزيد النزاهة والتجرد والموضوعية في التعامل مع النصوص . ولكي يصبح النص هو أولا قبل كاتبه.
وقبل ساعات عندما طالعت مقال أستاذتي في بريد “الأهرام” بلا صور وبتوقيع صغير متواضع بعد نهاية آخر سطر وكلمة وكأنه درس لإعلاء ما هو موضوعي ويخص القارئ على ماهو ذاتي وشخصي يتعلق بأوهام الكاتب عن نفسه، وجدتني استفهم بيني وبين نفسي : أليس ما قمت بتدوينه في هذا الكتاب على هذا النحو ثمرة من ثمار ما غرسته فينا الدكتورة عواطف ؟.
و لأستاذتي وأستاذتنا درسات علمية في تحليل بريد القراء. فهل أهتم بها السادة أصحاب الصور والتوقيعات إياها الممسكون برقاب صحافتنا، وهم يعدون عليها أنفاسها ورقية رحمها الله، أو إلكترونية موأودة بالحجب، أو ظاهرة سابحة في الفراغ بكثرة النفاق وسذاجته .
اليوم فقط أعلم من الدكتورة “عواطف” بأن الراحل الصحفي المحترم الأستاذ “عبد الوهاب مطاوع” رحمه الله هو الذي بادر بأن طلب منها ـ وهي أكاديمية وكاتبة مرموقة أن تكتب لـ” بريد الأهرام”. وهذا فور توليه مسئولية “بريد الأهرام” في عقد الثمانينات وبهدف إثراء هذا البريد باسهاماتها. والمعروف أن لأستاذتنا اسهامات مهمة على صفحات “الأهرام” والسياسة الدولية تحليلات مقالات ودراسات وبخاصة عن أفريقيا في عقدي الستينيات والسبعينيات. ولقد علمت بما دار بين أستاذتنا والأستاذ “مطاوع” للتو بعد إتصالي بها هاتفيا مقدرا أن تواصل الكتابة في بريد القراء بإصرار وبعد عمر من اسهاماتها المقدرة المتميزة في الكتابة الصحفية والبحثية والمذكرات والعديد من الكتب الجادة النافعة يساوى طول سني التي تجاوزت الستين.
وهكذا تعلمنا أستاذتنا الدكتورة ” عواطف” مع كل مرة تعود لتنشر في “بريد القراء بالأهرام” ـ وعلى الرغم مما أصاب الأهرام من تباعد مع القراء ـ الدرس الأهم وهو أن : الأولوية للقارئ والجمهور .. ولا هامة ولاسلطة تعلوهم .
فهل يعي و يدرك السادة الزملاء الصحفيين المسئولين عن النشر في أيامنا هذه، فيعتنون بما يكتب القراء والجمهور أولا. ولا يحجبون آراءهم مهما اختلفت وتباينت معهم أو مع أي سلطة. وهل يمنحون هذه الكتابات الأهم المساحة والمكانة اللائقة بهذه الأهمية. وأظن لو كان الأمر بيدي لعملت على نشر آراء القراء في أبرز مكان بالصحف والمواقع الإلكترونية ومعها صورهم هم كلما تيسر، وأمتنعت عن نشر صور الكتاب من صحفيين وخبراء وأصحاب رأي محترفين، إلا ماهو يستحق بالفعل، واستنادا إلى الموضوع لا الشخص . وبالطبع لست مع ” فرمان قراقوشي” بمنع نشر الصور الشخصية مع مقالات الرأي. فالأمر حقا سيكون مضحكا كطرفة حظر الحاكم بأمره ـ وليس بأمر الله ـ الفاطمي ” الملوخية”. لكنني ـ وأظن غيري ـ أنادي بحاجتنا وحاجة كل من يحترف الكتابة إلى التواضع .. فقليل من التواضع قد يصلح واقعنا البائس ويقربنا إلى الصدق والموضوعية والقارئ.
ولا أخفيكم سرا أن الأمر لو كان بيدي لمنعت نشر صورتي الشخصية مع ما أكتب من رأي. وكم طالبت وألححت على سلطات النشر هنا وهناك في هذا. لكن لا مجيب . وكأن أفضل القيادات الصحفية الممسكة بسلطات النشر عندنا قد أصبحت بدورها أسرى ” عادة” لا أراها حميدة.
وحقا .. أستاذتي وأستاذتنا الدكتورة “عواطف عبد الرحمن” تعلمنا الدرس من جديد . فلعل وعسى .
لكن هل هناك حياء لمن تنادى.