عمر عسر يكتب: حتى لا تطير العصافير
في عام 1958 دعا الزعيم الصيني ماو تسي تونج إلى ما أسماه “القفزة العظيمة إلى الأمام” وطالب “شعبه” بالمزيد من العمل تحت شعار “المزيد/ بشكل أسرع” ولأن ماو كان يرى نفسه “زعيماً بقدرات إله” فقد حدد من ضمن أهداف الحملة القضاء على الآفات الأربع “البعوض، الذباب، الجرذان، العصافير” .
انطلق “مواطنو الزعيم الملهم” في الحقول يستخدمون المقاليع وغيرها لقتل العصافير بالتزامن مع تسلق الأطفال للأشجار وتدمير الأعشاش، لسوء الحظ نجحت الحملة وتم القضاء على العصافير التي رأى “ماو الملهم” أنها تلتهم الحبوب فتحرم الشعب من موارده الغذائية.
ولأن الشعوب خُلقت لتدفع أثمان أوهام الزعماء الملهمين أدى نجاح الحملة وغياب العصافير إلى فتك الآفات الحشرية بالمحاصيل ونقص حاد في إنتاج الحبوب تسبب فى مجاعة أودت بحياة 45 مليون شخص، أضيف الرقم إلى سجل “ضحايا الأوهام” وكان تفوق ماو كاسحاً فعدد ضحايا “قفزته إلى المجهول” فاق العدد الذي سجله ستالين أو هتلر.
هل كان حتمياً أن يدفع هولاء ثمن أوهام “زعيمهم”؟
هل كان يمكن تفادي المجاعة لو تمت دراسة القرار بشكل وافٍ؟
هل كان الزعيم الملهم يدرك خطورة العبث بالتوازن الطبيعي؟
لم يكن أحد في الصين يجرؤ على طرح سؤال واحد، فالزعيم “معصوم ورؤيوي” كما أنه “عصبي بعض الشئ” وإزعاجه يؤدي غالباً إلى تصفية المزعج، وبالطبع كان السؤال حول محاسبة ماو خطيئة لا توبة منها ولا أمل بالنجاة من عقوبتها.
في كتاب “المكتبة الجهنمية.. في أدبيات الدكتاتورية” (ترجمة مأمون الزائدي- دار نينوى – سوريا – 2021 ) يأخذنا الكاتب الأمريكي دانيال كالدر في رحلة مفزعة داخل عقليات عدد من أبرز الدكتاتوريين من فئة: “لينين، ستالين، ماو، موسوليني، هتلر، صدام حسين” وغيرهم عبر تحليل كتاباتهم (إبداعية، تنظيرية، سيرة ذاتية).
نكتشف خلال الرحلة سمات الأنظمة التي يؤسسها “الزعماء الملهمون” ونطالع تشوش المفاهيم واختلاط الأفكار والقصور الذي أصاب عقولهم دون رجاءٍ في تعافٍ أو أملٍ في شفاء، ونفهم كيف انحرف هؤلاء الواهمون ليجعلوا أوطانهم “خرابات بؤس” برغم زعمهم أنهم يعملون لتكون “فراديس علي الأرض”.
بعد زوال صدمة اكتشاف دواخل نفسيات هؤلاء “الملهمين” تستطيع دون جهد تحديد السمات العامة للديكتاتوريات التي أقامها “الملهمون” فيما يلي:
– تزييف الوعي بالحاضر عبر إغراق المواطنين في فيض دعائي حول “إنجازات البناء الجديد” والوطن الذي “يتقدم لاتخاذ موقعه التاريخي، إلى جانب تزييف التاريخ لتصير المؤسسة التي ينتمي إليها الزعيم ( الحزب، المليشيا، إلخ) هي منقذ الوطن وبالتدريج يجري تضخيم دور “الزعيم” الفردي ليصير وحده الوطن تاريخا وحاضرا ومستقبلا.
– إخلاص “الزعيم” للوطن فكراً وعملاً يعني أن أي صوتٍ آخر هو تشويش على مسيرة الوطن.. فليصمت الجميع ليأخذ “الملهم” الفرصة في تطبيق رؤاه وتنفيذ مشروعاته.
– “الزعيم” لا يأتيه الخطأ من بين يديه ولا من خلفه وأي إخفاق هو نتيجة “تآمر الخارج” أو “خيانة من الداخل”.
– الشعب يجب عليه التوافق مع المرحلة فالزعيم ليس لديه وقتٌ ولا طاقة لإقناع كل مواطن منفرداً، ومن واجب الشعب الإبلاغ عن “أهل الشر” الكارهين للزعيم ومن ثم للوطن.
– جسامة التحديات تفرض على الجميع ” الاصطفاف” وراء الزعيم وتنحية آرائهم التي لا قيمة لها أمام خبرات الزعيم ورؤاه. وليكن الصمت وانتظار اكتمال “إنجازات الملهم” الفضليتين الأولى بالاتباع.. “اصمتوا تنجوا”.
وما يثير الاستغراب أن جميع الدكتاتوريين لم يخطر ببالهم سؤال حول خطورة الصمت الذي يتعبون أنفسهم وأجهزتهم ( الأمنية، الدعائية)، لفرضه فيستمر حتى تقع الكارثة.. هزيمة في الحرب (هتلر، موسوليني) ثورة شعبية (بينوشيه، تشاوشيسكو) تفكك الدولة نتيجة تراكم المشاكل (الاتحاد السوفيتي، يوغسلافيا).
قتل ماو تسي تونج العصافير حتى يمنع إهدار الحبوب فقتلت المجاعة الناجمة عن الآفات الزراعية 45 مليون إنسان، وهذا ما يحدث للأنظمة التي تُصر على إسكات العصافير المغردة خارج الدعايات، فتظل آفات الفساد وتراكم الأخطاء (تخطيطية، تنفيذية، إدارية) والخروج على القانون تلتهم جسد الوطن حتي يكون السقوط (سقوط النظام أو انهيار الدولة) وللأسف يتوهم كل نظام من هذه الفئة أن القاعدة التي تسري على غيره لا تسري عليه.
تتصدر وسائط التواصل الاجتماعي في مصر منذ أيام منشورات وتعليقات حول موضوعين: “اتهام فتاة مصرية بسرقة أعمال فنان روسي” و”هروب لاعب يمثل مصر في بطولة خارج الحدود إلى أوروبا” ظاهرياً يبدو الموضوعان غير مترابطين لكن الارتباط بينهما ينكشف عندما تعلم أن الأولى حصلت على تكريم رسمي وعقود بمبالغ يقول رواد “التواصل الاجتماعي” إنها بالملايين، وترد الفتاة أنها بعشرات الآلاف فقط، في حين أن أسباب هروب اللاعب تتمحور حول سوء حالته المادية الذي بلغ أن يستعير أحذية التدريب من زملائه.
في حالة الفتاة المتهمة بالسرقة، لم يتبرع أي مسئول رسمي ويوضح للـ”الشعب” أسباب تكريمها وعلى أي أساس تم إسناد العقود إليها وقيمة هذه العقود وما الإجراء الذي تم بعد إزالة أعمالها من على جدران محطة المترو، كل هذه الأسئلة من واجب الحكومة الرد عليها فالتكريم باسم الدولة التي تستمد شرعيتها من الشعب، والأموال التي حصلت عليها الفتاة هي أموال الشعب التي يجب تحديد كيف تم إنفاقها وكيف تم التعامل مع من حصل عليها دون وجه حق مقابل اعمال يُشتبه في سرقتها وتمت إزالتها.
وفي حالة اللاعب الهارب لم يكلف أحد خاطره بتوضيح كيف أضطر اللاعب إلى الهرب -خاصة أن حالته ليست الأولى- ولماذا لم تتم مواجهة أسباب هروب هؤلاء اللاعبين الذين حققوا بطولات محلية ودولية طالما كان الأمر مرتبطاً بعدم مكافأتهم بشكل يتناسب مع نجاحاتهم.
صمت الإعلام والمجالس النيابية عن طرح الأسئلة المتعلقة بعقود الفتاة المتهمة بالسرقة وهروب اللاعب غير مبرر، فعقود تجميل مترو الأنفاق ليست من الأسرار العليا للدولة ورعاية النشاط والاستثمار الرياضي ليست محظورة على النقاش العام.
وعلى العكس شهدت وسائط التواصل الاجتماعي نقاشاتٍ محمومةً واتهاماتٍ لا حصر لها للنظام وسيلاً من الأسئلة التي تظل معلقة بلا إجابة، فيبدو أن سيطرة النظام على الإعلام الاحترافي التقليدي هيأت له أن صمت هذا الإعلام يعني النجاح في إسكات العصافير التي تغرد خارج السرب وإغلاق المجال العام.. هذا النجاح لو يعلمون نذيرُ شؤمٍ ومبتدأُ كوارث.
إغلاق المجال العام لا يقابل بالتسليم بالأمر الواقع، إنما يفتح الباب لصنع مجالات موازية.. هذه المجالات الموازية تتجذر مع الوقت وتجد لها قواعد شعبية، يشكلها أول الأمر أصحاب الخبرات الذين تم استبعادهم ومع الوقت تضم الغوغائيين والمراهقين الثوريين لتتحول من خطر على النظام إلى خطر على الوطن، ولعلنا لا ننسى أن أمثال (ستالين، هتلر، موسوليني…) بدأوا نشاطهم بتنظيمات سرية أو هامشية سرعان ما توسعت لتستولي على السلطة وتقود شعوبها إلى الهاوية.
“طنين الصمت” يتعاظم وتتجمعُ الذبذبات الناتجة عنهُ مع الوقتِ فتصيرُ هزاتٍ زلزالية لا يعلم أحد متى تضربُ أو ماذا تهدمُ.