عبد المجيد المهيلمي يكتب: الفقر والفساد
ثمة صلة وثيقة بين الفقر والفساد، فالرابطة بينهما قوية ومتينة تعمل في كلا الاتجاهين: الفقر يستدعي الفساد، والفساد يعمق الفقر، هكذا في حلقة مفرغة يصعب كسرها والفكاك منها. وإذا كان حديث الغالبية العظمى من المصريين منصب هذه الأيام على الارتفاع الشديد في أسعار كافة السلع والخدمات، فضلًا عن نقص المعروض من بعض السلع الضرورية في الأسواق كالأرز وأنواع كثيرة من الأدوية والمستلزمات الطبية مثلًا، ناهيك عن كارثة إعدام الكتاكيت بسبب نقص الأعلاف، والنقص الحاد في متطلبات الإنتاج بالمصانع التي اضطرت بعضها إلى تقليل ساعات العمل وتسريح العمالة أو الأغلاق. فإننا نرى جيوب فئة صغيرة من الناس تتضخم بشكل جنوني، وتعيش حياة بذخ فاحش من حفلات زفاف لعائلات بعض كبار المسؤولين تتكلف ملايين الجنيهات، وفيلات للتصييف (تستخدم بضعة أسابيع فقط في السنة) تكالب عليها بعض الناس، ودفعوا فيها مؤخراً ما يربو من مائة مليون جنيه طبقًا لما أوردته الصحف والمجلات المصرية.
كل ذلك في الوقت الذي تأن فيه الطبقة المتوسطة المصرية من وطأة التضخم، ويزداد فيه بشكل مخيف عدد المصريين الذين يعيشون في عوز مذل وفقر مدقع من جراء سياسات اختلت فيها الأولويات وأهملت فيها التعليم والصحة، وأهدرت فيها مئات المليارات من الجنيهات على مشاريع يطلق عليها رجال الاقتصاد في الغرب، مشاريع “محبوبة مدللة” pet projects تجلب السعادة للمسؤولين ويتمسكون بتنفيذها تمسكًا شديدًا بغض النظر عن جدواها أو صلاحيتها، وعلى مشاريع أخرى قليلة الفائدة معروفة باسم “الأفيال البيضاء” white elephants تكاليفها الرأسمالية كبيرة جدًا، ومصاريف تشغيلها مرتفعة وعوائدها منخفضة، تحقق قليل من الربح، وربما الخسائر. وكلها استثمارات مرهقة لا تتماشى تكلفتها وتكلفة صيانتها وتشغيلها مع فائدتها أو قيمتها. والأمثلة كثيرة ومتنوعة يراها ويسمع عنها المصريون كل يوم وهم يكدون لتلبية احتياجاتهم وتغطية نفقاتهم.
تؤكد كل الدراسات الاقتصادية الجادة التي أجريت على هذا النوع من المشاريع في كافة دول العالم على مدار السنين، أن الفساد يعم ويستشري خلال تنفيذ مثل هذه المشاريع. ونسارع بالقول إن ذلك ليس بالضرورة ما يحدث في مصرنا العزيزة، فلكل قاعدة بالطبع استثناء.
ولنلقى نظرة على مؤشر مدركات الفساد التي تصدره منظمة الشفافية الدولية، وهي مؤسسة مشهود لها بالموضوعية والحيادية التامة، والعمل بكفاءة ومهنية عالية باستخدام أحدث الطرق العلمية. يصنف المؤشر 180 دولة وإقليمًا حسب المستويات المتصورة لفساد القطاع العام فيها على مقياس من صفر (فاسد للغاية) إلى 100 (نزيه للغاية). فالدولة الأكثر نزاهة التي تحتل المركز الأول هي الحاصلة على أعلى الدرجات، أما الدولة الأكثر فسادًا فهيا صاحبه أقل الدرجات وتحتل المركز 180.
وقد تصدر المؤشر في السنوات الماضية الدول الإسكندنافية، وأستراليا ونيوزيلاند، وكندا وبعض الدول الأوروبية، وسنغافورة (التي تستحق تجربتها الدراسة حيث كانت منذ 50 سنة من أكثر البلاد تخلفًا) بدرجات تقترب من 90. بينما جاء في ذيل المؤشر لعدة سنوات الصومال، والسودان جنوبه وشماله، وأفغانستان، وكوريا الشمالية بأقل من 15 درجة. وتراوحت درجات مصر ما بين 32 و37. وجاء ترتيبها كالاتي: 105 (عام 2010)،112 (2011)، 118 (عام 2012)، 114 (عام 2013)، 94 (عام 2014)، 88 (عام 2015)، 108 (عام 2016)، 117 (عام 2017)، 105 (عام 2018)، 106 (عام 2019)، 117 (عام 2020)، 117 (عام 2021).
والجدير بالملاحظة هنا، أن مصر احتلت أفضل مركزين 88 و94 في الفترة التي تولى فيها المستشار هشام جنينة رئاسة الجهاز المركزي للمحاسبات المعين في 6 سبتمبر 2012. وقد تم إعفاءه من منصبه في 28 مارس 2016 قبل إتمامه مدة الأربع سنوات التي ينص عليها الدستور (وتم الاعتداء عليه وضربه بوحشية والتنكيل به فيما بعد، وهو ملقي الآن في السجن بالرغم من مطالبات العفو عنه)، بعد موافقة مجلس النواب على قانون صدر في يوليو 2015 منح رئيس الجمهورية سلطة إقالة رؤساء الهيئات الرقابية المستقلة. وقد نصت المادة 216 من دستور 2014 (لم تعدل في 2019): يصدر بتشكيل كل هيئة مستقلة أو جهاز رقابي قانون، يحدد اختصاصاتها، ونظام عملها، وضمانات استقلالها، والحماية اللازمة لأعضائها، وسائر أوضاعهم الوظيفية، بما يكفل لهم الحياد والاستقلال. يعين رئيس الجمهورية رؤساء تلك الهيئات والأجهزة بعد موافقة مجلس النواب بأغلبية أعضائه لمدة أربع سنوات قابلة للتجديد لمرة واحدة، ولا يُعفى أي منهم من منصبه إلا في الحالات المحددة بالقانون، ويُحظر عليهم ما يُحظر على الوزراء.
كما نصت المادة 218 (ظلت دون تعديل في 2019) على: تلتزم الدولة بمكافحة الفساد، ويحدد القانون الهيئات والأجهزة الرقابية المختصة بذلك. وتلتزم الهيئات والأجهزة الرقابية المختصة بالتنسيق فيما بينها في مكافحة الفساد، وتعزيز قيم النزاهة والشفافية، ضماناً لحسن أداء الوظيفة العامة والحفاظ على المال العام، ووضع ومتابعة تنفيذ الإستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد بالمشاركة مع غيرها من الهيئات والأجهزة المعنية، وذلك على النحو الذي ينظمه القانون.
إن المحافظة على نظام جيد من الزواجر والضوابط، وبالشفافية في التعاملات يضمن الكشف عن الفساد والتصدي له، كما أن إضعاف ذلك النظام يفقد الحكومة الأداء السليم. فالفساد عدو التنمية والحكم الرشيد، يجب على كل من الحكومة والشعب أن يجتمعوا لمحاربته والقضاء عليه.
يقول كارل كراوس الكاتب النمساوي المعروف: “إن الفساد أسوأ من الدعارة. فالدعارة تشكل خطرًا على أخلاق الفرد، أما الفساد فدائمًا ما يعرض أخلاق بلدًا بأكمله للخطر”.
هذا وقد أكدت أيضًا الدراسات الاقتصادية على أن التفاوت الكبير في توزيع الدخل يؤثر بالسالب على النمو الاقتصادي، ويعد أحد المعوقات الأساسية للتنمية المستدامة، ويسهم في عدم الاستقرار الاجتماعي والسياسي.
أن الفقر الموحش والبذخ الفاحش كارثة تطرق الأبواب.
ندعو الله أن ينجينا ويلاتها.