ضحايا لم يصبهم الفيروس: صديقي محمود عامل “الشدة المعدنية” معلَّق على سقف الرزق.. كورونا تضمه لطابور العاطلين
هشتغل أي حاجة تجيب مصدر رزق في البناء في كسر القصب وحصد القمح أهم حاجة الدنيا تمشي لحد ما ربنا يسهلها
محمود هاشم
بينما ينشغل الجميع بالتوعية من أخطار فيروس كورونا، وطرق الوقاية منه، والتحذير من الخروج من المنزل تفاديا لإصابة محتملة به، كان صديقي محمود أحمد مهموما بمعضلة أكثر خطورة بالنسبة له، كيف سيتدبر أمر أسرته ذات الـ6 أفراد، والديه وزوجته وابنه الرضيع، بينما ضمه الفيروس إلى قائمة المتضررين، كأحد ضحايا طابور طويل من العمالة غير المنتظمة.
محمود، خريج كلية الدراسات الإسلامية بجامعة الأزهر في عام 2009، كحال كثير من الشباب، تقدم بعد تخرجه في مسابقة لوزارة الأوقاف لتعيين الأئمة والواعظين، إلا أنه لم يتلق ردا بقبوله أو رفضه، ليقرر الاتجاه للعمل ضمن العمالة غير المنتظمة إلى حين انفراج الوضع،
وفي رحلته ضمن العمالة غير المنتظمة، عمل محمود في عدة مهن منها مساعد نجار، وفني على ماكينة في مصنع للسقف المعلق، وآخرها عمله في الشدة المعدنية لسنوات، متنقلا بين محافظات محافظتي السويس والقاهرة، ليستقر به الحال في أحد الكومباودنات في منطقة المقطم، إلا أن أزمة انتشار الفيروس، دفعته للعودة إلى قريته حجازة في محافظة قنا، قبل يوم من تطبيق تشديد إجراءات حظر التجول.
يقول لـ”درب”: “أعمل اليوم بيومه، لا يوجد لنا تأمين صحي أو أي وسيلة حماية قانونية، إذا أصبت يوما بالمرض، واضطررت للتغيب عن العمل، لن أجد ما آكله، فنحن نحاسب على يوم العمل فقط، ولا يتم تعويضنا عن التغيب لظروف مرضية أو قهرية”.
بعد انتشار كورونا، بات إدارة المشروع تقسم العاملين على دفعتين، فبعدما كان الجميع يبدأ عمله في السابعة صباحا، بات نصفهم فقط يعمل في هذا التوقيت ليتنهي عمله في الرابعة، والنصف الآخر يبدأ من الثامنة صباحا ليستمر عمله حتى الخامسة مساء، على وجوههم الكمامات، وفي يديهم أدوية التطهير والتعقيم، بينما تقاس درجة حرارة كل منهم بشكل دوري، خوفا من انتشار الفيروس في موقع العمل، إلا أن ذلك كله لم يكن يشغله كثيرا بقدر معرفة مصيره من استمرار العمل أو عدمه.
ويضيف: “منذ أزمة كورونا بات مصيري وجميع العمال معي على المحك، قد نفاجأ يوما بصاحب العمل يبلغنا باستغنائه عنا، دون حتى أن يكون لنا حق الاعتراض أو طلب أي تعويض، كل ما سيمكننا فعله حزم أمتعتنا عائدين إلى قرانا، ومحملين بهم التفكير في وسيلة جديدة للإنفاق على أسرنا، التي تنتظرنا عودتنا من الغربة منذ شهور”.
لكن حتى قبل انتشار الفيروس، لم يكن عامل الشدة المعدنية أفضل حالا، فشاب في عمره، لم يبلغ عامه الثالث والثلاثين، مسئول عن الإنفاق على أسرة كاملة، لا يتعدى راتبه 160 جنيها يوميا طوال ساعات عمله، مطلوب منه أن ينفق منها على إيجار شقة يقطنها و5 من زملائه، بجوار موقع العمل، بالإضافة إلى أكله وشربه، وفواتير مياه وكهرباء وغاز، ويرسل ما تبقى منه لأسرته لتدبر حالها به”.
يوميا، يعرض محمود نفسه لخطر الموت فوق السقالات وأسقف الشدة المعدنية، غير مبال بما يحيطه من خطر في سبيل مصدر رزقه، موفرا الأمان لغيره من العاملين في مواقع حمايات على الحفر، ومؤمنا غرف الصرف الصحي وعبوات إطفاء الحريق.
مساء أمس الثلاثاء، أعلن رئيس الوزراء مصطفى مدبولي عن حزمة إجراءات حكومية جديدة للحد من انتشار فيروس كورونا، على رأسها حظر الانتقال أو التحرك على جميع الطرق من الساعة السابعة مساءً وحتى الساعة السادسة صباحًا؛ بدءا من اليوم، ساعتها قرر محمود الحجز في أول قطار للعودة إلى قريته، خوفا من صدور إجراءات أخرى تقيد التحرك بين المحافظات، ما قد يعيقه عن السفر للاطمئنان على أسرته: “قررت أرجع وسط أهلي، طول ما أنا متغرب لا أنا متطمن عليهم ولا هما متطمنين عليا، وإذا كان على الشغل فربنا بيرزق”.
بعد عودته بات تفكيره منصبا على كيفية تدبير حاله، بما تبقى معه من أموال لتغطية مصاريفه وأسرته طوال فترة الحظر، التي لا يعلم متى ستنتهي، مهموما بما ينتظره مع انتهاء آخر قرش في جيبه، بينما لا يستطيع حتى العودة إلى عمله الخطر.
يأمل محمود في تحسن وضعه مؤقتا بتسجيل بياناته بقواعد بيانات مديريات القوى العاملة، لصرف منحة الـ 500 جنيه المعلن عنها لتعويض العمالة غير المنتظمة، متمسكا بأدنى أمل يعينه على تكاليف المعيشة: “لو معرفتش أرجع، هشتغل أي حاجة تجيب مصدر رزق، في البناء، في كسر القصب، وحصد القمح، أهم حاجة الدنيا تمشي لحد ما ربنا يسهلها ويعدي الأزمة دي على خير”.