زياد العليمي يكتب:القواعد المقدسة للمحاكمات الانتقالية (الحلقة الثالثة من سلسلة العدالة الانتقالية)
دأبت الأنظمة الاستبدادية على استخدام تعبير العدالة الانتقالية وتطبيقه بما يضمن عدم المحاسبة، فينتهي الأمر بأن يعاد تطبيق البرنامج مرة أخرى، بعد أن تنكشف الخدعة. وتصبح الخدعة ومن تورط فيها، مطلوبين أمام هيئات العدالة الانتقالية.
ما يحدث في بلادنا الآن هو نفس ما حدث في غيرها بأشكال مختلفة ونفس المضمون، فمن يفترض به متابعة كافة إجراءات العدالة الانتقالية، لا يمكن أن يكون وزيرًا، أو ممثلا لأي جزء من الجهاز التنفيذي للدولة، الذي من المفترض أن تقوم المفوضية بتنظيم عملية محاكمة قادته، وإعادة هيكلته.
مفوضية مستقلة لكسب ثقة المواطنين
يجب الحرص على أن تدير الأمر مؤسسة مستقلة، لها سلطة أعلى من سلطة كل مؤسسات الدولة فيما يتعلق بكشف الحقائق ومتابعة إجراءات إقتضاء الحقوق، وصولًا إلى إعادة هيكلة.
الدول التي نجحت في العبور من بوابة العدالة الانتقالية، كانت تعمل على تشكيل مفوضية مستقلة، تضم قانونيين وحقوقيين، وخبراء أمنيين، وممثلين للضحايا وذويهم. وفي بعض الأحيان، يمكن أن تكون بإشراف مؤسسات دولية مثل الأمم المتحدة، أو جامعة الدول العربية، أو الاتحاد الإفريقي؛ لكسب ثقة المواطنين، والتأكيد على الالتزام بالمعايير الدولية لحقوق الإنسان، وهو أمر يسهل عملية فتح صفحة جديدة مع العالم أيضًا، متضمنًا المساعدة في تمويل عملية إعادة الهيكلة.
تختص المفوضية، بمتابعة وإدارة كافة مكونات عملية العدالة الانتقالية، عبر أربع مهام:
– تحديد الفترة الزمنية التي سيتم البحث والمساءلة عما ارتكب فيها من جرائم.
– تلقي طلبات المواطنين بتشكيل لجان الحقيقة والإشراف عليها ومتابعة أعمالها في كل بقاع الوطن.
– متابعة إجراءات التقاضي، وتشكيل محاكم العدالة الانتقالية. بعد جمع الأدلة والاطمئنان إلى مطابقة عملية المحاكمة للقواعد الدولية للمحاكمات العادلة.
– وأخيرا الوصول إلى المصالحة وإعادة هيكلة مؤسسات الدولة، بالاستفادة مما كشفته لجان الحقيقة، كما سنبين في هذه السلسلة.
المواطنون أعضاء في لجان جمع الأدلة
شاهدنا مئات المحاكمات التي انعقدت في السنوات الخمس الماضية، والبراءات، والإدانات التي تصدر بالتزامن مع أحداث سياسية، وحقوق الآلاف التي تضيع أمام أعينهم بذرائع سياسية وقانونية. نتعلم من هذا المشهد أن جزءً كبيرا من أزمة منظومة العدالة بعد فترات الاستبداد ـ أن المؤسسات التي تقوم بجمع الأدلة على الجرائم المختلفة، هي ذات المؤسسات التي كانت شريكا أساسيا بالتنفيذ، أو بطمس الأدلة على تلك الجرائم. وبالتالي من غير المتصور أن تتولى جمع أدلة على جرائمها، يمكن أن نتوصل بها إلى المجرم الحقيقي، وكافة المعلومات اللازمة، عن كيفية تنفيذ جرائمه، ومن ساعد، ومن شارك، ومن حرض وأصدر الأوامر!
وهنا تأتي أهمية المرحلة الأولى من مراحل العدالة الانتقالية؛ مرحلة المكاشفة، التي يكون الهدف الرئيسي منها: كشف كل ما جرى من جرائم جنائية وسياسية في السابق، وتحديد مراحلها الجنائية المختلفة، ومعرفة من خطط وحرض ودبر وشارك، وحجم مشاركته فيها.
اعتمدت معظم الدول التي نفذت برنامج العدالة الانتقالية على لجان الحقيقة؛ لجمع الاستدلالات والأدلة، وهي لجان يشكلها المتضررون من الجرائم المختلفة، وتفتح أمامها ـ باعتبارها شخصية اعتبارية ـ كافة الأبواب، وتقدم لها كافة التسهيلات التي تمكنها من الحصول على الأدلة المادية الكاملة. ويصرح لها بمعاينة أماكن حدوث الجرائم، والاطلاع على الدفاتر الحكومية، وطلب استجواب الشهود قانونًا، واستخدام كافة السبل الشرعية لإثبات إدعاءاتهم، وتحديد المتهمين فيها، ودور كل منهم.
عندنا، علي سبيل المثال، يمكن أن يشكل المتضررون من جرائم التعذيب لجانًا مختلفة تباشر عملية جمع الأدلة عن كل حالة تعذيب، وتجهيزها لتقديمها كأدلة اتهام. وكذا ذوو الشهداء، والمصابون، والمتضررون من إهمال مؤسسات الدولة المختلفة التي أدت لوقوع جرائم، مثل حوادث القطارات والإهمال الطبي، والأغذية المسرطنة وغيرها.
وخلال تلك الفترة يسمح لمن ارتكب جريمة، بالإعفاء من العقوبة المقررة عليه أو تخفيفها، إذا اعترف بجريمته، بتفاصيلها، والشركاء فيها ودور كل منهم، وكانت جهات التحقيق لم تكن لتعلم بتلك التفاصيل، من دون هذا الاعتراف. وهذا الأمر مقرر فعلًا بمقتضى قانون العقوبات المصري.
وأثناء فترة عمل لجان الحقيقة، يصبح المجتمع بكامله تقريبًا أعضاء في لجان مختلفة، وتتضح رؤية الشعب أكثر عن جرائم العهود الماضية، والمشاركين والمتسببين فيها. ولا شك أن أول خطوات التصالح مع الجرائم التي حدثت، معرفة ما حدث تحديدًا، ومعرفة الإجراءات المتبعة لمعاقبة المسئول، وأولى خطوات الثقة في تلك الإجراءات، السماح للمتضررين بإثبات دعواهم، وتسهيل سبل ذلك.
والحقيقة أن هذا الإجراء القانوني، يصبح فيما بعد أول طرق المجتمع للعلاج مما يطلق عليه كرب الصدمة الجماعية (collective trauma)، الذي يصيب أفراد مجتمعات مرت بظروف إستثنائية نتيجة أحداث مأساوية كبرى، مثل الحروب، والنزاعات الأهلية، والاستعمار، أو الاستبداد. ويعبر الكرب عن نفسه في التباعد الاجتماعي، الذي يؤدي في أحيان كثيرة إلى زيادة الميل للعنف داخل قطاعات المجتمع المختلفة، وعدم القدرة على استيعاب ماحدث ونسيان نتائجه، ويشير المتخصصون إلى أن المصارحة، ومواجهة حقيقة ما حدث، ومعرفة كل أبعاده، تساعد في التخلص من تلك الأعراض، التي قد تكون عوائق كبرى تقف أمام عملية البناء.
المحاكم العرفية مساعدًا مصريا للجان الحقيقة
يجب على كل من يفكر في طريقة لتطبيق برنامج العدالة الانتقالية في بلاده، النظر إلى ظروف تلك البلاد، والظروف المحيطة بمن أرتكب أو أرتكبت ضده جرائم، ووضعه في السابق، وأثناء الفترةالانتقالية، بالإضافة إلى البحث في مكونات مجتمعه عما يمكن أن يساعد في عملية جمع الاستدلالات أو غيرها من العمليات التي تستهدف غلق صفحة الماضي، ووضع قواعد المستقبل.
والحقيقة أن افتقار معظم الضحايا إلى الخبرة القانونية، يزيد من صعوبة إثبات الجرائم، وكذا حدة شعورهم بالظلم. ومن ثم فالسبيل الأفضل، أن تلجأ اللجان إلى خبراء قانونيين وأمنيين، طلبا للمساعدة، وتصبح هذه المساعدة صعبة، بل تكاد تكون مستحيلة، مع زيادة عدد الجرائم التي تمت في السابق، ومن ثم زيادة عدد اللجان.
وإذا نظرنا للواقع المصري، سنجد أن معظم القرى المصرية بها لجان لفض المنازعات، أو المحاكم العرفية. وهي لجان تشبه في عملها ما يقوم به برنامج العدالة الانتقالية، فهي تستمع إلى الطرفين، وتقابل عائلاتهم وذويهم، وتناقش الفعل بكل تفاصيله وجوانبه المختلفة. وأثناء تلك الإجراءات، يقابل المجلس العرفي كل طرف على حدة، ثم يلتزم الطرفين بالتواجد، والمواجهة في حضور ممثلي العائلات التي ينتمي إليها كل طرف، حتى لا تكون المواجهة سبيلًا لنزاع جديد. ومن خلال مناقشة وجهة نظر كل طرف، وعائلته، يتوصل المجلس العرفي إلى عقاب للمخطئ. وعادة لا يكون العقاب قانونيا، لكنه العقاب الذي ينطوي على مواءمة مقبولة للطرفين، بحيث يستطيع كل طرف التعامل مع الطرف الآخر في المستقبل دون رغبة في الانتقام، لأنه يرى فيما تم التوصل إليه، أقصى ما يمكن تحقيقه. وهنا، تكون الآلية قد حققت الهدف منها، ويكون الأطراف على استعداد للنظر للمستقبل.
تجربة لجان الحقيقة في غانا
يمكن أن يكون انتشار لجان القضاء العرفي، في كل ربوع الوطن، دعامة رئيسية لعملية العدالة الانتقالية. كما كانت منظمات المجتمع المدني في غانا؛ عندما أعلنت الحكومة عن بدء إجراءات عملية العدالةالانتقالية، إلا أنها أصرت على تفريغ العملية من مضمونها عشر سنوات كاملة، فشرعت منظمات المجتمع المدني في تشكيل لجان الحقيقة خارج الإطار الحكومة الرسمي، حيث شارك المواطنون فيها. وشيئا فشيئا، أصبحت منظمات المجتمع المدني هي التي تقود عملية عدالة انتقالية حقيقية، على عكس رغبة النظام الحاكم آنذاك. وبعد زيادة أعداد المشاركين، أرغم النظام على السير في الطريق الذي حددته منظمات المجتمع المدني استنادا إلى جمهور عريض، يباشر فعليا تلك الإجراءات.
وفي بلدنا، أعتقد أن تلك اللجان يمكن أن تكون أكبر داعم، وحاضنة شعبية، وميسر لأعمال لجان الحقيقة، حتى وإن زاد عددها، وتباعدت المسافات بين أماكن تواجدها. فهذه اللجان مسلحة بخبرة البحث عن الأدلة، وتحديد الصالح من الفاسد منها، والالتقاء مع أطراف النزاعات، وإدارة الخلاف بينهم وصولًا لاستجلاء الحقيقة، كما أنها تتميز بانتشارها، وبالأعداد المهولة لأعضائها، بالإضافة إلى انفصالها عن مؤسسات النظام الرسمية.
يقتصر دور لجان الحقيقة على ما تقدمه من مساعدة على أعمال جمع الأدلة ومناقشة الأطراف فقط، من دون أعمال المحاكمة، التي يجب أن تكون أمام قضاء طبيعي، يتم تشكيل دوائره بإشراف المفوضية العليا للعدالة الانتقالية، أي أن المحاكم ستكون بتشكيل قضائي كامل من دون أي عناصر غير قضائية، لتكتسب شرعية دولية.
في المقال التالي:
في تجربة جنوب أفريقيا: العدالة الانتقالية تعاقب ولا تنتقم، وتعمل على وقاية المجتمع من تكرار جرائم الاستبداد.
وفي مصر أربعة أنواع من جرائم عهود الاستبداد أمام المحاكم الانتقالية، تبدأ بالرشاوى الصغيرة، وتنتهي بالجرائم السياسية التي لا تقع تحت طائلة القوانين بصورة مباشرة، لكنها تستدعي عقابا شعبيا