ريهام الحكيم تكتب: ذي قار رمز للثورة العراقية
“يوم ذي قار هو أعظم أيام العرب وأول يوم لانتصار العرب على الفرس”.. تقع محافظة ذي قار فى جنوب العراق وقد حملت هذا الاسم لذكرى موقعة ذي قار التاريخية العظيمة قبل أكثر من ألف عام فى معركة بين العرب والفرس، انتصر فيها العرب قبل الإسلام. يقدر عدد سكان المحافظة بأكثر من مليونين نسمة وهم ذوي غالبية شيعية، إضافة إلى أقليات من السنة والصابئة. يقال أنها سميت ذي قار لأنها تحتوي فى أرضها مادة القار فسميت ذات القار وجاءت الانتفاضة العراقية الأخيرة لتسطر لتلك المحافظة تاريخًا جديدًا من القيادة.
كانت العاصمة بغداد أرضا لتظاهرات سلمية فى الأول من أكتوبر الماضي وأنضمت ذي قار وباقي محافظات وسط وجنوب العراق لتلك الإنتفاضة السلمية والتى قوبلت بالقمع و الوحشية من قبل القوات الأمنية وقد انتهجت حكومة عادل عبد المهدي أعمال العنف لإخماد الاضطربات حيث قتل المئات بأعيرة نارية ونوعية من القنابل مسيلة للدموع تسببت فى قتل المتظاهرين .
تلك الانتهاكات التى وصفت بـ ” الوحشية ” واعتبرت انتهاكا صارخا لحقوق الإنسان طبقا لتقرير جنين هينس بلاسخارات الممثلة الخاصة للامين العام للامم المتحدة فى العراق. صاحب تلك الانتهاكات وعودًا من قبل الحكومة بإصلاحات سياسية وصفت بالشكلية. و تعتبر تلك الانتفاضة هى أصعب تحد واجهته الطبقة الحاكمة فى العراق منذ 2003 والغزو الأمريكى الذى أسقط نظام صدام حسين.
وكان لميدان ” الحبوبى” فى مدينة الناصرية مركز محافظة ذي قار نصيبا كبيرا من تلك الانتهاكات ، ففي أواخر نوفمبر الماضي شهدت ذي قار مذبحة أدت لمقتل عشرات المتظاهرين وإصابة نحو 230 آخرين بحسب ما نقلته وسائل الإعلام حيث وقعت اشتباكات بين متظاهرين والشرطة الاتحادية ، وأطلقت فيها الأخيرة الرصاص الحي لتفريق المحتجين و لم توثق أعداد القتلى لتلك الواقعة من مصدر موثوق .
أثارت تلك الواقعة ردود فعل غاضبة داخل الاوساط العراقية وشكل مجلس القضاء الأعلى لجنة لتقصى الحقائق فى واقعة قتلِ المتظاهرين فى مدينة الناصرية يومى 27 و 28 نوفمبر 2019. كما استقال عدد من المسؤلين داخل المحافظة كان على رأسهم محافظ ذي قار وتم استدعاء جميل الشمري القائد العسكرى – المتهم الأول بالوقوف وراء تلك الانتهاكات- من قبل حكومة بغداد لتحقيق فى الواقعة.
وكان لمسلسل التصعيد بين طهران وواشنطن فى الأراضي العراقية منعطف خطير خاصة بعد مقتل القائد الإيرانى قاسم سليمانى، تلك العملية التى وصفت بأول اشتباك مباشر بين الطرفين الأمريكى والإيرانى بعد شهور من مواجهات غير مباشرة وكلامية بينهما . هذا التصعيد حول الأنظار عن ميادين التظاهر فى العراق، لكن ذي قار استطاعت أن تحى الحراك وتعيده إلى المشهد مرة أخرى بعد أن حدد معتصمو الناصرية مهلة للبرلمان العراقي قدرت بأسبوع لتنفيذ ثلاث مطالب على رأسها تشكيل حكومة مؤقتة ومحاسبة قتلة المتظاهرين وسميت ب “مهلة الناصرية “.
“مهلة الناصرية ” لاقت الدعم من كافة ميادين التظاهر فى العاصمة بغداد وباقى المحافظات ومع استمرار تعثر الكتل السياسية، فى التوافق على مسمى لرئيس حكومة توافقى و شخصية مستقله بعيدا عن الهيمنة الإيرانية أو الأمريكية. انتهت المهلة التى حددتها مدينة الناصرية وبدأت ذي قار وباقي المحافظات خطوات تصعيدية للضغط على الساسة داخل البرلمان . قطع المتظاهرون الطريق الدولى السريع الرابط بين بغداد ومحافظات الجنوب واستخدم المحتجون الاطارات المشتعلة، وأقفلت أبواب الدوائر الحكومية فى وجه الموظفين وأغلق مطار النجف. وأقدم متظاهرو الناصرية على قطع الطريق الرئيسى الرابط بين العاصمة بغداد ومحافظات واسط وميسان والديوانية.
عاد الحراك إلى المشهد السياسي والإعلامي بعد هذا التصعيد.
تعرضت الانتفاضة لامتحان جديد، هو الأصعب بعد تدخل الزعيم الشيعى مقتدى الصدر زعيم كتلة سائرون داخل البرلمان والذى هاجم المحتجين و دعا انصاره “أصحاب القبعات الزرق” إلى الصدام المباشر مع المتظاهرين وإنهاء كافة أشكال الاحتجاج.
رأى البعض أن هجمات انصار مقتدى الصدر ساهمت فى انحراف مسيرة الثورة وانهاك القوى الثورية فى حرب شوارع وتشتيت انتباههم حيث أُهملت بعض المطالب مثل تحديد موعد لإجراء انتخابات مبكرة تحت إشراف الامم المتحدة وصارت فى خانة المهملات .
تحركت الناصرية أمام هذا التصعيد الخطير المهدد لمسار الثورة و قام عدد من المتظاهرين فى مدينة الناصرية بطلب لترشيح الناشط علاء الركابى – القيادى بميدان الحبوبى الناصرية – لرئاسة الحكومة العراقية لفترة انتقالية. اختلفت ردود الأفعال فى ميادين الاعتصام فى بغداد وباقى المحافظات، عارض البعض هذا الترشح وطالب البعض التمسك بوضع موصفات للمرشح دون تسمية.
تصدر الناشط علاء الركابى المشهد كشخصية قيادية فى اعتصام مدينة الناصرية وهو شخصية اعتبرت مثيرة للجدل، فهو أحد أبرز الوجوه للحراك من خلال قيادته للمظاهرات ووصل عدد متابعيه على مواقع التواصل إلى عشرات الآلاف وهو أحد الداعين إلى “مهلة الناصرية “.
ومن جانبه طالب الركابى بتفويض شعبى من ميادين الاعتصام فى كافة المحافظات عبر استفتاء. ولم تهمل ذي قار فى خطابها المحافظات الشمالية والغربية التى لم تشارك فى الحراك الشعبى. نجح الركابى فى توحيد الصف الثوري بإعلان عدد من المحافظات الموافقة على ترشحه كرئيس للحكومة، بينما اعترض آخرون على تلك الخطوة.
وعلى صعيد الساسة فى المنطقة الخضراء الحاكمة تجاهل أعضاء البرلمان والكتل الحزبية، اسم الركابي وقاموا بتكليف وزير الاتصالات السابق محمد توفيق علاوى لرئاسة الحكومة “عراقى يحمل الجنسية البريطانية”، وهو ما رفضه المتظاهرون وتزعمت ذي قار خطوة تصعيدية جديدة للرد على تولي الأخير رئاسة الحكومة، حيث دعى الركابي لمليونية زحف من محافظات وسط وجنوب العراق إلى المنطقة الرئاسية (الخضراء) المحصنة فى جانب الكرخ ببغداد وذلك لرفض تولى علاوي الحكومة وعدم مطابقته للمعايير التى حددها المتظاهرون فهو سياسى سابق ومتهم بالفساد ومزدوج الجنسية.
وضع المحتجون فى بداية هذا الحراك معايير لاختيار رئيس حكومة تحددت فى كونه مستقل وغير مرتبط بالطبقة السياسية الحاكمة منذ 2003، ولا يمتلك جنسية أخرى غير العراقية، وأن لا يتعدى عمره الخمس وخمسين عاماً.
نجحت الناصرية فى توحيد الصف الثوري وانضم إلى تلك التظاهرة جموع كبيرة من متظاهري العاصمة بغداد ومحافظات وسط وجنوب العراق ووصل الزحف إلى منطقة الكرخ بالقرب من المنطقة الخضراء المحصنة وشكل المتظاهرون حاجز صد بينهم وبين القوات الأمنية للحيلولة دون وقوع صدمات.
انتهى التصعيد باستقالة علاوي من رئاسة الحكومة بعد فشله فى تمرير التشكيلة الوزارية والرفض الشعبى له والذى تجسد فى مليونية الزحف التى نسقها قيادات محافظة ذى قار.
و أخيراً، فإن محافظة ذي قار تعد أحد رموز الانتفاضة العراقية.. وذلك لما قدمته من شهداء وجرحى فداءً لهذا الوطن، بل وكانت حائط صد لكل محاولات اجهاض تلك الثورة من قبل السياسين والمليشيات التابعة لهم.
ذي قار نجحت فى توحيد الصف الثورى بالتوازى مع الخط السياسى الذى تسبب فى اخضاع البرلمان لمطالب الثوار فى اكثر من مرة، هذا الاصطفاف والتوحد فى الخطاب منح الانتفاضة القدرة على الاستمرار اكثر من ستة أشهر لم تنهزم فيها الانتفاضة العظيمة أمام كل محاولات الإجهاض والتحطيم من قبل ميلشيات الأحزاب والساسة المدعومين من النظام الايرانى صاحب النفوذ الاكبر على الأراضى العراقية.