رائد سلامة يكتب: (1977) إبداعات
قيصرية ستكون الولادة، هكذا أبلغوه، أقنعوه بضرورة أن يغادر علي أن يتصل بهم هاتفيًا بعد ساعتين، لم يكن الأمر يستدعي الساعتين لكنهم أرادوا منح أنفسهم زيادةً في وقت العمل بهدوءٍ دون ضجيجٍ تَوَقَعُوه، كانت المسافة غير طويلة ما بين غرفتها و باب المبني الأبيض ذو الطابق الواحد الذي كان يتوسط ميدانًا صغيرًا يُشرِف علي أطراف شوارع ضيقة كما لو كان بَحرًا تَصُب فيه روافد أنهار، إمتَثَل غير راضٍ، غادَر، لم يَمْشِ كثيرًا، رأي مَقهىً علي زاوية واحد من تلك الشوارع، قَرَرَ قضاء الساعتين به.
كان المقهى مزدحمًا، علي الطاولات المتفرقة بلا ترتيب كان الجالسون ملتصقون بمقاعد خشبية عتيقة يمارسون في هدوء مُريبٍ ألعابًا شعبية تاريخية كأنهم لم يغادروا تلك المقاعد منذ عصور بينما التلفزيون في مكان عَلٍ يبث أغانٍ وطنية، لم يكن يعجبه وصف “الوطنية”، لم يكن يراها خالِصَةً لوجه الوطن، مجرد فوضي لحنية أُعِدت علي عجل في مديحٍ غير مستحق للأسمر النحيل الذي سافر صوب الشرق، سَحَب مقعَدًا خشبيًا، جَلَس بلا طاولة أمامه و طَلَبَ فنجانًا من القهوة بلا تحلية. كان “المعلم” يجلس علي مكتب خشبي عجوز مثله غير بعيدٍ عن “النَصْبَة” و علي يساره هاتف أسود اللون يقبع في جلال كثروة عظيمة، سيهاتفهم إذن بين الحين و الآخر، لن ينتظر نهاية الساعتين.
طَلَبَ فنجانًا آخرًا من القهوة حتي يبقي مُتَيَقِظًا، كان الكُلُ منهمكٌ في اللعب، لم يكن من أحدٍ سواه و “المعلم” يتابع التلفزيون، إنقطعت الأغاني، جاءه صوت المذيع يعلن الإنتقال إلي إذاعة خارجية، طائرة الأسمر النحيل تهبط أمام صَفٍ طويل من بَشَرٍ إنتظموا بِوجومٍ في الإنتظار، العجوز التي تشبه ساحرات قصص الرُعب، الأصلع الأعور، القصير صاحب العوينات الضخمة، ذو البطن الكبير الذي دائماً ما كان يتخيلُهُ فارغًا إلا من أجنة أطفال لن يأتوا، باب الطائرة ينفتح، الجالسون بالمقهى منهمكون في اللعب بصمتٍ لا يهتك ستره سوى صوت المذيع الرخيم، كان يظن حتي اللحظة الأخيرة -أو هكذا كان يأمل- أن الأسمر النحيل سيُطِلُ من باب الطائرة كبطل أسطوري حاملًا سِلاحًا عملاقًا يفرغ ما في جعبته برؤوس الواجمين في الإنتظار هناك، كان قد أمضي ما يزيد عن الساعتين بالمقهي، إستاذن “المعلم” في إجراء الإتصال فأذن له، طلبوا منه الحضور، كان الأسمر النحيل قد ظهر علي الشاشة خارجًا من باب الطائرة لا يحمل سوى إبتسامة عريضة و ذراعين مفتوحتين بإتساعِ الكون، إنطلق هو إلي المبني الأبيض، هَبَطَ الأسمر النحيل علي الأرض المقدسة و نَزَلَ الجنين ميتًا.