رائد سلامة يكتب: بِنتٌ مِن قَريتنا.. (إبداعات)
في الثانية عشر من عمرها كانت، طويلة بعض الشيئ و بجسمها قليل من الإستدارة بلا إسراف، كان كل من تَقَع عيناه عليها يحسبها في السابعة عشر وهو سن زواج البنات بقريتنا، نعم، هكذا هو الحال مازال منذ أيام “الباشا”، ما أن تصل البنت إلي سن السادسة عشر أو السابعة عشر إلا و تبدأ النسوة في الحديث والبحث الحثيث، لم تفلح جهود “أبو عبد الناصر” في تثوير عقل قريتنا في هذا الشأن العظيم ثم ساهمت ممارسات “أبو زبيبة” في ترسيخه وإن أخذ الأمر إنعطافة عقائدية ليصير تزويج البنات بهذا السن بمثابة فعلٍ ديني ما لبث إلا و قد إستحالَ فَرضًا واجبًا ليختزل عبر تطور تاريخِهِ علاقة فتيات قريتنا بالدنيا كلها في كلمة واحدة…”السَتر”.
كانت بنات قريتنا التي ألقَت يدُ القدَر بها في أقصي بقعة بآخر تخوم صعيد مصر لتتركها مَنسِيَّة خارج حدود الزمن، يَضَعن جميعهن حجاباتٍ علي الرؤوس، إختَفَت الطَرحَة التاريخية التي كانت تعتمرها إناث القرية في الأزمان القريبة. “إن أنتِ وصلت لِسِنِ السابعة عشر دون زواج فستصيرين عانسًا و العياذ بالله”، هكذا أَسَرْت لها زميلتها بالمدرسة مُرَدِدَةً ما سمعته من أختها التي تزوجت في هذا السن لِتَلحِق بآخر عربات القطار المُغَادِرة، لم تفهم معنى كلمة “العانس” تلك و لماذا هي “عانس” و ليست “عانسة” -بإعتبارها فتاةً لا فتىً- لكن قدْرًا من الإدراك لسلبيةِ دلالةِ الكلمة كان قد تَمَكن من عقلها فرَسَخَ في أعماق وجدانها، نَهَرَتها أمها حين سألتها عن المعنى كما لو كان ثعبانًا قد لَدَغها وأدركت الأم أن أوان الطهارة قد آن.
لما أفصَحَت المرأة لزوجها عن رغبتها تلك، زَجَرَها وأقسم يمينًا ثلاثًا بالطلاق البائن منها إن هي أثارت معه هذا الأمر ثانية. كان الرجل حريصًا علي إستشارتي طلبًا للنُصح حين كُنا نلتقي لأداء الصلوات التي أحرص عليها بإنتظام في الزاوية الصغيرة إلي جوار العيادة، كان رجلًا طيبًا يثق بي إذ تربطني به علاقة صداقة قديمة منذ الطفولة قبل رحلتي للمدينة لإستكمال الدراسة ثم عودتي للقرية طبيبًا، كنت أنهاهُ عن هذا الفِعل الدامي وكان يَستَجيب.
في إحدي الليالي بعد الإنتهاء من صلاة العشاء إلتقينا وكان مُتهًلِلًا، دعاني لحضور حفل زواج البنت وقد بلغت السابعة عشر، لم يستطع أن يخالف زوجته هذه المرة فتلك هي العادة التي لا يمكنُهُ رفضها خاصة وأن العريس “ما يتعوضش”، كان العريس الذي يَمُتُ بصلة قرابة لأم البنت وَسيمًا وثَريًّا يملك بعض قراريط آلت إليه بالميراث عن أبيه من أفدنة الإصلاح الزراعي الخمس، كان أخوه الأكبر يقوم بالإشراف عليها كلها نيابة عن باقي أفراد العائلة وكان هو -العريس- يعمل في السجل المدني بالمدينة، تزوجت البنت وغادرت القرية لتقيم مع زوجها ببيته في المدينة، ثلاث سنوات مَضَت كانت تمنحه في كل منها طِفلًا.
كانت الأم تعلم كل شيئ، فالبنت لا تترك زيارة لها إلا وتسهب في الحَكْي لأمها التي كانت تنصت ثم تلوم علي البنت عدم طاعتها حماتها، “يا ما نصحت أبوكي لكنه لم ينتصح، إسمعي كلام حماتِك يا بِتْ علشان الأكل اللي بتطبخيه لجوزك يبقى طاهر”، هكذا كان رَدُ الأم الذي كانت البنت تبغضه وتبذل الجهد لطرد ما تُخَلِفُهُ الفكرة المرعبة الهائمة تلك في ذِهنِها من خيالاتٍ دامية بالسخرية من الأمرِ بِرُمَتِه بإعتبار أن مجرد التفكير فيه الآن -وقد حملت وأنجبت ثلاثًا- ليس سوى محضُ مُزحة ثقيلة الظل أو تخريفة من تخاريف عجائزٍ فَعَل الزَمَنُ بعقولِهِن ما فَعَل.
كانت جَمْعَةُ نساء عائلة الزوج في تلك الليلة بالبيت الكبير وسط الأفدنة الخمسة قُربَ الترعة، الحماةُ العجوز تجلس في صدارة “المَضيَّفَة”علي كُرسِيٍ عالٍ كَعَرْش تحيط به مقاعد مُنخَفِضة إحتَلتها جميعًا أخوات الزوج وزوجات أشقائه اللاتي تَرَكْنَ “شَلْتَةً” صغيرة قُرب قَدَمَى العجوز شاغرة، وضعت البنت صينية الشاي علي الطاولة في وسَط الغرفة، نادتها العجوز للجلوس إلي جوارها فَلَبَتْ. بعدما شربت النسوة الشاي ساخِنًا ظهرت “أم قاسم” كساحرات الأساطير فجأة بالباب تَرْفُل في السواد وفي يدها كيسًا بلاستيكيًا ضخمًا ثم جَلَست علي العَتَبَة كضَلْفَةِ بابٍ زائدةٍ من لحم مُكتَنِزٍ، حين فَتَحَت “أم قاسم” الكيس وأخرجت منه النَصلُ وقليلًا من تُراب الفرن الرمادي تيقنت البنت من أن كلام حماتها لم يكن تخاريف عجائز وأنهم قد أعدوا كل شيئ و صار المسرح جاهزًا لإتمام المَهَمَةِ الدامية، أَحَطْنَّ بها كذبيحة، لم تَدرِ كيف أفلَتَت من بين أيديهن الثقيلة، رَكَلَت “أم حسان” في صدرها ثم عَبَرت فوق جسدها خارج الغرفة مُطلِقَةً ساقيها للريح، كان رجال العائلة بالخارج يدخنون الجوزة في ضوء القمر وقد إرتَصَت الأحجار المُعَمَّرَة أمامهم في إنتظامٍ كلؤلؤٍ منضود بينما كان الصوت الأسطوري يملأ الأفق “غَلَبني الشوق وغَلِبني، وليل البُعد دَوبني”، رَكَضَت كَمُهرَةٍ حافيةِ القدمين عَفيَّة خارج الدار لا تَلوي علي خَبَرٍ، وبعد يومين كانت جثتها تطفو مُنتَفِخَةً علي سطح الترعة.
Pingback: رائد سلامة يكتب: بِنتٌ مِن قَريتنا - العيادة