د. محمد مدحت مصطفى يكتب: الإتفاقيات الدولية وحوض نهر النيل (1)
يُعَد الري النهري بمثابة الري الصناعي الأول الذي عرفه الإنسان، بعد أن عجزت مياه الأمطار عن تلبية حاجات الزراعة المطرية. والزراعة النهرية تحتاج إلى قدر كبير من التعاون بين أفراد القبيلة للحصول على حصاد جيد، كما تحتاج إلى قدر كبير من التعاون بين القبائل وبعضها بغرض السيطرة على النهر. ففي الحضارات المطرية ترحل القبائل إلى حيث يتوفر المطر والكلأ، أما في الحضارات النهرية فليس هناك سوى الاستقرار ومحاولة تهذيب النهر. وفي المناطق التي تجمع بين المياه المطرية والمياه النهرية نجد أن الإنسان لم يلجأ إلى مياه الأنهار والري الصناعي الأكثر جهداً والأكثر كُلفة إلا لتعويض العجز في مياه الأمطار. ومع تكون الدول الحديثة نرى المشاكل بين الدول التي تقع على نهر واحد سواء بالتتابع أو بالتقابل نشأت بالأساس لأغراض تنظيم الملاحة في هذه الأنهار، ومن ثم كان اهتمام القانون الدولي منصباً على تلك القضية. ومع تراجع أهمية الأنهار في مجال الملاحة ، وحيث ازدادت أهمية المياه العذبة للاستخدامات الإنسانية الأخرى سواء للزراعة أو الصناعة تحول اهتمام القانون الدولي باتجاه قضية الاستخدام الأمثل لمياه النهر والمحافظة عليه بين الدول المتشاطئة. والأنهار الدولية هي تلك الأنهار التي تشق مجراها بين دولتين متجاورتين أو يمر مجراها عبر الحدود السياسية لأكثر من دولة، وعلى ذلك فقد تنازعت قواعد القانون الدولي الخاصة بالأنهار الدولية وجهتي نظر. تنطلق الأولى من قاعدة السيادة التامة للدولة على كل ما يقع داخل حدودها السياسية، وبالتالي يكون لكل دولة من دول أحواض الأنهار حقوق السيادة الكاملة على الجزء من النهر الدولي الذي يمر بأراضيها بغض النظر عما يترتب على ذلك من آثار لدول النهر الأخرى. وتنطلق الثانية من قاعدة عدم المساس بالأوضاع الطبيعية التاريخية حيث يجب أن يظل جريان الأنهار الدولية على حالها، فلا تتعرض للنقصان أو التلوث بسبب إجراءات إحدى دول النهر. وإذا كانت وجهة النظر الأولى تحقق مصالح دول منابع الأنهار دون ما اعتبار لدول المصب، فإن وجهة النظر الثانية تحقق مصالح دول مصبات الأنهار وتحرم دول المنابع من إمكانية إقامة أية مشروعات لتنمية مواردها المائية.
ونظراً لأن الزراعة الأوربية تعتمد أساساً على مياه الأمطار فإن الأنهار الدولية لم يكن يُنظَر إليها إلا بصفتها قنوات مائية للملاحة، وعلى ذلك فإن النزاعات بين دول الأنهار الدولية كانت تدور أساساً حول حقوق الملاحة النهرية. حتى أن الحدود السياسية بين الدول المتجاورة لضفتي نهر تحولت من خط منتصف ذلك النهر إلى خط المجرى الملاحي، وعلى ذلك فإن تلك الحدود من الناحية العملية تتغير تبعاً لتغيرات ذلك المجرى نتيجة للنحر والإطماء الذي يحدث للنهر، إلا أن هناك حتى الآن بعض الدول التي لا تزال تتمسك بخط منتصف النهر. ومثال ذلك الحدود بين ألمانيا وفرنسا تمر في منتصف نهر الراين، والحدود بين رومانيا وبلغاريا تمر في منتصف نهر الدانوب. بينما الحدود بين ألمانيا وسويسرا تسير مع مجرى نهر الراين. وفي أمريكا الجنوبية نجد أن الحدود بين البرازيل وبيرو تسير مع مجرى بافاري، وهكذا. ومع ظهور أزمات المياه العذبة والتوسع في المفهوم الاقتصادي للنهر دخلت الاستخدامات الزراعية والصناعية بجانب الاستخدامات الملاحية، ومعها ظهرت مشاكل جديدة في تعريف النهر الدولي خاصة وأن هذه الاستخدامات ملوثة للأنهار بدرجة كبيرة ، كما أن تأثيراتها تمتد أحيانا إلى المياه الجوفية. وعلى ذلك ظهرت فكرة “حوض الصرف الواحد” التي تأخذ في اعتبارها البعد الهيدروليكي والجغرافي للنهر كوحدة طبيعية واقتصادية واحدة، بمعنى أن يضم ذلك التعريف كل من المياه السطحية والمياه الجوفية إذا ما كان يجمعهما حوض صرف واحد، كما يشمل التعريف المجرى الرئيسي للنهر وكافة روافده سواء كانت روافد إنمائية “المنابع” أو روافد توزيعية “المصبات”، فهذه الوحدة الهيدروليكية والجغرافية هي التي تحدد كم ونوع المياه في النهر. وهذا التعريف هو التعريف الذي تأخذ به لجنة القانون الدولي الآن، وكذلك كافة المعاهد والمراكز القانونية المتخصصة.
أولا: الأنهار وقواعد القانون الدولي:
من المعروف أن الاقتصاد الدولي يختص بدراسة الإجراءات التي تتخطى آثارها الحدود السياسية للدولة، وكذلك تنظيم الانتفاع بالموارد دولية الانتشار كمصايد الأسماك في البحار، ومياه الأنهار الدولية أي الأنهار التي تطل عليها أكثر من دولة واحدة . ويُنظم القانون الدولي قواعد التعامل بين الدول في إطار احترام السيادة لكل منها وذلك في حال عدم وجود اتفاقيات بين هذه الدول. وهذا ما كان عليه الحال بالنسبة للأنهار الدولية حتى مايو 1997م عندما أقرت الجمعية العامة للأمم المتحدة اتفاقية دولية جديدة تنظم الاستخدامات غير الملاحية للمجاري المائية الدولية، وقد ظلت هناك بعض القواعد العامة التي استنها العُرف القانوني والتي أمكن الاسترشاد بها عند بحث النزاعات الإقليمية حول استغلال الأنهار الدولية. أما الاتفاقات الدولية ثنائية أو ثلاثية الأطراف أو غيرها القائمة الآن فهي اتفاقيات مُلزمة للأطراف الموقعة عليها فقط، ومن ثم لا تمتد آثارها للأطراف الأخرى المُشاركة في نفس النهر الدولي. ومن القواعد القانونية الدولية التي تحكم استخدام الأنهار في غير أغراض الملاحة كالزراعة والصناعة على سبيل المثال أن لا يؤدى استخدام إحدى الدول للنهر إلى الإضرار بمصالح الدول الأخرى المُشتركة في هذا النهر، لأن الاتجاه السائد في القانون الدولي الآن هو مبدأ “الاشتراك المُنصِف والتوزيع العادل لمياه شبكة الأنهار الدولية في غير شئون الملاحة“. ويتضمن هذا المبدأ قيام دول الشبكة النهرية بتنمية موارد المياه لتحقيق أفضل انتفاع بها، ولا يمكن حرمان أي دولة من الاشتراك المُنصِف في الانتفاع بمياه الشبكة، كما يشمل واجب المشاركة على أساس عادل في حماية الشبكة والتحكم فيها. وعلى ذلك فالأنهار الدولية وفقاً لهذا المبدأ يتم التعامل معها بصفتها مورد طبيعي مُشترك لا يجوز لأحد الأطراف التحكم. ومع تعاظم أهمية المياه وتزايد ندرتها أصبح من اللازم العمل على تنميتها مما يقتضي تنفيذ العديد من البرامج المتعلقة بصيانة النهر وحُسن استخدامه، وهو ما لا يمكن تحقيقه إلا بسياسة حُسن الجوار بين الأطراف المتشاطئة علية. وقد اهتمت مجموعة من المعاهد والمراكز القانونية المتخصصة بدراسة موضوع القواعد القانونية العامة التي يجب أن تؤخذ في الاعتبار عند إعداد قانون دولي يحكم استغلال الأنهار في غير أغراض الملاحة. ومن هذه المراكز على سبيل المثال اتحاد المحامين للدول الأمريكية، الذي أصدر وثيقة في عام 1957م بنهاية دورته العاشرة في بوينس ايرس تحت عنوان “المبادئ القانونية التي تحكم استغلال الأنهار الدولية”، وقد تضمنت تلك الوثيقة:
– إقرار حق الدول التي يمر بها جزء من الأنهار الدولية في استخدام النهر بشرط ألا يضر هذا الاستخدام الدول الأخرى الشريكة في النهر.
– تطبيق مبدأ المساواة في الحقوق.
– الحرص على عدم إجراء أية تغييرات في نظام النهر بدون الاتفاق مع باقي دول النهر.
– عند الاختلاف بين بلدان النهر الواحد يُعرض النزاع للتحكيم الدولي.