د. زهدي الشامي يكتب: أزمة انقطاع الكهرباء بين التبريرات المتناقضة والحقائق المغيبة
السبب الرئيسي للأزمة هو ما يسمى بخطة ترشيد استهلاك الكهرباء والغاز وتراجع إنتاج الغاز في مصر
المصريون يتحملون عبء السياسات الفاشلة مرتين: مرة بالإنفاق غير الضروري على إنشاء محطات تزيد قدرتها على ضعف احتياجاتنا.. ومرة بتخفيض تشغيل المحطات
تتفرد أزمة انقطاع التيار الكهربائي الراهنة في مصر من بين الأزمات جميعها بأنها تثير من التعجب وسخرية الرأي العام أكثر مما تثير من سخطه واستهجانه.
فمن الطبيعي أن نشهد أزمات في قطاعات بها نقص وعجز في الإنتاج، لكننا هذه المرة نشهد عجزا في القطاع الذي طالما تغنت السلطة الحاكمة في مصر بأنها حققت فيه إنجازات لم يحققها لا الآخرون و لا الأولون. فما الأمر إذن؟
وفقا لكافة التصريحات والبيانات الحكومية أضاف الحكم في مصر محطات وطاقات إنتاجية جديدة في مصر في السنوات الثماني الماضية تصل إلى ٣١ ألف ميجاوات، ووصلت معها القدرة الإنتاجية من الكهرباء إلى حوالي ٦٠ ألف ميجاوات ( بالضبط ٥٩٨٩٣ طبقا لبيانات وزارة الكهرباء في أغسطس الماضى ٢٠٢٢).
وقد كلفت تلك الزيادات المذكورة مصر أعباء مالية تصل بالدولار لحوالي ٢٠ مليار دولار ( ١٩.٥ مليار وفقا لبيانات وزارة الكهرباء) أي ما يزيد عن ٦٠٠ مليار جنيه بالسعر الحالي للدولار (على اعتبار أن جزء كبيرا منها بقروض لازال يتعين سدادها).
وقد أثارت تلك الزيادات الكبيرة في حينه تساؤلات متعددة من أشخاص عديدين، أنا منهم، إذا كان الاستهلاك من الكهرباء يزيد وقت الذروة قليلا عن نصف هذا الرقم، إذ لا يوجد مبرر لأن يصل الاحتياطي لنصف القدرة الإنتاجية.
ولذلك فالمفارقة مع عودة انقطاع الكهرباء صارخة للغاية ولا تجد أي إجابة مقنعة، ولا تعدو تصريحات الحكومة وفي مقدمتها تصريحات رئيس الوزراء سوى محاولة للتستر على الأسباب الحقيقية للمهزلة.
عمت الشكوى من انقطاع الكهرباء لساعات طويلة تصل إلى ست ساعات في محافظات ومناطق متعددة منها سيناء، أسوان، القليوبية، الفيوم، بورسعيد، القاهرة الكبرى، وقنا والأقصر والمنيا وكفر الشيخ والغربية والمنوفية والبحر الأحمر، وامتد تأثير انقطاع الكهرباء لانقطاع مياه الشرب عن مدن عديدة بعد توقف محطاتها في مدينة العبور.
وخرج علينا مصطفى مدبولى رئيس الوزراء بتبرير يثير الدهشة ولا يقبله العقل بالقول إن السبب هو زيادة حجم الاستهلاك من الغاز المستعمل لإنتاج الكهرباء مما نتج عنه ضغط كبير على الشبكات الخاصة به مما أدى لانخفاض ضغوط الغاز في الشبكات الموصلة لمحطات الكهرباء.
ولامنطقية تصريحات مدبولي ظاهرة على ضوء الآتي:
– أن ما يتحدث عنه من وصول الاستهلاك إلى مستوى غير مسبوق كلام مبالغ فيه تماما. فالاستهلاك وأقصى حمل وصل هذا الأسبوع وفق تصريحات وزارة الكهرباء إلى ٣٤٦٥٠ ميجاوات، وهو تقريبا نفس الرقم الذى أعلنت عنه الوزارة في أغسطس من العام الماضي والذي وصل إلى ٣٤٢٠٠ ميجاوات. فارق هامشي للغاية.
– إلا أن الأسوأ هو ما يلي: إذا كانت الشبكة لا تستوعب الإنتاج عندما يصل لهذا الرقم الذي لا يمثل سوى ما يزيد قليلا عن نصف الطاقة الإنتاجية، فماذا يكون عليه الحال لو عملت المحطات بكامل طاقتها الإنتاجية؟ تلك كارثة تتطلب إذن المحاسبة لكل من أشرفوا على تخطيط و تنفيذ تلك العملية كلها.
ولما كانت هذه المبررات غير منطقية فإنها تتستر إذن على الأسباب الحقيقية للأزمة والتي سبق للحكومة نفسها أن عبرت عنها بلسانها منذ شهر أغسطس الماضي: خطة الحكومة لترشيد استهلاك الكهرباء وترشيد استهلاك الغاز طمعا في توجيهه للتصدير استغلالا لحرب أوكرانيا وطمعا في الدولارات بعد ارتفاع الأسعار في الفترة التي أعقبت الحرب.
وكلنا يتذكر مشهد إظلام ميدان التحرير، وميادين مصر، وإعلان الحكومة عن قطع الكهرباء في المصالح الحكومية بعد انتهاء العمل، وخلافه، وقد أدلى مدبولي يومها بتصريحات علنية يبدو أنه نساها اليوم، قال فيها “إن محطات الكهرباء تستخدم سنويا نحو ٣٨ مليون متر مكعب من الغاز، وإنه يسعى لتحقيق فائض بنسبة ١٥ %” ، للتصدير طبعا.
ما يسمى بخطة الترشيد الحكومى هي السبب المنطقى الوحيد الظاهر لأزمة انقطاع الكهرباء في مصر. فبعد أن انفقت هذه الأموال الطائلة على إنشاء محطات يزيد إنتاجها عن ضعف احتياجاتنا، قررت طمعا في الدولارات تخفيض إنتاج تلك المحطات فوق ما هي عليه من تعطل، وعلى المصريين تحمل العبء في الحالتين، في حالة الانفاق السفيه أولا، وفي حالة انقطاع الكهرباء ثانيا.
وللأسف الشديد فإن الرياح مع ذلك تأتي بما لاتشتهي السفن. فقد ترافق مع تلك السياسات العشوائية والمتخبطة.. أمران زادا الوضع سوء على سوء.
– فأولا انخفض إنتاج حقل ظهر وإنتاج مصر من الغاز عموما من ٥٣.١ مليون طن في عام ٢٠٢١ الى ٥٠.٦ مليون فقط في عام ٢٠٢٢ وفقا لموقع منصة الطاقة المتخصص.
– ولسوء الطالع فقد خابت آمال الحكومة في الحصول بخطتها على مزيد من الدولارات، فبالإضافة لانخفاض الإنتاج عادت الأسعار للانخفاض، وتفاقم الوضع لأن الحكومة راهنت على البيع في السوق الفوري الذي انخفض بدرجة أكبر، والنتيجة صدمة كبيرة وخيبة أكبر بتراجع قيمة صادرات مصر في الشهور الأخيرة، وقد سجلت في أبريل الماضي انخفاضا بنسبة ٧٥.٦ % وفقا لبيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء.