د. أحمد الخميسي يكتب عن “أبطال في صمت”: حكايات النضال في ثورة 19.. وجــوه ثـائــرة (كراسات التحالف)
عام 1918 أصبح توماس راسل حكمدار القاهرة أي رئيس جهاز الشرطة الذي تحكم فيه الانجليز حينذاك. وكان ذلك الانجليزي المرموق يهبط من بيته وسط البلد أيام الإجازات قاصدا نادي الجزيرة الرياضي، يخترق شوارع القاهرة لكن على جمل بين دهشة المارة ونظراتهم المتعجبة.
كان الجمل المسمى “أبو رصاص” يرجع بتوماس راسل إلى البيت من دون أي توجيه، يعبر به أمام فندق “سوفاتيل” وينحرف إلى شارع قصر النيل ومنه إلى مبنى البنك الأهلي ثم يستدير يمينا ويتوقف أمام بيت راسل فيهبط الحكمدار الانجليزي ينفض التراب عن ردائه ويصعد إلى بيته ! قضى راسل في مصر 44 عاما متصلة في جهاز الشرطة، وفي عام 1949 نشر في لندن كتابه “في الخدمة المصرية”.
يقول توماس راسل في مذكراته: “مررت بكل مديرية في مصر بجولاتي كمفتش.. وعملت في جميع نقاط الشرطة من أسوان إلى الاسكندرية”. وكان راسل شاهدا على ثورة 19 التي تفجرت بعد قرار الاحتلال الانجليزي نفي سعد زغلول ورفاقه إلى مالطا. ويصف راسل بصفته المسئول عن الأمن حينذاك يوم 17 مارس 1919، بأنه كان: “واحدا من أسوأ أيام حياتي في القاهرة”، إذ عجزت فيه الشرطة البريطانية والمصرية عن اخماد المظاهرات الشعبية التي تطالب بالاستقلال والحرية.
ولا يمكن بطبيعة الحال أن نتهم راسل بالانحياز الى الثورة وهو الذي عدها نوعا من الفوضى والتخريب، ومن هنا تكتسب شهادته قيمتها، فهي آخر ما يمكن وصفه بالتحيز. ويقول في وصف الأحداث: “كانت الأمور تسير بصورة سيئة خارج القاهرة، لقد وزعت منشورات الطلبة من القاهرة إلى جميع أنحاء البلاد لتنشر قصصا غير صحيحة بالمرة حول إطلاق القوات البريطانية الرصاص على الناس في العاصمة.. وتلا ذلك قيام الثوار بنشر الفوضى وكسر خطوط السكة الحديد وتخريب الممتلكات العامة.. وجرت في الصعيد عدة عمليات اغتيال لانجليز يستقلون القطارات.. وتم تدمير جميع خطوط الهاتف والتليغراف في الوجه القبلي حتى الأقصر جنوبا.
ويقول توماس راسل إنه وجد نفسه في وسط مظاهرة كانت مكونة من آلاف من أعنف العناصر في القاهرة، وكل منهم مسلح بشيء، فالبعض يحمل السكاكين، وهناك من يحملون اللافتات، والأزاميل، وجذوع الأشجار، والسقالات وغيرها، أما هؤلاء الذين لم يحملوا أسلحة فقد كانوا يحملون أسياخا منزوعة من الأسيجة الحديدية المحيطة بشجر الشوارع.. وكان كثير من الجموع لا يخرج صوتا من فمه سوى شهيق وزئير يجعل صدور البعض غارقة في اللعاب”.
ويحكي توماس راسل حكاية أخرى فيقول: “إنني أتذكر أن ديك ويلسلي مفتش الداخلية كان يتحاور بشأن الأمر مع شيخ مسن في المنوفية، وكان ويلسلي في انجلترا خلال الثورة، وعندما عاد سأل الرجل المسن كيف تصرفت قريته خلال الاضطرابات، فرفع الشيخ يده إلى السماء مقسما بالله أن أحدا من بلدته لم يتحرك أو يترك عمله مثلما حدث في القرى الأخرى.. لكن ويلسلي استمر في الضغط على الرجل العجوز حتى اعترف بعد وعد بالكتمان من يلسلي بأن القرية بأكملها أصابها الجنون وأنه جن مثل أهلها خلال الثورة لدرجة أنه خلع عباءته وأخذ يرقص فوق إحدى العربات بميدان القرية الرئيسي”.
وفي كتابه “سعد زغلول” يقول عباس العقاد عن الذين ماتوا في ثورة 19 فقط لكي يظل علم مصر مرفوعا: “ومات أناس يحملون العلم أنفا من الفرار أمام نيران المدافع وهم عزل من السلاح، ويرى إخوانهم مصرعهم فيبادرون إلى رفع العلم ليستقبلوا مصرعا كمصرعهم طائعين متنافسين في لحظة قد يطيقون فيها رؤية الجثث المطروحة ولا يطيقون رؤية العلم ملقى على التراب”.
الآن لا يسعنا بالطبع أن نستعيد صورة الرجل العجوز الذي جن من الفرحة لقيام الثورة، فخلع عباءته وقام يرقص على عربة في ميدان القرية، ولا يسعنا أن نستحضر وجوه الآلاف الذين خرجوا يطلبون الحرية وكل منهم مسلح بشيء، ولا يخرج من صدورهم سوى شهيق وزئير يرتج له الأفق، لا يسعنا أن نرى بدقة وجها واحدا من اولئك الذين رفضوا أن يهربوا من نيران المدافع ووقفوا يرفعون العلم، فيسقطون قتلى، فيتقدم آخرون ويرفعون العلم.
لا يسعنا الآن أن نستحضر وجها واحدا من تلك الوجوه البطلة، لكن لفح أنفاس اولئك الأبطال مازال يسري في الجو، ويصل إلينا، ومازلنا نشعر بوهج تلك العاطفة التي قادت الناس وتقودهم إلى تقديس الحرية. إنهم آلاف الأبطال الذين لا نعرف أسماءهم، ولا نتخيل وجوههم، لكنهم حاضرون بقوة في الهواء حولنا. هذا شعبنا البطل، الذي نفتخر أننا ننتسب إليه.
حول المقال:
المقال ضمن سلسلة “كراسات التحالف” للأدبيات الإليكترونية الصادرة عن حزب التحالف الشعبي الاشتراكي، والتي تحتوي على مقالات أدبية وسياسية بقلم الكاتب الدكتور أحمد الخميسي.
و”كراسات التحالف” هي سلسلة من الأدبيات الإلكترونية، تصدر عن حزب التحالف الشعبي الاشتراكي.
وتحتوي نسخة “كراسات التحالف” الحالية على بروفايلات ورسائل شكر وتقدير لعدد من السياسيين والفاعلين في المجتمع وآخرين فارقوا الحياة بعد نضالهم من أجل حياة أفضل.
وشملت الكراسات بروفايلات عن الشهيدة الراحلة شيماء الصباغ، والتي استشهدت بالقرب من ميدان التحرير في الذكرى الرابعة للثورة عام 2015 أثناء إحياء حزب التحالف الشعبي وقفة بالشموع والورود.
أيضا شملت الكراسة بروفايل عن “طبيب الغلابة” الراحل الدكتور محمد مشالي، وأيضا الدكتورة منى مينا عضو مجلس نقابة الأطباء سابقا لدورها الكبير في مواجهة فيروس كورونا والتوعية بمخاطر العدوى، والدكتور الكبير محمد غنيم.