د. أحمد الخميسي يكتب: المجلات الثقافية المصرية.. الرسالة والأزمة
في 23 فبراير 1953 توقفت عن الصدور واحدة من أهم المجلات الثقافية في تاريخ العالم العربي وهي ” الرسالة” بعد نحو عشرين عاما من الصدور المنتظم، وكان مؤسسها ورئيس تحريرها أحمد حسن الزيات صاحب الاسهام الفكري المهم بعدد من الكتب منها ” تاريخ الأدب العربي”، و” في أصول الأدب” وغيرهما، وكانت المجلة تضم مقالات وقصائد كبار الأقلام المصرية والعربية وكانت تشجع الأدباء من الشباب الواعد ومنهم نجيب محفوظ الذي نشر فيها حينذاك واحدة من قصصه المبكرة تحت عنوان ” ثمن الزوجة”.
وحين توقفت المجلة عن الصدور كتب الزيات افتتاحية العدد الأخير بعنوان “الرسالة تحتجب” يقول فيها: “فى الوقت الذى كانت (الرسالة) تنتظر فيه أن يحتفل أصدقاؤها وقراؤها، وأولياء الثقافة والصحافة فى وادى النيل، وزعماء الأدب والعلم فى أقطار الشرق، بانقضاء عشرين سنة من عمرها المبارك المثمر.. تسقط (الرسالة) فى ميدان الجهاد الثقافى صريعة بعد أن انكسر فى يدها آخر سلاح”، أما السلاح الذي قصده الزيات فكان الضائقة المالية بعد أن أوقفت وزارة المعارف اشتراكها في المجلة بشراء خمسمئة نسخة. ولذلك كتب الزيات يقول:” إنما التبعة فى خذلان الرسالة والثقافة على الحكومة بوجه أعم، وعلى وزارة المعارف بوجه أخص”.
وفي حينه – حسب رواية د. نعمات فؤاد أن على أمين علق على توقف المجلة بقوله:” لو أن الحكومة أغلقت سفارتها في الشرق وأبقت على الرسالة لكان خيرًا لها وأجدى على الشرق”، لأنها كانت منارة ثقافية تضيء في العالم العربي كله، وينتظرها القراء في كل قطر، بفضل ما تحتوي عليه من تراجم وشعر وهموم ثقافية حقيقية، مكنت لتأثيرها الضخم في تاريخ الحركة الثقافية. في حينه أدت الأزمة المالية وحدها لاغلاق أهم مجلة في العالم العربي، أما الآن فإن المجلات الثقافية المصرية تعاني من أزمة ثلاثية الأبعاد اقتصادية وفنية وتكنولوجية، تكاد أن تعصف بوجودها، فمن الناحية المالية تعاني المجلات المحدودة التي تصدر من ضعف الميزانية المرصودة والتي تمنح المساهمين فيها ملاليم عن مساهماتهم أيا كان نوعها، وتعاني أيضا من قلة عدد النسخ المطبوعة التي لا تتجاوز في المتوسط ثلاثة آلاف نسخة، وأيضا من سوء التوزيع الذي لا يمنح الباعة نسبة مغرية من بيع المجلات ومن ثم لا يهتمون بعرضها.
من ناحية أخرى فإن معظم المسئولين عن المجلات الحكومية موظفون في الأساس وليسوا أدباء كما كان الحال مع أحمد حسن الزيات، وأخيرا فإن واقع انتقال الكلمة إلى العصر الرقمي يضعف تأثير تلك المجلات. ومع أن المجلات الثقافية بدأت في الظهور منذ نهاية القرن التاسع عشر ومنها ” الهلال” إلا أن الأثر الكبير للمجلات الآن يتضاءل شيئا فشيئا بسبب ضعف الميزانية والمسئولين والتغيرات العلمية. ويصدر في مصر عدد قليل من المجلات مقارنة بتعداد شعبها الذي بلغ مئة مليون نسمة.
وتصدر الهيئات الحكومية سبع مجلات هي ” فصول”، و” ابداع”، و”عالم الكتاب”، و” فنون”، و” الفكر المعاصر” ثم ” الهلال”، ومعظمها إما عديمة التأثير من الأساس أو أنها تعاني من عدم انتظامها في الصدور، أو من هروب الكتاب منها نظرا لضعف الأجور. وفي الوقت نفسه يصدر عن المؤسسات الأهلية عدد من المجلات منها ” ميريت” و” أدب ونقد”، ومجلة ” أماكن” التي توقفت للأسف، بينما يلجأ الشباب الآن إلى انشاء مجلاتهم الخاصة على الشبكة العنكبوتية مثل أمير زكي وموقعه “الترجمان” ومجلة “مرآيا” وغير ذلك من المنصات الثقافية.
ومن بين عناصر الأزمة التي تمسك بخناق المجلات يلوح عنصر أن المجلات الحكومية التي تصدر من وزارة الثقافة تتفادي القضايا الملحة ثقافيا واجتماعيا في ظل سياسة الوزارة الأمنية قبل أن تكون ثقافية.
من ناحية أخرى فإن الثورة الرقمية تهدد وجود المجلات الورقية، وبهذا الصدد تجدر الاشارة إلى أن الباحث أحمد عبد المالك قد حصل على درجة الدكتوراه عن رسالة له بعنوان ” مستقبل المجلات الثقافية العربية في ضوء التغيرات الاجتماعية والتكنولوجية”. أظن أننا بحاجة إلى وقفة نسعف فيها تلك المجلات باشتراكات وزارة التربية ومكتبات المدارس وغيرها، لكي لا نقول يوما إن المجلات الثقافية : ” سقطت في ميدان الجهاد الثقافي صريعة بعد أن انكسر في يدها آخر سلاح”، ورحم الله أحمد حسن الزيات بقدر ما أعطى وبذل من أجل الرسالة..