جمال عبدالقادر يكتب: بعد بيع التراث.. اللعب في الذاكرة البصرية
لم ننس ما حدث من جريمة بيع التراث الفني وأرشيفنا السينمائي، جريمة كشفت ما بنا من فساد وانحطاط، عندما تكون السبوبة والمادة أهم من التاريخ، عندما يتم تكريم من ساعدت في بيع التاريخ ونسبه لأخرين مقابل المال، نكون في قاع الانحطاط ولا امل في العودة، قد يظن البعض أن بيع التراث كان الغاية والهدف، من اجل الحفاظ عليه او عرضه على قنوات تحتاج لمادة تملء البث الممتد لساعات كما قيل وقتها، وهو امر غير صحيح، البيع كان الخطوة الأولى وتمت بنجاح، الخطوة الثانية هي العبث بالتراث والتعديل والقص كما يشاءون، ثم نسبه للمالك الجديد ولا عزاء لمن باع وفرُط.
المتابع لأفلام الأبيض والأسود سوف يجد تغيرا في عدد كبير منها، بالحذف والتعديل، واحيانا إعادة المونتاج للنهاية أو المقدمة، الأمر تعدى فكرة حذف قبلة او مشهد حميمي إلى العبث في المحتوى بالكامل ودون مبرر سوى اللعب في الذاكرة البصرية للجمهور، بإلغاء ما كان موجود وإستبداله بالجديد مع سحب كل النسخ القديمة من كل القنوات المصرية واليوتيوب والتكرم بإهداء القنوات المصرية نسخه جديدة مُعدلة.
منذ أيام شاهدت نسخة فيلم “يوم من عُمري” لـ عبد الحليم حافظ و زبيدة ثروت والإخراج لـ عاطف سالم، ومع بداية الفيلم ظهرلوجو القناة المالكة لتراثنا بعد شراؤه، لاحظت تغير في تتر الفيلم الذي أحفظه عن ظهر قلب، تابعت الفيلم للنهاية وجدت مشاهد تنتهي قبل نهايتها المعروفة ومشاهد تبدا بعد جملة او اثنين من البداية المعروفة لنا وهو امر وجدته في كثير من الافلام التي تم شراؤها، ولكن تغير التتر كان المرة الأولى التي أشاهده، بحثت على نسخه للفيلم على اليوتيوب لم أجد سوى نفس النسخه المُعدلة !! لجأت لصديق لديه مكتبة افلام كبيرة ارسل نسخة الفيلم و تأكدت من ظني، تم تغيير التتر الذي كان يظهر فيه ميدان رمسيس ليلا وفي منتصفه يقف تمثال رمسيس شامخا وامامه النافورة القديمة والاضاءة التي تُحيط به، تم إستبدال هذا التتر بشاشة سوداء قاتمة تظهر عليها الأسماء مع اغنية يوم من عمري !! ما السبب في تغيير التتر هل هناك مشهد حميمي أو قبلة لم نلاحظها طوال سنوات عمرنا ولاحظها المالك الجديد لتاريخنا، ام العبث فيما يملكه وتغيير الذاكرة البصرية للجمهور؟ مع العلم ان نسخة الفيلم جيدة جدا، إن كانت حالة فردية كنا اعتقدنا ان هناك عيب تقني وجب معه التغيير لكن مع تكرار العبث يصبح الأمر متعمدا، لعمل محتوى جديد يناسب هدفهم ومختلف عن ما عشنا معه سنوات، محتوى يظهر للاجيال الجديدة ويحفظوه مع لوجو المالك الجديد للتاريخ.
في نسخة فيلم “الإرهاب والكباب” تم تغيير نهاية الفيلم بدلا من ثبات الشاشة على ابتسامة البطل بعد ما قام به من تنفيسة او التعبير عن غضب بداخل الجميع ثم الخروج في حماية الناس، اصبح الفيلم ينتهي على نظرة قلق من المواطن يقابلها نظرة تحفز من وزير الداخلية !! تغير كبير في مورال الفيلم عكس ما صنع وأبدع وحيد حامد وشريف عرفه.
السؤال الذي يطرح نفسه هل من حقهم العبث بالتراث وتغيير محتواه ؟ بالتأكيد لا ولكن لن يستطيع أحد الإعتراض والرفض خوفا من غضب المعز او طمعا في ذهبه.
بعد مرور سنوات طويلة أربعون أو خمسون عاماـ ماذا لوسألتنا الأجيال جديدة عن مالك هذا التاريخ والتراث، واين ما صنعناه ونتغنى به ليل نهار؟ هل نخبرهم انهم مالكوا هذا التراث والتاريخ، ماذا لو أدعى المالك الجديد ان هذا التاريخ هو من صنعه ونحن لم نكن إلا ادوات لصناعته تحت إشرافه و توجيهاته؟
نخبرهم انهم اصحاب التاريخ الحقيقيون والدليل اللوجود الذي يتصدر كل الافلام، ام نخبر احفادنا اننا سفلة واندال بعنا تاريخنا وتراثنا مقابل حفنة من الدولارات، فرُطنا فيما لا نملك، ولم نترك لهم سوى عار البيع والتفريط، حتى ثمن الخيانة والبيع لم نتركه لهم ! المبرر الساذج الذي نعزي به أنفسنا ونردده كل يوم بلا خجل “بأن الفن بلا جنسية وانه يكفينا فخرا ان فننا يتم الاحتفال به يوميا ويُعرض امامنا ولبس مهما أين يُعرض ” هو مبرر ساذج ولا يصدقه أي عاقل لديه بواقي ضمير، إن كان الأمر هكذا لما لم تعرض على قنواتنا وظلت ملكيته لدينا.
هذه الأجيال سوف تلعنكم فردا فردا، عندما يعلموا بالحقيقة، حقيقة من باع وفرط وحقيقة من توسط وسمسر، حقيقة التاريخ الذي نتغنى به كل ثانية ومع أول فرصة بعنا وقبضنا الثمن، إن كان لدى أيا منكم بواقي ضمير وإنتماء لهذا البلد واحترام للأجيال القادمة وللتاريخ الذي لم نحافظ عليه، حاولوا إسترجاع ما تم سرقته، حاولوا الحفاظ عليه دون عبث وتغيير، الامر لا يحتاج سوى إرادة وضمير، لا يحتاج سوى قانون يصدر ومسئول ينفذ
وفي النهاية لا يسعني سوى طلب الرحمة والمغفرة لروح الغالي المحترم الدكتور محمد كامل القليوبي الذي تكلم وحارب وحده من اجل إفساد الصفقة القذرة لكنه لم يستطع.