أحمد سعد يكتب: “بص العصفورة”.. التريندات ليست إلهاء فالذهب يُمتحن بالنار
“بص العصفورة”.. وحينما ينصرف نظرك إليها سأفعل ما أريد، سأدفعك لتسقط ثم أشير إليك وأضحك أنا وأصحابي، أو سأسرق حافظة نقودك، أو سأختطف هاتفك وأعدو.. لقد زال عنك انتباهك ووقعت ضحية أقدم خدعة في التاريخ.
الفخ الأقدم هو ربما، وفي نظر البعض ما زال الأمر مُجديًا لم يفقد بريقه، فإلى الآن يظل البعض يلتفت إلى “العصفورة” تاركًا ما قد يتعرض له بسبب تلك الالتفاتة.. ما الذي يجذب الإنسان إلى “عصفور”؟ هل هو طائر نادر؟ هل حياته البسيطة البعيدة عن التعقيدات هي سر جاذبيته؟ هل جمال ألوان جناحيه أم الوداعة في عينيه؟.. أو ربما لا شيء من ذلك، فقد تكون العصفورة مجرد “دلالة” على سهولة الانقياد إلى قضايا هامشية مهما كانت سذاجتها وانعدام أهميتها.
لكن في القرن ٢١، وفي ضوء ثورة الاتصالات وشبكات المعلومات الدولية، في عصر الإعلام الموازي و”السوشيال ميديا” هل مازالت “العصفورة” تحافظ حقًا على دلالتها الفارغة من أي مضمون أو محتوى؟.
“لا تنشغلوا بغير القضايا المصيرية”، هكذا يهتف البعض مع كل قضية قد تُثار فتشغل الرأي العام، لكنهم قد لا يعلمون أن كل القضايا باتت مصيرية.. ففي أوقات “الاضمحلال” لا سبيل للنجاة إلا بأن تصير كل القضايا مهمة حتى أبسطها.
لا يُكتب لدولة أن تخرج من عثرتها إلا بالمناقشات التي تخوضها المجتمعات، ولا يتعرّف المواطنون على هويتهم إلا بالحديث ومقارعة الحُجج.. قد يرى البعض في تلك المجادلات التي يفجرها “التريند” لهيبًا يؤذي.. لكن الذهب لا يُمتحن إلا بالنار.
“مُخطط للإلهاء”، بهذا يصف البعض كثيرًا من القضايا التي تُطرح، وقد يكون في وصفهم بعضُ صواب، فتزامن “التريندات” مع أحداث كبرى أمر مثير للريبة ويبعث على الشكوك.. لكن تلك القضايا -من جهة أخرى- هي طوق النجاة لمجتمع أوشك استمرار الاستبداد أن يفسده.
وإذا افترضنا أن هناك من يخطط لإلهاء المجتمع بـ”تريند” فإنه لن يُعد تجاوزًا إذا ما وصفنا من يُخطط بالحماقة، ذلك أن كل القضايا المطروحة باتت لها زوايا مختلفة للنقاش تثري المجتمع وتضع بنفسها لبنة في الجدار المعرفي للعقل الجمعي، على عكس الهدف الذي أطلقت لأجله بالأساس.
فمن “فتاة سقارة” إلى “سيدات الجزيرة” وما قبلهما وما سيجئ بعدهما، كلها قضايا -حسبما يرى فريق من المتابعين- “إلهائية” عن أمور أخرى تحدث كتصفية شركات القطاع العام على سبيل المثال، لكنها -وإن كانت كذلك- فإنها في الوقت ذاته فتحت نقاشا جادًا في بعض جوانبه حول أمور أخرى قد لا تقل أهمية.
تلك القضايا، التي يحلو للبعض وصفها بـ”العصفورة”، تكاد أن تضع خطوطًا فاصلة بين ما هو “مستهجن مجتمعيا” وما هو “مخالف قانونيًا”.. فقد يكون التصرف مُشينًا في نظر البعض وقد يعرب آخرون عن امتعاضهم من أمرٍ ما لكنهم في الوقت ذاته يرفضون مد مظلة السلطة على حساب القانون، يتساءلون عن الاتهامات وعن التوصيف القانوني وعن الدفوع وعن طبيعة الجُرم إن كان جُرمًا.
كل “عصفورة” تفتح بيدها بابًا كبيرًا للنقاش حول الحريات الشخصية وحول كيفية ممارستها، تفتح بابا للحديث عن ما يجوز “قانونًا” وما لا يجوز، حتى ولو كان الفعل في حد ذاته ملفوظًا.. أصبح لدى قطاع كبير من المواطنين إيمانٌ بأن ما يخالف قناعاتهم لا يكون بالضرورة “مُجرّمًا”.. وأنه ليس بالضرورة أن يُحاسب إنسان على فعل ما لمجرد أنني كرهته ورفضته.
لكن النقاش الأهم الذي يثيره أي “تريند” هو “الهدف من التريند”.. فمع كل قضية مفتعلة تتم إثارتها -كما يرى فريق- يتصدى عدد من المهتمين لتذكير الناس بقضية أهم قد ينشغلون عنها، يشككون في “تفجر التريند” بهذه الصورة وهذه الكيفية في هذا التوقيت، فيحققون بذلك قدرًا من التوازن، ويحافظون على قضايا رئيسية يجب أن تظل ملء السمع والبصر.
في نظري، فإن “التريند/العصفورة” تحقق المطلوب منها توعويًا على المدى البعيد، فإن كانت هي قضايا أفرزها المجتمع بنفسه فإنه أمر جيد أن يناقش المجتمع قضاياه ليصل إلى الصيغة الأفضل لضوابطه الحاكمة لتصرفاته.. وأما إن كانت هذه القضايا “محض خطة” لإثارة البلبلة داخل الرأي العام وتشتيت نظره فإنها ولا شك خطة فاشلة يجب أن يُحاسب من وضعها ليس بتهمة التآمر على الشعب ولكن بتهمة الغباء وإهدار الموارد على خطة ليس لها دراسة.
لو أن شخصا قال لك “بص العصفورة” فافتح ناظريك عن آخرهما وانظر.. لن تخسر شيئا وإنما ستفوز.. لأنك حينها سوف ترى أشياء لم يكلف هو نفسه عناء تأملها.