أحمد سعد يكتب: أعظم ما خلق الله.. عن حق الإنسان وإحياء النفوس
كان غريبًا عليّ أن أتحول عن “الإنسان”، أن أبتعد بعيني قليلا، وأمد بصري إلى ما يليه، أنظر في قصة الخلق، فأعيد بناء التصورات والأفكار.. مازلت أؤمن بالإنسان كأحد أعظم مخلوقات الإله، لكنني لم أعد أراه “الأعظم”، هناك ما هو أعظم، على الأقل من وجهة نظري.
كشخصٍ يوقن في وجود خالقٍ لهذا الكون، أؤمن أن الله أبدع كل شئ خلقه، السماوات والأرض، الأكوان والأزمان، القوانين العميقة والموازين الدقيقة.. لكن الذي يثير انتباهي هو إبداع “القيم والمبادئ”، ربما لأنها نابعة من ذاته الإلهية.
هذا الإله العظيم السرمدي، الأبدي، المتربع على عرش الجلال، المُبدع في كل ما خلق، أبدع “القيم والمبادئ”، خلقها من عدم، أنشأها من لا وجود.. فالله العدل خلق العدل وأمر بالقسط، والله الحق خلق الحق وأمر بقوله، والله الرحيم خلق الرحمة وأمر بالتراحم.. كل تلك القيم غير الملموسة كانت بحاجة إلى من يُجسدها؛ إلى من يختارها ويحارب من أجلها.
في رأيي، فإن المقارنة أو المقاربة بين “الملاك/الإنسان”، هي محض عبث، ذلك أن الملاك على إجلالنا وتوقيرنا لعِظم شأنه فإنه لم يختبر تلك “القيم”، لم يعرف غير الخير وغير الحق وغير العدل، لم ير إلا الرحمة ولم يتعامل بسواها حتى مع الإنسان لذا يُشفق عليه، أما الإنسان فقد تجرع مرارة كل الأضداد، ذاق الظلم فآمن بالعدل، تجرع القسوة فعرف معنى الرحمة، كره الغرور فأعلى شأن التواضع.. عرف الخير والشر وعليه أن يختار أحدهما.
الخيرُ طريقُ الله، لكن ذاك الطريق لا يُنتهج إلا بـ”القيم والمبادئ” التي خلقها الله.. ليختارها بنفسه لنفسه، يُصدقها ويؤمن بها فيهتدي سُبل الرشاد.. تلك القيم لم يكن لها أن تكتمل إلا بـ”الحرية”.. فعلى الحرية جُبِل الإنسان وخُلق، عن يمينه الخير، وعن يساره الشر، وله بين هذا وذاك الاختيار.
إن الحرية هي المكُون الرئيس للامتحان الإنساني، وهي في ذاتها الدافع نحو القيمة والمبدأ، فلا يكون اختيار الخير إلا باختبار الشر، ولا يعلو الحب إلا بوجود الكره، لا صعود في انعدام الهبوط.. وبضدها تُعرف الأشياء.
تكتمل قيمة “الاختيار” بـ “الإحياء”، أي الحفاظ على حياة الناس، وإن من القرآن آية يقول الله فيها {من قتل نفسًا بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا}.. لتشديد التحريم هنا معناه الذي لا يجب تجاوزه.
في الإسلام والمسيحية واليهودية، وكل الفلسفات الدينية منذ بدء الخليقة، ليس الموت سوى مرحلة، فاصلة منقوطة في منتصف السطر، لكن التحريم الإلهي المستمر والمشدد منذ قابيل وهابيل، والذي جَعل القتل من كبائر الأمور على تلك الصورة ربما كان له -بالإضافة إلى الظلم الذي هو ضد كل المبادئ وبالإضافة إلى اغتيال حق برئ في الحياة- دلالة أخرى تضيف إلى تجريمه بُعدًا آخر.
في اعتقادي فإن تلك الدلالة هي اغتيال الحق في “حرية الاختيار”، نعم حرية الاختيار، فإذا كان الإله قد أقام الاختبار على الاختيار، فمن دونه يحرّم ذلك “الاختيار” على الناس؟! من له الحق في أن يقتل البحث عن “القيمة” ويودي بالباحث عنها حتى وإن أخطأ في بعض اختياراته؟!
إن “القتل” ليس سوى القضاء على حرية إنسان في الاختيار، ليس سوى حُكم مُسبقٌ ممن لا يملك حق الحُكم، ليس سوى مقصلةٌ تقطع عنق “المبادئ والقيم” وليس الإنسان وحده.
وإن المنع من الحرية لهو قرينُ القتل، رفيق دربه، وشريكه في الجُرم.. فكل من يمنع حُرًا، قاتل.. وكل من يقصف قلمًا، قاتل.. وكل من يحرق فكرًا، قاتل.
جعل الله “الحرية” -بكل أشكالها وألوانها ودرجاتها- قوام “الاختبار” وأصل البحث عن “المبادئ والقيم”، جعلها اللهُ حقًا لكل إنسان، فمن ذا الذي ينازع الله في ملكه ويحرّم أمرًا أقامه؟!