محمد عيسى يكتب: هي نور في كل مكان (3)

كانت عودة نور لدراستها من جديد مُحاطة بكثير من الكواليس الكاشفة لحجم المعاناة التي تجشمتها نور ومدى إصرارها على دخول الجامعة في مصر بعد أن حُرمت من دخولها في سوريا، ومن هذه الكواليس أنها قامت بفسخ خِطبتها من أحد أفراد عائلتها التي نالت من أفرادها سيل من اللعنات لمجرد أنها قررت أن تبدأ في دراستها الجامعية بعد أن كانت الفتاة المُطيعة المُدللة لهم، في الوقت نفسه التي كانت الأوضاع تتأجج في سوريا يوم بعد يومٍ، وهذا الأمر الذي جعلني أتهكم عليهم في إحدى المرات التي كان تحكي فيها نور ليّ عما تتعرض له من مضايقات وأقول لها “هم التافهين دول في ايه ولا في ايه.. مايتنيلوا يخليهم في اللي هم فيه”.

كان والد نور وقتها هو الوحيد الذي لم تلبث جذوة غضبه أن انطفئت بعد فترة ليست بالطويلة، ربما بفعل توسلات نور التي كانت تطارده بها في كل وقتٍ وحين، وربما بفعل الأحداث في سوريا التي أضفت على شخصيته نزعة صوفية، وربما نتيجة مراجعته لنفسه وإعادة تقيمه لوضع نور من جديد، وربما لاحترامه إصرار ابنته على الحصول على شهادة جامعية.

أياً كان السبب المهم أنه بعد أن كان يُشاطر أفراد عائلته التهكم على ابنته الوحيدة، أصبح المُشجع والمُحفزالوحيد لها على استكمال دراستها، ليس فقط بالكلام وبالدخول في مشادات كلامية مع من يريد أن يؤلبه عليها من أخوتها أو أبناء عمومتها، ولكن بتدبيره مصاريف دراستها التي كان الله وحده هو الذي يعلم كيف كان يقوم بتدبيرها، وكيف كان يضغط على نفسه حتى يستطيع تدبيرها، فنور نفسها لم تكن تعلم كيف كان يقوم بتدبيرها، بل وكيف كان يقوم بتدبير مصاريفهما المعيشية في مصر من إيجار للمنزل فضلاً عن مصاريف الطعام والشراب، وهذا لا يعني أن نور كانت (مِكّبرة رأسها) تاركة له مهمة مصاريفهما الحياتية، فهي الأخرى كانت تضغط على نفسها بشتى الطرق حتى يتسنى لها الاستمرارفي الحياة واستكمال دراستها الجامعية، والعبد لله كان شاهداً على ذلك، وشهادتي هذه لم تأتِ من حكي نور ليّ عن ما كانت تفعله حتى تستطيع أن تذهب للجامعة بصورة يومية، وذلك لأني رأيتها بنفسي كيف كانت تقطع مسافة طويلة تقدر من أربعة لخمسة كيلو بشكل يومي على قدميها في مجيئها ومرواحها تحت وطأة أوار الشمس في أحيان وتحت وطأة البرد القارس في أحيان أخرى، وكيف كانت تضطر أن تترجى وتتوسل لـ(اللي يسوا واللي مايسواش) لكي تستطيع أن تستعير كتاب كي تستذكر دروسها، وكيف كانت تقتر على نفسها حتى تتمكن من شراء كتبها الدراسية، وكيف كانت تبحث في كل وقت وحين عن أي عمل حتى تستطيع مساعدة والدها على تحمل صعوبة حياة الغربة، وكيف كانت تتعرض للعنصرية بشكل مستمر من فتيات قليلات التربية والذوق، وكيف كانت تتعرض للتحرش اللفظي من شباب ليسوا بكل تأكيد أفضل حالاً من هؤلاء الفتيات.

كانت نور حينذاك تؤثر إبتلاع جميع الإهانات التي كانت توجه إليها في صمت، لكي تستطيع تحقيق هدفها بدون أن تحدث أي (شوشرة)، وهذا الأمر كنت أستغربه فيها كثيراً، بل كان يثير التساؤلات في ذهني، كيف من الممكن أن تتحمل كل هذا دون على الأقل أن تصرخ متألمة ومستغيثة؟ كيف كانت تستطيع أن تكتم كل هذه الآلام في صدرها لكي لا تحدث أي جلبة؟ كيف كانت تقترعلى نفسها بهذا الشكل دون أن تطلب أي مساعدة من أحد حتى تستطيع إستكمال دراستها؟

وما كان يمنعني أن أطرح على نور هذه التساؤلات هو خجلي منها، ولكني حين غالبته في إحدى المرات، وسألتها بعد أن رأيتها أثناء ركوبي وسيلة موصلات تمشي ناحية الجامعة في الحر القائظ على قدميها عن مصدر مصاريفها هي ووالدها، وعما إذا كانا يكتنزان أموالاً جاءا بها من سوريا، ردت عليّ وقتها بلهجة عصبية غاضبة: (محمد احنا بإختصار احنا ما معنا مصاري…وارجو ان تغير هذه السيرة) ندمت كثيراً حينذاك بل ولازلت نادماً على قلة ذوقي وسذاجتي، واعتذرت لها عن توجيه هذا السؤال، وعرفت وقتها أن هذا الموضوع خط أحمر بالنسبة لنور، ولا ينبغي أن أتطرق معها للحديث فيه بأي شكل من الأشكال.

كما أنني لا زالت نادماً على سؤالي السخيف الساذج، فإني لن أسامح نفسي أيضاً لأني سمحت لزحمة الحياة أن تُفتر صداقتي بنور بل وتجعلني أقصر في حقها تقصيراً حال دون أن أشد من أزرها حين توفى والدها، ورغم تقصيري هذا معها، كان أخرعهدي بنوررسالة تركتها ليّ عبرموقع التواصل الإجتماعي (الفيسبوك) تقول ليّ فيها بأنها ستعود إلى سوريا، لأنها لم يعد هناك ما يدعوها إلى البقاء في مصر، خاصة بعد وفاة والدها، وأنها فخورة كثيراً بأنها تعرفت عليّ.
للأسف الشديد لم تخولني نور الفرصة بعد إغلاقها لصفحتها على (الفيسبوك) – وسيلة التواصل الوحيدة بيني وبينها حينذاك- بعد إرسالها الرسالة ليّ لكي أعتذر لها عن تقصيري معها أوأحاول أن أقنعها للبقاء في مصر، أو على الأقل أن أقول لها بأنني أنا الفخور بل والمحظوظ لأني تعرفت على فتاة مثلها بنقائها ورقتها وطيبتها وجدعنتها، وأنني أتمنى أن التقي بها مرة أخرى وهي في أفضل حالاً على جميع الأصعدة لأنها تستحق ذلك، لا لأنها فقط مثال للفتاة المُكافحة، ولكن لأنها هي نور في كل مكان.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *